صـَقـيـع الـمَــنـفـى … دفء الـوَطـَن / د. عـبـد القادر حسين ياسين
د. عـبـد القادر حسين ياسين ( الجمعة ) 15/12/2017 م … كان أورهان كمال واحداً من كبار شعراء تركيا، أوائل القرن العشرين. وقد حكم عليه بالسجن بتهمة التحريض ضد نظام أتاتورك. كان معجـباً بــ “معـلم” لا يعرفه عن قرب، هو ناظم حكمت، أشـهـر شعـراء تركيا، الذي يقـضي حكما بالسجـن في مكان آخر، أو بالأحرى يـتـنـقــل من سجن إلى آخر. وذات يوم يفاجئ مدير سجن برصة برهان كمال بالسؤال: “إحزر من سـيـنـضم إليكم هـنا؟ ناظم حكمت”. ذلك الشاعـر العـظيم كان له رقم مسلسل في سجـن برصة، كما نقرأ الآن في مذكرات أورهان كمال. عاش بين مدمني الحشيش ، وأولئك يملأون أوقات الفراغ بالطعـن بالسكاكين. وهادئا، كان يذهب كل يوم إلى مشغـل السجن؛ يحفر في خشبة أو يحيك قطعة قماش. كان يحاول أن يثبت إلى أي مدى يحترم البسطاء، إلى أي مدى يحترم الإنسان. وكان يمتعض من الآيديولوجيين والجدليين. عاش شاعر تركيا في رتابة السجن وعـتومه. وكان السجناء إذا أرادوا الخروج من الرتابة ، والتحدث إلى أي فـرد غـير محكوم، يطلبون موعـداً مع طبيب الأسنان. وكانوا جميعا يرون الضوء من قطعة واحدة في السماء، كما يقول أورهان كمال. أما في الخارج فكانت المرأة التي أحبها، زوجته بيريان هانم. وقد كتبت إليه تشكو من أنها قد لا تملك ثمن الخشب، لوقود المدفأة ذلك الشتاء، وأن ابنتهما مصابة بالسّـل ، ولا تملك كلفة علاجها كما يجب. وعندما تلقى الرسالة قال لأورهان كمال: “في السجن، في هذا السجن، في قاووش العـنـبـر رقم 2، جمعـت ذات مرة أعـقـاب السجائر ، وأمضيت 48 ساعة بلا شيء آكله، سوى كسرات الخبز الجاف، ومع ذلك لم أشعر باليأس الذي يخامرني الآن”. @@@@@@@@@@@@@@@@@@ حين يرد اسم ناظم حكمـت ترد تركيا، إننا غالباً ما نسبق اسمه بالوصف التالي: الشاعـر التركي. ولكن ناظم حكمت أصبح تركـياً منذ سنوات قـلـيـلـة فـقـط. قـبل ذاك لم يكن الشاعـر الذي مات في صـقـيع المنـفـى، بعـد سبعة عـشر عاماً قـضاها في سجون تركـيا، يحمل جـنسية بلاده، حيث كانت السلطات قـد أسقـطـتـهـا عـنه منذ حوالي نصف قـرن. ومضت عـقـود، تعاقـبـت فـيها على تركيا حكومات مخـتـلـفـة ، في ذلك التـناوب الرتـيـب بين حكم العـسكر وحكم المدنـيـيـن، لكن حكومة من هذه الحكومات لم تـتـذكـر ، أن أهـم شاعـر في تركيا في القـرن العشرين قـد نزعـت عـنه جـنسية وطنه. لقد أحب تركيا أكثر مما أحبها كل الذين تعاقبوا على الحكم فيها، طوال حياته ومماته. ومن أجلها قـضى قرابة العـقـدين في سجونها. من يتجـرأ على سجن الشاعـر أو نـفـيه عن وطنه؟ ولكنهم يفعـلون..
في شغـب الشاعـر وجماله أمر مقـلق. ورغم أن الشاعـر يسكن عادة في المخـيـلـة، لكن مخـيـلة الشاعـر مقـلـقـة لأنها تـنـشـأ على ضفاف الحـلم. والحـلـم، كما الشعـر، ممنوع حين يعـم الظلام. في شهادةٍ لزوجـتـه، قالت . “إن ناظم حكمت كان يصحـو كل صباح ، ليذهـب راجلاً إلى مبنى البريـد ، تسقـطاً للـرسائـل المـقـبـلة من الوطـن البعـيـد تحمـل أخـباره. وكانـت تلك الأخبار زاداً وملهـماً ، وباعـثة على الدفء في برد الـروح الذي يجـتاح المنـفى. ” وفي صباح أحد أيام صيف عام 1963 ، خرج إلى مشواره اليومي نحو البريد، لكنه لم يعد. لقد سقـط ميـتـاً في الشارع وهـو في الطريق متلهـفاً إلى رسائل الوطن.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@
بين الشعـراء وصندوق البـريد علاقـة قـدرية. أذكر تـلـك المشاهـد المعـبـرة في فـيـلم “ساعـي الـبـريـد”، الذي يروي جانباً من حياة الشاعـر التشيلي بابـلـو نـيـرودا في المنـفى بإيطاليا.
كان الشاب الغـرّ، ساعي البريد ، يحمل في كل صباح، رزمة من الرسائل إلى الشاعـر الكبير ، ترده من قـرائه وقارئاته من الوطن البعـيـد ، حـيـث أدرك الشاب أن مـن يحمل إليه البريد يومياً ، هو شاعـر كـبـيـر وحائز على جـائزة نوبل أيـضاً … رجاه أن يعـلـمه الشعـر. قال له : ” أريد أن أصبح شاعـراً”، وحين سأله نـيـرودا عـن السـبـب، أجاب : “لأنني أحـب فـتـاة جـمـيـلـة، وأريد أن أكتـب لها شعـراً…” وكان رد نـيـرودا بسـيـطاً ومـعـبراً ومكـثـفـاً: “إن الحـب هـو قـصـيـدة شـعــر...!” |
التعليقات مغلقة.