اغتيال الفن بالتأويل الجاف للدين / واسيني الأعرج

 

  واسيني الأعرج ( الأربعاء ) 8/4/2015 م …

شيء لا يصدق. العربي في وضع لا يحسد عليه اليوم. يجفف يوميا حتى يصبح جذعا يابسا، بلا شجرة ولا أرض ينبت فيها. لقد أصبح مخبرا للموت وفأر تجارب، في ظل خراب معمم سيدته العدمية والتدمير المستشري.

الإنسان في بلداننا العربية يُقتَلُ مرتين، عندما يُقتل جسديا، وعندما تُسرق منه كل إمكانية للأمل وتأمل الحياة في عزها وفي عنفوانها على الرغم من قسوتها عليه. لا تُترك أمامه أية إمكانية لتصور عالم أفضل من خلال الفنون التي تُحارَب بكل أشكال العنف. لا غرابة في ذلك، فعندما تصبح المدن بكل اتساعها، بين أيدي القتلة، تنسحب الحياة من تلقاء نفسها.

حتى الحياة الرمزية الممثلة في الفنون والتاريخ. ما حدث في أفغانستان مع التماثيل البوذية، وتدمير قرون من الحضارة الإنسانية، بتواطؤ صمت عالمي مفضوح، يدعو إلى التساؤل العميق عن وجهة العرب والمسلمين في عالم لا يرحم من التخلف عن ركب الحضارة. وما حدث أيضا، قبل سنوات، من نهب لمتحف بغداد التاريخي على مرأى من الجيش الأمريكي الذي وقف يتأمل المشهد بعد أن فجر الأبواب التاريخية، فاتحا المجال على اتساعه، لنهبت محتوياته عن آخرها، هذا كله يتجاوز معيار الجريمة العادية ويقود الجناة باتجاه المسؤولية الحضارية.

ما حدث في تيمبوكتو من تدمير للمدينة العريقة والعتيقة، ومحو آثارها التاريخية وإتلاف مكتباتها، ونهب مخطوطاتها أو حرقها، ومحو أي أثر للإنسان المتعدد ثقافيا، والاحتفاظ فقط بصورة واحدة هي في النهاية تفقير لبلد فقير ماديا، أصلا مثل مالي، متعدد دينيا وإثنيا وحتى طقوسيا. ما حدث في متحف الموصل الذي أسس في 1952، من تدمير لحضارة نينوى التاريخية، ولقرون من الجهود الإنسانية الآشورية، هو قمة ما يمكن أن يصل إليه العبث والتلاشي والعداوة ضد الذات والهوية التي هي مكون تاريخي اشتركت فيه الحضارات المتعاقبة.

إن تنظيم داعش سرق متحف الموصل كليا، الذي كان يضم الحضارة الآشورية والمدنية، والإسلامية. قد طالت السرقة معروضاته النفيسة الصغيرة والمخطوطات الأثرية النادرة لتهريبها وبيعها بسهولة، وتمويل الأعمال الإرهابية، بينما حطمت التماثيل الضخمة. ما حدث أخيرا وليس آخرا في الباردو بتونس، من قتل وإجرام داخل قاعات المتحف، وفي طوابقه العليا، يطرح علينا السؤال القاسي الذي لا يمكن التهرب منه: بماذا تستفيد هذه الجماعات من تدمير كل ما له علاقة بالفن والحياة وحرية التعبير؟ ما علاقة المسلم بالفن إذن؟ هل هي علاقة تكاملية أم تنافرية؟ الإشكالية ليست بسيطة أبدا إذ تجد بعض مسوغاتها الشكلية على الأقل، في الدين نفسه، مؤولا تأويلا مصلحيا وأيديولوجيا. المسألة مثار جدل فقهي كبير منذ قرون متتالية وإلى اليوم، أي منذ تحطيم الأصنام التي كان ينظر لها كأدوات شرك في ظل التوحيد. هذه الرؤية الضيقة أخذها سدنة الدين الصرف والجاف، في شكلها التبسيطي والخارجي الذي لا يرقى بالرؤية الدينية إلى السمو والاتساع والتخييل أيضا، إذ أن أمر التماثيل لا يذكر دينيا إلا مقرونا بالشرك، بينما ما أنجزته الحضارات الإنسانية خرج من الأصول الدينية والطقوسية وأصبح مسالة جمالية أكثر منها دينية. نحن في عصر آخر، لم يعد لعبدة الأصنام أي وجود، بل أي معنى في النهاية.

فالفن مجرد قناع ينجزه الفنان بحثا عن معنى مبطن للحياة، وكثيرا ما يعتمد على فعل التجريد أو المحاكاة. أي أن الفنان لا يدعي بتصويره أو خلق تمثال أو نموذج تشكيلي مماثل للإنسان، لا يدعي انه يعطيه حياة هي في النهاية من صنع خالقها، ولكن الحياة الرمزية الكامنة في رؤية المشاهد هي انشغال المبدع. الحياة المعطاة والحركة، هي فعل ذهني لأن الصورة تظل صورة، لا أكثر. اعتمادا على منطق المتطرفين، ربما كانت صورة التليفزيون التي يستعملها الإسلاميون بحنكة وحرفية، أكثر تجذرا، وبالتالي أكثر عرضة للرفض والنقد، لأن بها بعض الحياة.

ومع ذلك فهي لا ترفض مطلقا، بل يستعملها «داعش» للدعاية والإرهاب كما لم تستعملها أية قوى أخرى. هناك ازدواجية غريبة في التقييم والحكم الشرعي بين قوسين. لأن الصورة التليفزيونية ببساطة، تخدمهم لتمرير خطابهم على نطاق واسع. نعرف جميعا عدد القنوات المتطرفة التي ظهرت في السنوات الأخيرة. فقد استلذ القتلة بوجودها، ولم يطرحوا فقهيا إشكالية الصورة الحية، بغض النظر عن محمولاتها ومضامينها. ندرك جيدا اليوم، في ظل العصر الذي نعيشه، وتعدد الفنون، واتساع مجالات الحرية، أن الصورة والسينما والتمثال، هي في النهاية  أشكال لحياة افتراضية، وتربية لذوق جمالي ما يزال معطلا عربيا من الناحية الجماهيرية. لهذا ليس غريبا أن نقول إن العالم العربي يسير نحو أوضاع شديدة الخطورة، حيث يتسطح فيها الفرد، ويتم تصنيع إنسان جديد معاد لكل شيء بما في ذلك تاريخه وحضارته ونفسه. ولا شيء في مخه إلا سلسلة من القيم الدينية الجامدة والميتة، يعيد إنتاجها باستمرار. إن الفن منتَج إنساني اشترك فيه الإسلام في عز تطوره ونموه، وليس منجزا غربيا فقط.

فن المنمنمات والنحت والموسيقى والأوبرا لا يمكن أن تكون حكرا على أمة دون غيرها. لا يمكن اليوم قبول أي قاطع طرق صغير، بسهولة، ينصب نفسه أميرا، ويعطي أوامر خطيرة لمسح ذاكرة أمة، وتدمير منجز إنساني عمره يتجاوز الإسلام نفسه تاريخيا، والحضارات المتعاقبة. تحتاج الإنسانية، في ظل هذا التدمير الشامل، إلى قانون صارم يسمح لها بحماية المتاحف، والمنجزات الفنية البشرية التي تزخر بها المنطقة العربية، ولا يُجبر الناس على دفن التحف النادرة والمخطوطات تحت الأرض، خوفا من إتلافها كما حدث في تيمبوكتو بسبب الأوضاع القاسية التي عاشتها تلك المدينة النادرة تاريخيا.

أو على الأقل هيئة عربية وعالمية تعمل بالتنسيق مع المراكز الدولية المتخصصة لتفادي تهريب القطع الفنية النادرة التي تتم اليوم سرقتها بشكل معلن. من يدرينا، أن وراء هذا التدمير لا توجد عقلية تبيع وتشتري في الفنون لتمويل الإرهاب. الأمم الحية تورث منجزها للأجيال الجديدة لربطها بماضيها الكبير وحاضرها المتحرك ولتثبت لها عمليا أنها ليست أمما جاءت من فراغ. تحتفظ بحجارتها وتماثيلها وفنونها لا لعبادتها، ولكن لتنطق بزمن عبر، لكنه ترك وراءه ما يمكن الارتباط به بفخر. الحرب الخفية التي يمارسها أعداء الحضارة الإسلامية هي تجريدها من أي فعل حقيقي، غير مسالك الإنسانية قاطبة.

من هنا، يحتاج الأمر أولا إلى دحض الإيديولوجية العدمية التي تبناها تنظيم «داعش» وأخوته مرتكزة على مقولات دينية عزلتها عن كل سياق. وفسرت النص مثلما شاءت مجففة الدين من أية فاعلية إنسانية ووجودية وجمالية، بالتجائها نحو تأويل يستهدف في النهاية تدمير الميراث الإنساني والإسلامي نفسه، وفي هذا تقدم خدمة جليلة لكل من يريدون اليوم تجريد العربي والمسلم من أي أفق إنساني وبشري.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.