أجرأ وأخطر تحقيق عن تواجد حزب الله في جرود عرسال

 

الأردن العربي – الميادين ( الأربعاء ) 8/4/2015 م …

 

تختلف هذه الزيارة الميدانية عن كل سابقاتها. فعلى عكس ما اعتادت عليه من تغطية للمعارك ونقل الواقع كما هو من الميدان، حلّت “الميادين” هذه المرة ضيفاً في إحدى أصعب جبهات القتال لا لنقل أخبار المعارك، بل لمعايشة حياة مقاتلي حزب الله عن كثب، وذلك للمرة الأولى منذ مشاركتهم في القتال في سوريا.

 
غالبية المقاتلين في ريعان شبابهم لكنهم يمتلكون خبرة عسكرية كبيرة
 
في جرود القلمون تحديداً، على الحدود اللبنانية السورية، لما تمثّل وتلخّص هذه الحرب من عناوين سياسية وبقساوتها العسكرية والمناخية، وعلى بعد مئات الامتار عن الجماعات التكفيرية المسلّحة، كان لنا لقاء مع مقاتلي حزب الله المرابطين على التلال. مقاتلون في ريعان شبابهم، طلاب جامعيون، وذوو اختصاصات متعددة، نذروا حياتهم للدفاع عن قضية مقدّسة. ماذا تمثّل لهم هذه الحرب ولماذا يشاركون فيها؟ كيف يقضون أوقاتهم في تلك البقعة النائية من الارض؟ ما الفرق بين الحرب ضد العدو الاسرائيلي وحربهم مع التكفيري لمن خاض التجربتين…؟ 

إليكم هذا التحقيق على أبواب بدء معركة جديدة مع الجماعات التكفيرية المسلّحة على الحدود اللبنانية السورية، الذي قد يفتقد بعض تفاصيل الوصف المتعلقة بالمقاتلين والمواقع العسكرية. تجدر الاشارة الى ان كل الاسماء الحركية للمقاتلين هي أسماء مستعارة.

يصل ارتفاع الجرود التي زرناها في القلمون على الحدود اللبنانية السورية الى 1850 متراً عن سطح البحر. جرود صخرية وعرة لم تعتد الحياة يوماً منذ نشأتها الجغرافية. تلال شامخة وفارغة، لم يشكّل موقعها ذات أهمية على الخريطة سوى انها تلال جبال القلمون وجرودها الواقعة على السلسلة الشرقية للبنان وسوريا. شاءت الظروف أن تصبح هذه الارض المعزولة والتي لم تطأها قدم انسان، محط أنظار العالم من قبل القوى السياسية الكبرى، بما فيها العدو الاسرائيلي، وذلك منذ اندلاع الازمة في سوريا وحتى اليوم، ووصول الجماعات التكفيرية الى الحدود اللبنانية.

استغرقت الطريق الى النقاط العسكرية بين النصف ساعة وخمسة وأربعين دقيقة من قرى القلمون باتجاه جرود الجبة وعسال الورد، عبر آلية رباعية الدفع. ما لا يعلمه أحد ان المقاتلين انقطعوا ثلاثة أيام عن التواصل في كل الجرود بسبب العاصفة القوية “زينة” منذ أشهر، بعد ان وصل ارتفاع الثلوج فيها الى المترين. غير ان التموين والتحصينات اللازمة لمكافحة فصل الشتاء كانا كفيلين بإبقاء المقاتلين صامدين واعتبار ما جرى لهم بمثابة استراحة المقاتل.  كما ان المقاتلين ارتدوا للمرة الاولى، بزات عسكرية خاصة لفصل الشتاء روسية الصنع، لا يمكن للامطار ولا حتى للهواء خرقها.  ارتفاع الثلوج في مختلف الجرود، دفع قيادة حزب الله إلى استخدام للمرة الاولى في ميدان الحرب ، آلية “سكي دو” وذلك بهدف نقل الطعام والمازوت، واحيانا بعض المقاتلين الذين انتهت مناوبتهم. وفي الطريق الى الجرود، يقول “حمزة” (اسم مستعار)، وهو احد المقاتلين “لم أكن أتخيّل يوماً انني سأقود سكي دو هنا وفي الحرب، شخص متخّصص علّم البعض منّا على القيادة، وأصبح كل واحد فينا يعلّم الآخر..وهدّيهم اذا فيكي للشباب” مبتسماً. يكمل “كاظم” الذي  كان هو  ايضا في المنطقة أثناء العاصفة، “ذهبت الى الموقع، فلم اصدق انني فوق الموقع والاخوة تحتي بعمق مترين يزيلون الثلوج عن باب الدشمة، وسمعت أصواتهم وهم ينشدون أثناء قيامهم بفتح ثغرة في الثلوج…ناديت عليهم فرد الاخوان من تحت الثلوج مازحين: اييه شو فارقة معك يا كاظم مخمن حالك بفاريا!” ويضيف “كاظم” ان “الاخوان اعتبروها استراحة مقاتل لأن العدو لم يستطع آنذاك الاقتراب مترا واحدا من مغاوره المقابلة لنا، كما ان وضعهم كان جيدا لناحية التموين والتدفئة”.

يعرّفنا القائد الميداني “بدر” قبل الوصول الى الجرود، بأن المقاتلين الذين سنقابلهم، غالبيتهم في ريعان شبابهم بين العشرين والخمسة والثلاثين عاما، يمتلكون خبرة عسكرية تدربوا على بعضها في معسكرات حزب الله  وفي الحرب في سوريا. وبعضهم الآخر اكتسبها في جنوب لبنان ضد العدو الاسرائيلي. وكل المقاتلين الشبان هم من “قوات النخبة” اي “فرقة الرضوان” التابعة للشهيد القائد عماد مغنية.  وكل هنا له مهامه العسكرية، بين قناصة ومشاة ورماة مدافع وهندسة وغير ذلك. خاض  القائد “بدر” الحربين ضد العدو الاسرائيلي وضد التكفيريين. “لم نخض مع العدو الاسرائيلي حرب المدن، إلا قليلاً جداً، على عكس سوريا حيث الاحتكاك المباشر والمواجهات من حائط الى حائط. كتجربة شخصية، القتال مع الاسرائيلي وجها لوجه له طريقته الخاصة في المواجهة، نفهم على بعضنا أكثر بالعلم العسكري. التكفيري عدو غبي، لا يوجد معه اي قواعد في اللعبة، رغم ان الاثنين عدوان وكلاهما يريد قتلنا”.

 لا شكّ ان المقاتلين الذين اكتسبوا خبرة قتالية جديدة في حرب المدن على عكس الجيل القديم، لهم مستقبل عسكري مختلف، وهنا يقول “بدر” بكل ثقة واطمئنان، هؤلاء المقاتلون الشبان “هم جيل المقاومة الجديد، سيكونون أقوى منا بكثير لأن خبرتهم عالية ومختلفة. هم مفعمون بالحياة والطاقة..العلم والتطور يلعبان دورهما ايضا في عصرهم. على الارض، نفتخر عندما نشاهد ونلمس قوة كل واحد فيهم، يصعدون الى الجبال ويركضون مسافات طويلة ويخوضون المعارك الشرسة بقوة جسدية عالية”. ويكمل القائد “بدر”: “هم يتماهون مع أرض تختلف عن أرضهم،  من الشمس الحارقة في الصيف الى صقيع الثلوج ودرجات الحرارة المتدنية الى 10 تحت الصفر..كما أن أغلب جيوش العالم لا تستطيع التماهي في هذه الجرود التي يمكن حقاً وصفها بـ”تورا بورا”.

شوكولا وتمر وزبيب.. وابتسامة

يرى مقاتلو حزب الله أن الحرب واحدة على سوريا ولبنان
 
يرى مقاتلو حزب الله أن الحرب واحدة على سوريا ولبنان
 
شيئا فشيئاً نبتعد عن كل مظاهر الحياة، لا بساتين زراعية ولا منازل يقطنها أهلها. شقّت الجرافات خصيصاً طريقا للوصول الى نقاط عسكرية متعددة  مشتركة بين الجيش السوري وحزب الله. قد تكون كلمة جرود هي الكافية والمعبّرة، صخور وحجارة مبعثرة ورمال، آليات مدمرة لـ”جبهة النصرة”  وبعض الكهوف التي وجدت فيها اكياس صنع المواد المتفجرة لصناعة السيارات المفخخة، تلك التي كانت ترسل الى لبنان لاستهداف المدنيين. وصلنا بمشقة الى الموقع المتقدّم المشترك مع الجيش السوري بعد التأمين الناري لنا. خليّة عسكرية منظّمة وفي جهوزية عالية المستوى. آليات عسكرية من مدفعية ورشاشات وغيرها من أنواع الاسلحة لاستهداف المسلحين منتشرة في الموقع، فيما يتوزّع المقاتلون كل في موقعه وفي مهامه. ونكتفي هنا بهذا القدر من الوصف. المقاتلون الذين يرتدون بزات عسكرية صحراوية اللون، يستقبلون ضيوفهم باستغراب، في مكان لم يعتادوا فيه على استضافة أي زائر سوى بلباس عسكري. غير ان الدهشة من ضيوف حلّوا عليهم من دون ميعاد وفي هذا التوقيت، لم تمنعهم من إلقاء التحية  والترحاب باحترام ولباقة. يستقبلنا مسؤول النقطة العسكرية بابتسامة لم تفارق محياه حتى آخر اللقاء ويبدأ بتعريفنا على المقاتلين. يركض مقاتلون آخرون للقيام بواجب الضيافة المتواضعة من الشوكولا والتمر والزبيب إضافة الى المياه، في موقع قد تستغرب فيه كيف لديهم الوقت للقيام بواجب الضيافة. لكنها ميزة لطالما تحلّوا بها في اية ظروف كانت. من الواضح أن علاقة القائد “بدر” بالمقاتلين أكثر من جيدة، الجميع يلقي عليه التحية بحرارة العناق كأنه أب لهم. لاحقا ورداً على سؤال، يجيب “بدر” حول علاقته بالمقاتلين قائلا “هم في ميدان معركة وكمسؤول علي أن أكون دائماً بجانبهم، والمقاتل لديه ظروفه الخاصة أيضاً، وبحاجة الى اهتمام رغم كل شيء، حتى ولو أني مسؤول يجب ان اتصرف معهم كإخوة في جانب معين”، مضيفا “الكلمة الحلوة والاطمئنان يخففان كثيرا، والقائد عليه ان يتمتّع بهذه الصفات والا يتصرف بعجرفة مع احد، وفي اوقات الجد يكون حازما ولا يسمح بالخطأ أبدا”. وهنا يشدّد على  “العلاقة الاخوية التي نشأت مع افراد جنود الجيش السوري، نشأت بيننا علاقة اخوية مبنية على الاحترام المتبادل والثقة والتضحية معا في وجه هؤلاء التكفيريين من جبهة النصرة وداعش”. تتوزعّ دشم عدة يرفرف عليها العلم السوري في هذه البقعة حيث ينام بعض المقاتلين في بعض الخيم، على فرشة عرضها أقل من متر، وتضم اغراضهم الشخصية مع قرآن صغير وكتاب ادعية. كما ان هناك خيمة مخصصة لوضع الطعام والمعلبات والمياه. لا يوجد تلفاز، ويمنع استخدام الهاتف منعا باتا. ينقطع المقاتلون عن كل اخبار ذويهم وما يجري لأكثر من 15 يوماً، كل حسب مهامه ومجريات الميدان. اما الترفيه هنا فهو عبارة عن “التسلية بالتدشيم او التنظيف وبعض الدردشة والمزح بين الاخوة”. وعلى وقع أصوات مدفعية الجيش السوري التي تستهدف المسلحين في جرود  فليطا، تحلّقنا جميعا لشرب الشاي علّه يخفف قليلا من حدة الهواء القوي، وكانت لنا هذه الدردشة مع المقاتلين. “هادي” (34 عاما) متأهل ولديه ولدان، يسأله طفلاه دائما عن سبب غيابه عن المنزل ويعبّران عن اشتياقهما له. هو ايضا يشتاق اليهما “افكر بزوجتي وأولادي واشتاق اليهم، هم دائما يسألون امهم اين يغيب البابا، تقول لهم في العمل، طبيعة الطفل ان يعرف ماذا يعمل والده، كل مرة اقول لهم مهنة معينة”. لكن “اشتياقي لهم هو الذي يقوي عزيمتي في الدفاع عنهم وعن مستقلبهم وعن ارضي وكل اللبنانيين”. تعوّد “هادي” مثل غيره على أرض جديدة، لكن طبيعة الجرود مختلفة عن باقي المعارك. “لا يوجد نوم هنا، واجب نؤديه ونحمي عائلاتنا، ونذهب الى اي مكان يجب ان نكون فيه لحماية أرضنا. نحن قادرون على تخطي كل الظروف الصعبة. الارض اندمجنا معها وظروفها اصعب من اي مكان آخر لكن تأقلمنا مع البيئة وبتنا نفهمها جيدا”. لا شك ان الحرب التي يخوضها مقاتلو حزب الله مع الجيش السوري، قد أفضت كل تلك السنوات عن علاقة فرضها الميدان وهي تختلف عن سابقاتها.” 
“نحن والجيش السوري واحد،  الحرب علينا وعليهم، اكتسبنا منهم خبرات واكتسبوا منا ايضا، نتبادل كل شيء سوياً، من معلومات وقتال وكل شيء، وما يصيب سوريا يصيبنا نحن أيضا، هذا محور واحد ومصيره واحد في هذه الحرب”. المعنويات لدى المقاتلين هنا عالية جدا. استعدادات نفسية وعسكرية لا تختلف عن اية معركة اخرى في الميدان، غير أن التصميم على أن تكون هذه المعركة هي الاخيرة هنا في الجرود وعلى طول الحدود لطرد التكفيريين أقوى من كل الفترات السابقة.  “إما نحن أو هم”، يقولها “هادي” بحزم. “لن نسمح لهذا الفكر الظلامي والمتخلّف ان يحكمنا، ولن نسمح ان تكون نساؤنا وأهالينا واطفالنا عرضة للبيع في المزاد كما فعلوا بالنساء في مناطق متعددة من سوريا والعراق”.

القضية أولاً

زيارة المقاتلين حصلت في منطقة ترتفع أكثر من 1800 متراً عن سطح البحر
 
زيارة المقاتلين حصلت في منطقة ترتفع أكثر من 1800 متراً عن سطح البحر
 
وفيما “هادي” المسؤول عن النقطة العسكرية يبلغ 34 عاما، ويعدّ أكبر سناً هنا، إلا أن سائر المقاتلين هم  شبان إما طلاب جامعة، أو أنهوا دراستهم، لكن بعضهم قضت مهمته أن يؤجّل دراسته. علاء (22 عاما)، يعلّق على الموضوع “ما بتظبط بدنا نتخلى عن شيء مقابل شيء، اما الدرس او التفرغ والعمل. هناك بعض الاخوان يستطيعون التوفيق بين الدراسة او العمل والجهاد، حسب ظروف وطبيعة عمل كل واحد منا”. بقي لعلاء سنة دراسية واحدة حتى يأخذ شهادته في إدارة الاعمال، مؤكّدا انه سيكمل دراسته “في حال لم أنل شهادة الشهادة قبل أن أتخرّج”وهو يبتسم ويستذكر اصدقاء كثرا له استشهدوا. تدمع عيناه الخضراوتان، ويقول “اكيد الانسان يحزن عند فقدان عزيز له، وينجرح قلبه، لكن في الوقت نفسه نشعر بالسعادة له، هذه مدرستنا وهذه قضيتنا التي نفتخر بها”. ويشرح لنا كيف استشهد صديقه أمام عينيه: “خسرت أعز اصدقائي في إحدى المعارك العنيفة في القلمون لكن صمّمت ان اتابع طريقي وأكمل مهمتي في المعركة، وتم سحبه من قبل اخوة آخرين كانوا معنا في قلب المعركة. اعتدنا على ذلك،  ونحن نتدرب وندرس كيف نكون أقوياء. لا يمكن ان تكوني ضعيفة وتفكري بقلبك والعواطف في الميدان. فقدان عزيز يقوي من عزيمتنا اكثر”.   انخرط علاء منذ اكثر من عامين في القتال في سوريا، واكتسب خبرة قتالية عالية، وهو كان  قد ترأس مجموعة من 8 مقاتلين في عدد من مناطق القلمون. أما عن العدو التكفيري فيقول،  “هذا العدو لا دخل له بالانسانية، تخيّلي لو ان التكفيريين اصبحوا في قلب لبنان، ماذا كان سيحصل! نحن ندافع عن اوطان وليس عن وطن واحد، من دون منّة من أحد وندافع عن الجميع وعن كنيسة رأس بعلبك قبل مسجد بريتال!” يختلف وضع زياد (26 عاما)  عن وضع علاء، فهو حائز اجازة في ادارة  الاعمال ويحتل منصبا في احدى الشركات، كما انه يستطيع التوفيق بين عمله في الشركة والعمل الجهادي. “انا هنا لأحمي عائلتي وبلدي اولا،  من واجبنا ان ندافع عن اهالينا وأرضنا وان نحميهم. يقاطع الحديث “دانيال” المشاكس.  لم يقبل ان يقول اسمه الحركي، فاختار اسم دانيال. وهو لا يهدأ ولا يسكت، يلقّبه اصدقاؤه “بأبو عجقة”. يبلغ دانيال ال 25 من عمره، حائز شهادة في المعلوماتية. اليوم هي الذكرى السنوية الثانية على مرور زواجه، وهو لديه طفلة صغيرة. “عادي ما بيعنيلي الموضوع، لو ان المناسبات تعنينا لما كنت هنا، وزوجتي تتفهّم ذلك”. بعد الهجوم الذي شنّته “جبهة النصرة” على جرود بريتال تدفقت الاتصالات من المقاتلين  للمشاركة في القتال والدفاع عن اهالينا هناك وعن لبنان. “هذا يترجى فلانا، وذاك يترجى آخر، على الأقل الذين أعرفهم.. كلنا شعرنا بالخطر، هؤلاء اقتربوا من لبنان، يجب قتالهم حتى لا ينتشروا ، ونحن نمنعهم من ذلك، ومن دون منّة من أحد”. بكل ثقة وبصوت مرتفع يقول، ” انا بإرادتي جئت الى هنا وصابرون على كل شيء، هذه مدرستنا ومدرسة الحج رضوان التي تربيّنا عليها”. ويضيف “اقول لكل شاب نحن صحيح اننا في منطقة معزولة عن كل شيء ولا حياة فيها، لكن هنا الحياة، ومن لا يريد ان يكون معنا، فليكف عنا”.  تعلو الهتافات المؤيدة لدانيال وسط تصفيق حار له. اعتادت الامهات والزوجات على غياب أبنائهن ورجالهن. الكل يردّد بأن “الامهات والزوجات مجاهدات مثلنا تماماً، يتحمّلن غيابنا وهناك مسؤولية عليهن أيضا”. يقول أحمد (30 عاما) الذي يحمل إجازة جامعية في التاريخ، “طبعا الامور صعبة على الزوجة اكثر منا نحن، طبيعة الرجل اقوى، هي تلتهي بالاولاد وبعيدة عن رب الأسرة وتتحمل اعباء ومسؤولية اشياء كثيرة، وهذا جهاد ايضاً. في البداية كان الامر صعبا عليها، وأكيد لا يزال كذلك، بس النق بصير يخف مع الوقت”. يضحك الجميع عندما يردد بعض المقاتلين الذين لم يتزوجوا بعد، “امهاتنا ما بصدقوا كيف نفل من البيت، هنّ تدعون لنا من تحت والله يستجيب لدعواتهن ويوفقّنا هنا”. يحمل غالب (21 عاما) كتابه بيده، يلقي نظرة عليه عند الاستراحة القصيرة تحضيراً لامتحاناته في مادة الجغرافيا في الجامعة. إنها السنة الدراسية الاخيرة له، وهو مجتهد كثيرا وهادىء بحسب ما يصفه أصدقاؤه الذين يتكلمون عنه وهو يبتسم. “الآن هو هادىء لكن لا تستهيني به في المعركة!” أما ابراهيم ( 23 عاما)، وهو طالب حقوق فيعتبر ان مفهومه لهذه الحرب “انها حرب الحفاظ على الانسانية ومتعلقاتها الاخلاقية ، لأن من في الطرف المقابل لو قدّر له ان يبسط سلطته على البلاد والعباد لذهب بكل فضائل الانسانية وقضى على مفاهيم الاديان السماوية ومرتكزاتها واهمها الاخلاق والرحمة”. ويكمل ابراهيم والجميع ينصت اليه بإمعان “ان اكثر ما يؤلمني في هذا العدو هو تشويهه صورة الاسلام السمحاء  من قتل وذبح وتكفير الآخر حتى لو كان مسلما”. وعن أهل السياسة في لبنان يقول ابراهيم بابتسامة بائسة “بعضهم قصيروا النظر وآخرون اتباع ومنهم عمت احقادهم بصائرهم. ويختم حديثه قبل ان يغادر الى نقطته حيث بدأت نوبة حراسته: لقد منّ الله على هذا البلد برجل ثاقب النظر بعيد الرؤية صادق الوعد يتّصف بكل معاني الرجولة …ليتنا نقدّر هذه النعمة ليحفظها الله لنا وأطال الله عمره سماحة الأب السيد نصر الله”.

“الحياة هناك”

يرى شباب حزب الله أن من يقاتلون في الطرف الآخر سيقضي على كل المفاهيم السماوية لو قدّر له
 
يرى شباب حزب الله أن من يقاتلون في الطرف الآخر سيقضي على كل المفاهيم السماوية لو قدّر له
 
فرضت الظروف أن تكون الزيارة قصيرة إلا أن المقاتلين شدّدوا أن نبقى لتناول الغذاء الذي سيصل بعد قليل. طبق اليوم “الفاصولياء والرز”. تأتي وجبة الطعام كل يوم بتوقيتها في علبة بلاستيك تتضمّن الصحن اليومي وقطعة من الحلوى والفاكهة. رغم كل الظروف، يصل الطعام يوميا في الوقت المناسب. حتى عندما قطع المسلحون طريق الامداد بين بلدتي الجبة وعسال الورد في الهجوم الاخير منذ أشهر، وصلت وجبات الطعام في وقتها، يقول المقاتلون. أما الحالات الوحيدة التي تأخر الطعام فيها، فهي كانت بسبب السيول عند بداية فصل الشتاء وهطول الامطار، ومرة عند تعرض سيارة  نقل الطعام للقنص بحسب المقاتلين. في شهر رمضان الماضي، كانت تصل الوجبة احيانا عند 11 مساء، “بعض الاخوان المجاهدين كانوا يفطرون في هذا الوقت المتأخر بسبب ظروف تتعلق بالمهمة الموكلة اليهم، خصوصاً من كانوا في الجبهات والصفوف الامامية” بحسب المقاتلين. تحتوي خيمة الطعام على كل ما يحلو من حلويات ومعلّبات وخضار وفواكهة… أكثر من ساعة ونصف الساعة امضيناها في هذا الموقع المتقدم، حيث شعرنا أننا في عالم آخر. همس “أبو علي” لأحد المقاتلين المرافقين لنا في الجولة، وهو احد قياديي حزب الله الذي خاض أكثر حروب المقاومة، والذي خصّ “الميادين” برسالة طويلة،  بضرورة عودتنا إلى النقاط الخلفية حفاظاً على حياتنا، وسط تساقط القذائف أسفل الموقع من قبل الجماعات المسلحة. “الحمد الله لا ينقصنا شيء سوى دعواتكم”، بهذه العبارة ودّع مقاتلو حزب الله “الميادين” شاكرين لها هذه الزيارة. عاد الجميع كل إلى سلاحه وآليته العسكرية للرد على مصدر النيران، ودارت عجلات الآلية سريعاً وعدنا من حيث انطلقنا. إلى زمن آخر، حيث الدنيا بألف خير، حيث الراحة والاطمئنان بين الاهل والاصدقاء والحياة الآمنة التي وفق كثيرين ما كانت لتكون لولا انتشار المقاتلين على قمم الجبال على طول امتداد السلسلة اللبنانية الشرقية، لتدرك أكثر فأكثر ما قصده دانيال حين قال إن “الحياة هناك”. 

قيادي من الرعيل الأول: إسرائيل والتكفيريون وجهان لعملة واحدة

يستعدون لجولة جديدة يأملون أن تكون الأخيرة لاجتثاث الجماعات الإرهابية
 
يستعدون لجولة جديدة يأملون أن تكون الأخيرة لاجتثاث الجماعات الإرهابية
 

“أبو علي”،  أحد كوادر الميدان، ممّن خاضوا أكثر الحروب، خصّ “الميادين” بهذه الرسالة:

نحن قوم ننفذ تكليفنا في العمل الجهادي ونعتبره عبادة. وكما يقول سماحته حيث يجب ان نكون للدفاع عن ارضنا وصون اهلنا وخطنا الجهادي سنكون، حتى لو اختلفت الجبهات وطبيعة المعركة وارض العدو. انا كمقاتل منذ العام 1982، شاركت في أغلب معارك المقاومة منذ النشأة الاولى، اعتبر الآن انني في المكان الصحيح وأقاتل وأدافع بنفس الروحية التي بدأت بها عام 1984 لأن هدف الصهاينة وحلمهم هو نفس هدف هؤلاء التكفيريين. نحن كما نحن، نبقى متمسكين بالدفاع عن اهلنا ووطننا ووجودنا. هم جهات متعددة على مر التاريخ. وما بدأنا يوماً نحن بالاعتداء لأننا ولدنا من ردة فعل إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان. ونحن كحركة مقاومة كنا السباقين والمضحين في كل الجبهات والتي انتصرنا فيها بقوة الارادة والتوكل على الله رغم قلة العتاد والعديد في بداية عملنا. وانا هنا الآن في هذه الارض الوعرة والقاسية، اتذكر فيها تلك الايام، عندما ذبح العدو الإسرائيلي أطفالنا وأهلنا من أيام الاحتلال، وعدونا الحاضر اليوم يريد ذبحهم بعقلية متخلفة. وهنا تسري مخيلتي عندما شاهدت اطفال قانا ذبحوا بقذائف انشطارية من دون سبب سوى انهم من جلدة هذه البيئة الحاضنة ومن حقد عقيدة الصهاينة التي تقول اقتلوا واذبحوا كل طفل فيهم. وهنا المقاربة والقاسم المشترك مع هؤلاء التكفيريين عندما نستمع الى بعض علمائهم الجهلة الذين يفتون باسم الاسلام بذبح اطفالنا وأهلنا حتى من غير الطائفة التي ننتمي اليها. لقد قتلوا من الطائفة السنية أكثر بكثير من الطوائف الاخرى. وكذلك هنا القاسم المشترك بينهم وبين الصهاينة من خلال السيارات المفخخة والقتل الجماعي وتفجير المنازل وتشريد الأهالي واحتلال القرى وغيرها.. اما الاختلاف في طبيعة الصراع فهو كبير، تختلف قواعد القتال كثيراً، هناك قواعد مع الصهاينة رغم حقدهم،  من خلال التقدّم و(المناسفة) في العقل والعلم العسكريين. أما مع هؤلاء التكفيريين، فلا يعرفون سوى الذبح والابادة الجماعية بدم بارد وأمام عدسات الكاميرا، هؤلاء يعيدوننا الى الوراء والى التخلّف. وهنا يكمن سر عزيمتنا بمتابعة قتالهم ولهذا السبب نحن هنا والعالم كله يعرف، حتى الذين نختلف معهم سياسيا. وأما عن الوضع الآن، فهو الاستعداد الكامل من قبل تشكيلاتنا وتشكيلات الجيش السوري لجولة جديدة ربما تكون آخر الجولات لاجتثاث هؤلاء الظلاميين وإراحة لبنان وشعبه وأرضه من خطرهم، بل كل البشرية منهم. ونحن قمنا منذ أيام بعمليات مفاجئة محدودة لاختبار النسق الأول في استعداداتهم ونجحنا بالسيطرة على ثلاثة مرتفعات مهمة. وللأسف بعض الإعلام اللبناني يتبنى وجهة نظر المسلحين ويساهم بطريقة مقصودة أو غير مقصودة بنشر معلومات وبعض الصور المشبوهة لهم عن عمليات تستهدفنا. وأقول لهم وللجميع إرجعوا إلى مبادئكم ولبنانيتكم فهؤلاء قوم متعطشون للدماء، هذه هي عقيدتهم ولا يفرّقون بين أحد، فلا تكونوا أداة لهم وإن اختلفنا بالسياسة، لأن التاريخ سيلعنكم وستكونون من بائعي الأوطان والانسان.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.