لماذا سعيت للتعرف على يعقوب زيادين / فهد الريماوي

 

فهد الريماوي * ( الأردن ) الخميس 9/4/2015 م …

*رئيس تحرير جريدة “المجد” الاردنية

رحل يعقوب زيادين، والتحق بكوكبة من شوامخ النضال الوطني والقومي والتقدمي الاردني الذين انجبهم زمان مجيد لا علاقة له بهذا الزمان المجنون والمفتون بانجاب الدواهي والدواعش وباقي المنتوجات الوهابية والارهابية المسرطنة.

رحل زيادين، القائد الاممي المرموق، وفي قلبه غصة وفي نفسه حسرة، جراء تدهور الحال العربي الى الدرك الاسفل، وانكفائه الى عصر الظلمات، وارتوائه من ”نهر الجنون”، وخذلانه لآمال واحلام وتطلعات وتضحيات عدة اجيال من اشاوس المناضلين العرب الذين وقفوا اعمارهم على خدمة امتهم، والدفاع عن حقها في الحرية والوحدة والتقدم والعدل السياسي والاجتماعي.

الكتابة عن هذا الطود النضالي الشامخ لن تزيد من عظمته او تضيف جديداً الى قيمته ومكانته، بل ان ”المضاف اليه” في هذه الحالة هو القارئ من جيل الشباب – وربما الكهول – الذي لم يعاصر ألق يعقوب زيادين ومواقفه وصولاته الكفاحية الباسلة على امتداد ستة عقود كان فيها فارس الحركة الوطنية الاردنية الصنديد، ومركز تقاطع كل القوى والاحزاب والتيارات السياسية والثقافية والاجتماعية من مختلف المنابع والاصول والطبقات.

عرفته عن قرب منذ نيف وثلث قرن، فقد سعيت الى معرفته مدفوعاً بحماس شديد واعجاب بلغ حد الدهشة، حين علمت انه قد رد صفعة احد مدراء المخابرات العامة بصفعة مماثلة على وجهه، وان وضعه كموقوف يجري التحقيق معه في دائرة امنية مخيفة لم يرهبه او يقوض شجاعته او يمنعه من الرد على الصفعة بمثلها، رغم ادراكه بما سوف يترتب عليها من عواقب وعقابيل.. فليس من السهل في دنيا العرب ان تهين مدير احدى دوائر البيطرة، فما بالك بدائرة المخابرات ؟؟

حين التقيته، بترتيب من احد الاصدقاء المشتركين، سألته عن هذه الواقعة التي كانت يومذاك حديث كل صالونات عمان ومحافلها السياسية، فاكد وقوعها ولكنه سرعان ما قلل من اهميتها، بل اثنى على ذلك المدير الذي لم يفقد اعصابه ويسعى الى انتقام خارج حدود المألوف والمعتاد.

اعجبني تواضع هذا الرجل وزهده في الشهرة الزائفة, وبعده عن التشهير بخصمه.. شعرت ان هذا هو خلق الكبار المنزهين عن الهوى والثأريات, والقانعين بما لديهم من قوة نفسية وروحية، والمترفعين عن التباهي والتبجح والمتاجرة بالمواقف والصعود على انقاض الآخرين.

وهكذا، ومن بوابة السيكولوجيا وليس السياسة والايدلوجيا دخلت واياه في رحاب صداقة وطيدة واعمال رفاقية عديدة، فقد كتب في ”المجد” مراراً، وعقد مع اسرة تحريرها عدة لقاءات وحوارات، وداوم بعدما اقعدته الشيخوخة والمرض على التواصل الهاتفي معها والاطمئنان على مسيرتها.

ذات لقاء مع اسرة ”المجد” قال ”ابو خليل” غاضباً انه يعتزم سحب الحزب الشيوعي الذي يتزعمه من تنسيقية احزاب المعارضة، بعدما سيطر حزب جبهة العمل الاسلامي (الاخواني) على هذا الائتلاف، وتمكن حمزة منصور، امين عام ذلك الحزب من التأثير حتى على عزمي الخواجا، امين عام حزب الوحدة الشعبية، وسالم النحاس، امين عام حزب الشعب الديموقراطي (حشد).

اختلفنا معه وقلنا له ان مجرد وجود اطار سياسي يجمع الشيوعي والبعثي والاخواني، هو انجاز كبير وفتح جديد في تاريخ العلاقات الحزبية العربية التي غالباً ما كانت سلبية وتناحرية.. غير ان ”ابا خليل” ظل مصراً على رأيه، وكان لا بد ان نناور عليه ونباغته من حيث لا يحتسب، فقلنا له – بسذاجة مصطنعة – ان الكثيرين سوف يعزون انسحابكم من التحالف مع الاخوان المسلمين الى اسباب طائفية (مسيحية) وليست سياسية (شيوعية).. بهت الرجل وتلفت حوله يمنه ويسره قبل ان يتساءل : معقول ان يوجه لي مثل هذا الاتهام ؟؟ صدقوني انني على استعداد لتحمل ”الاخوان” مئة عام على ان اتعرض لادنى شبهة طائفية او اقليمية او جهوية من اي نوع.

غير ان ابرز ما جمعنا – ابو خليل وانا – ذات يوم بعيد، هو الموقف العلني المشترك الرافض للحرب العراقية -الايرانية عام 1980 والمتحفظ على التسرع العراقي في اشعالها، ففيما نشرتُ مقالاً لي بجريدة ”الدستور” تحت عنوان ”حرب الوردتين” ناشدت فيه القيادة العراقية وقف هجومها على الاراضي الايرانية، اصدر ”ابو خليل” بياناً باسم الحزب الشيوعي الاردني يدين هذه الحرب، ويؤكد انها تصب آخر الامر في صالح العدو الاسرائيلي واليانكي الامريكي وسائر المتربصين من نواطير النفط بعراق البعث وثورة الخميني.

يومها كان الاردن الرسمي والشعبي يقف بغالبيته الساحقة، وبحماس منقطع النظير، مع العراق الملقب ”بالبوابة الشرقية”، وكانت الوفود الشعبية والنخبوية والحكومية تتوافد على بغداد بالمئات وعلى مدار الساعة، ولم يتورع السفير العراقي في عمان يومذاك عن شكواي للمرحوم الملك حسين، وللاستاذ مضر بدران رئيس الوزراء، وللزميل احمد العتوم مدير دائرة المطبوعات في ذلك الحين.

قبل شهرين هاتفني ”ابو خليل” بصوت واهن ومتشحرج طالباً تحديد موعد لزيارة ”المجد”، فرجوته ان يؤجد الزيارة ويأذن لي قبل ذلك بزيارته في منزله.. رحب هذا الرجل الكبير بي، ولكن حشود البلايا والرزايا الصحية والصحفية التي اجتمعت عليّ وعلى ”المجد” حالت دون تحقيق ذلك اللقاء الذي كان من شأنه ان يشكل ”اللقاء الاخير”.

رحم الله ”ابا خليل” فقد كان قائداً بمعنى الكلمة، وقاسماً مشتركاً لمجمل كيانات الحركة الوطنية الاردنية التي ما فتئت تفقد رموزها وفرسانها وشجعانها تباعاً، دون ان تقوى على استخلافهم وسد فراغهم !!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.