ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى وحركة التحرر الوطني / د. منير حمارنة
د. منير الحمارنة * ( الأردن ) الجمعة 29/12/2017 م …
* الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الأردني …
تحتفل القوى التقدمية والديمقراطية على النطاق العالمي هذا العام بالذكرى المئوية لثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى التي كانت نقطة تحول مهمة في تاريخ البشرية الحديث، والحدث الاهم في القرن العشرين.
فالعمال والكادحون الذين ثاروا في روسيا في شهر فبراير سنة 1917 ضد مجزرة الحرب العالمية الاولى وضد المجاعة والبطالة والاستغلال تمكنوا من اسقاط النظام القيصري خلال ايام معدودة وبعد ثمانية اشهر على هذا الحدث استولت الطبقة العاملة على السلطة لاول مرة في التاريخ، بعد المحاولة البطولية القصيرة لكومونة باريس.
عمل العمال والجنود والفلاحون الفقراء اعضاء مجالس السوفيات المنتخبة على ان يشيدوا في ظروف شديدة الصعوبة مجتمعا جديدا بديلا للنظام القيصري ووضعوا اسسا لمجتمع اشتراكي جديد. ووجهوا نداء الى جميع شعوب الارض، الى جميع المستغَلين والمضطهدين في العالم لكي يحذو حذوهم وليؤكدوا بذلك امكانية القضاء على الرأسمالية.
لقد خاض البلاشفة نضالا قاسياً ومستمراً ضد الثورة المضادة وضد المترددين وضد الحكومة المؤقتة، تمكنوا من افشال حركة الهجوم المعادي للثورة، كما تمكنوا من الحفاظ على الوهج الثوري الذي ايقظه البلاشفة والذي ازداد توهجاً بانخراط اعداد متزايدة من الجنود والفرق العسكرية اليه. ومع النهوض الجماهيري واتساع حركة الجيش الثوري للدفاع عن الثورة حتى الرمق الاخير، حدد لينين في تلك اللحظة ساعة الثورة بقوله: “امس مبكر وغدا متأخر بل اليوم!”.
لقد تصادف افتتاح المؤتمر الثاني لسوفيتات عموم روسيا بعد نجاح الانتفاضة في 24- 25 اكتوبر التي اطاحت بالحكومة المؤقتة ووضعت السلطة بيد السوفيتات، لذلك تم في اليوم التالي لذلك الانتصار نشر بيان المؤتمر على شكل اعلان للعمال والجنود والفلاحين يلخص بشكل جيد وواضح فحوى ثورة اكتوبر واول انجازاتها، جاء فيه: ” الحكومة المؤقتة قد سقطت وتم اعتقال اغلبية اعضائها. ستقترح سلطة السوفيات سلاما فوريا وديمقراطيا على كل الشعوب، وهدنة فورية على كل الجهات. ستضمن مصادرة بدون تعويضات لأراضي الملاكين العقاريين، وللاحتكارات واديرة الرهبان ووضعها تحت رقابة لجان الفلاحين، ستدافع عن حقوق الجنود في دمقرطة شاملة للجيش، وستطبق الرقابة العمالية على الانتاج.. ستضمن الدعوة الى عقد الجمعية التأسيسية وستضمن لكل الامم التي تعيش في روسيا الحق في تقرير مصيرها”.
كان انتصار اكتوبر فاتحة لتطورات عميقة في روسيا وعلى الصعيد العالمي، فقد شكلت ثورة اكتوبر بداية لتحولات مهمة في حياة البشرية إذ كسّرت اصفاد سيطرة العلاقات الرأسمالية على العالم كله وفتحت لاول مرة في التاريخ الآفاق الواقعية للانعتاق والتحرر القومي والاجتماعي للشعوب المقهورة. وعبر لينين بوضوح عن الفرصة التاريخية التي اتاحها انتصار اكتوبر لشعوب الدول المستعمرة والمقهورة. وشدد على ضرورة التحالف والتقارب الوثيق مع العمال والفلاحين والعبيد في كافة البلدان المقهورة وحث نجاح ثورة اكتوبر شعوب آسيا وافريقيا على الحياة السياسية النشيطة، واصبحت هذه الشعوب شريكا مباشرا في اعادة البناء الاجتماعي للعالم، إذ حدث تسريع هائل جدا لحركة التحرر الثوري العالمية نتيجة لانخراط الملايين من مختلف الشعوب في العملية الثورية التاريخية.
وبعد ثورة اكتوبر اصبحت فكرة لينين بتوحيد القوى المناهضة للامبريالية حقيقة واقعة، وتحولت حركة التحرر الوطني الى جزء لا يتجزأ من العملية الثورية للبشرية جمعاء من اجل اعادة البناء الاجتماعي للعالم بأسره.
واكد لينين على دور البلد الاشتراكي الاول في دعم حركة شعوب الشرق في المؤتمر المخصص لمنظمات شعوب الشرق قائلاً: ” مفهوم بداهة ان هذه الحركة الثورية لشعوب الشرق لا يمكن ان تحل الا بالصلة المباشرة بالنضال الثوري لجمهوريتنا السوفيتية ضد الامبريالية العالمية”.
واكد لينين ان البروليتاريا الدولية هي الحليف الوحيد لكافة الكادحين ومئات الملايين من الذين يقع عليهم الاستغلال من شعوب الشرق”.
ان فكرة ضرورة وحدة الاشتراكية مع حركة التحرر الوطني تتكرر في جميع اهم مؤلفات لينين المكرسة للمسألة القومية والاستعمار، وبذل لينين جهدا جبارا لكي يترسخ هذا المبدأ في الحركة الشيوعية العالمية وفي سائر انشطة الاممية الشيوعية.
واستحوذ شعار ” يا عمال العالم والشعوب المقهورة … اتحدوا “على افئدة الجماهير واصبح قوة مادية هائلة.
وقال لينين: ” سوف نبذل كافة الجهود لكي نتقارب ونتوحد مع المنغول والفرس والهنود والمصريين، فنحن نرى ان من واجبنا وصالحنا عمل ذلك، إذ بدون ذلك ستكون الاشتراكية في اوربا غير راسخة”.
وقد اثبتت الحياة وسلسلة التطورات المتلاحقة ان انتصار ثورة اكتوبر خلق ظروفا جديدة ومؤاتية لتطور وتعميق حركة التحرر الوطني في جميع القارات.
واقامت السلطة السوفياتية رغم الصعوبات التي واجهتها في المرحلة الاولى من قيامها علاقات صداقة وتحالف مع النضال الوطني للشعوب الآسيوية، حيث وجدت هذه الشعوب في الدولة الاشتراكية الفتية سندا ونصيرا يمكن الاعتماد عليه. ومع ازدياد جبروت الاتحاد السوفيتي وتكون النظام الاشتراكي العالمي اتسعت المساهمة العالمية في تصفية تركة الماضي من التخلف والتبعية، مما ساهم في اعطاء حركات التحرر زخما جديدا ومكنها من اجراء تغييرات جذرية في بلدانها سياسيا واقتصاديا واجتماعياً.
لم تكن الشعوب العربية والبلدان العربية بعيدة عن التطورات التي احدثها انتصار اكتوبر. فقد ادركت فصائل متقدمة من الشعوب العربية بان الاجراءات التي اتخذتها السلطة السوفياتية في ايامها الاولى تدعم طموحاتها الوطنية وتحديدا اعلان حقوق شعوب روسيا الصادر في 15 تشرين الاول 1917 الذي نادى بالمساواة التامة بين شعوب روسيا وبإلغاءجميع الامتيازات والقيود القومية والدينية ايا كانت.
والامر شديد الاهمية كذلك ان السلطة السوفياتية قامت بفضح جميع الاتفاقات الاستعمارية والسرية الموجودة في ارشيف الحكومة القيصرية، والتي من بينها اتفاقية سايكس بيكو المعقودة عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا والهادفة الى تقسيم البلدان العربية الى مناطق نفوذ ومستعمرات خلال اقتسام تركة السلطة العثمانية، واستنكرت السلطة السوفياتية الفتية سياسة الانتداب التي قررتها عصبة الامم المتحدة على بعض البلدان العربية باعتبارها استمرارا للعبودية الاستعمارية. وارسلت عام 1923 مذكرة الى كل من حكومتي بريطانيا وفرنسا جاء فيها: ” ان فلسطين وسوريا في الوقت الحاضر هي في ما يسمى حالة الانتداب. ان حكومة روسيا لا تعترف بهذا الشكل الجديد في الوضع العربي الدولي! لقد اتسعت الحركات التي تتطلع الى الصداقة مع الدولة السوفياتية، وقامت في اكثر من بلد عربي هيئات ولجان ادركت اهمية الحدث الثوري في انتصار ثورة اكتوبر وما تلاها من سياسات، خاصة عندما قال وزير الخارجية السوفياتي عن السياسة الخارجية لبلده ” نحن نرى دورنا ورسالتنا في ان نكون اصدقاء وحلفاء طبيعيين ومنزهين للشعوب المناضلة في سبيل نيل تطورها الاقتصادي والسياسي المستقل الكامل”. وجاء في بيان “لجنة الاتحاد العربي” التي تشكلت عام 1920 في سوريا “ان السعادة والسلم في العالم بأسره يتوقفان على اتحاد العرب والبلاشفة”.
في حوالي عشرينات القرن الماضي بدأت ارهاصات اولية في تشكيل تنظيمات اشتراكية على هدى انتصار اكتوبر في العديد من الدول العربية، وخاصة في مصر وفلسطين والمغرب العربي. وفي العشرينات ومطلع الثلاثينيات من القرن الماضي شهد العالم العربي تشكيل عدة احزاب شيوعية والعديد من منظمات مقاومة الفاشية التي رفعت عاليا شعارات الصداقة مع الاتحاد السوفيتي.
بعد نهاي الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية التي ساهم فيها الاتحاد السوفياتي مساهمة رئيسة فعالة، ازدادت قوة ونفوذ الدولة السوفياتية مما فسح في المجال لزيادة امكانياتها في دعم نضال الشعوب العربية. فقد وقف الاتحاد السوفياتي بقوة دعما لنضال الشعبين السوري واللبناني لنيل الاستقلال ودافع عنهما بقوة في مجلس الامن واستعمل حق النقض اكثر من مرة لهذا الغرض عام 1946. ودافع في مجلس الامن عن استقلال فلسطين واقامة دولة ديمقراطية فيها. ومن المعروف ان هذا المقترح لم ينجح، علما ان ممثلي جميع الدول العربية في الامم المتحدة رفضوا اجراء اي اتصال مع المندوب السوفياتي، والتزموا بتوصيات الدولة الامبريالية بهذا الصدد.
اما ذروة الدعم السوفياتي لحركة التحرر العربي فقد بدأ في الخمسينات من القرن الماضي تزامنا مع صعود حركة التحرر الوطني العربية وتعدد اشكال نضالها.
وتمثل هذا الدعم بتزويد مصر، وفي فترة لاحقة عددا من الدول العربية بالسلاح واسناد نضال الشعوب العربية ضد الاحلاف العسكرية وخاصة حلف بغداد. وكان الانذار السوفياتي للندن وباريس وتل ابيب، دول العدوان الثلاثي على مصر، نقطة مهمة في وقوف الاتحاد السوفياتي بجانب حركة التحرر العربي ودعم مصر في معركتها من اجل الاستقلال الوطني. ويحتل تزويد بعض الدول العربية بالسلاح مركزا متقدما في دعم دولة ثورة اكتوبر وبقية الدول الاشتراكية لهذه الدول. إذ ان خطوة التسليح هذه كسرت الحظر الذي فرضته الدول الامبريالية على الدول العربية وأخضعتها لسياساتها العدوانية إقليميا ودوليا ، الأمر الذي شكل دعما مهما لسياسة العديد من الدول العربية للانعتاق من قيود التبعية السياسية ولاحقا الاقتصادية، وشكل نقطة انعطاف مهمة في الصراع العربي الاسرائيلي. وقد ساهم تزويد الدول العربية بالسلاح في تعميق وتثبيت الالتزام العربي بالدفاع عن قضايا الحرية والاستقلال والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، خاصة في الخمسينات وبعد عدوان 1967 وحرب اكتوبر عام 1973.
ولم يتوقف دعم الاتحاد السوفياتي لحركة التحرر العربي عند التسليح بل تمثل في الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي. فقد دعم بقوة ثورة الجزائر سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ودعم ثورة 14 تموز في العراق والحكومة السورية فثي مواجهة المؤامرات والحشد التركي على حدودها. ودعم بقوة ومن جميع النواحي الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة العدوان الاسرائيلي على لبنان، ودعم بقوة نضال الشعب الفلسطيني في سبيل حقوقه الوطنية المشروعة واقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، واتخذ موقفا ثابتا ومستمرا بهذا الخصوص.
وهناك اوجه اخرى مهمة ومؤثرة لدعم الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية لحركة التحرر العربي وفي مقدمتها الدعم الاقتصادي والتنموي. فقد ساهمت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي في بناء العشرات بل مئات المشاريع الاقتصادية المهمة في البلدان العربية وفي مقدمتها السد العالي في مصر الذي تم بناؤه بعدما رفضت الدول الغربية والبنك الدولي تمويله وكذلك سد الفرات في سوريا وعشرات بل مئات المصانع المهمة كمصانع الحديد والصلب وغيرها في الجزائر ومصر وسوريا والعراق واليمن والسودان وغيرها.
وكانت العلاقات الاقتصادية العربية مع الاتحاد السوفياتي واحدة من اهم ركائز الطفرة التنموية في العديد من البلدان العربية. وبجانب ذلك نشطت العلاقات التجارية المتبادلة التي ادت الى نمو مضطرد في اقتصاديات بعض البلدان العربية وساهمت في مقاومة الضغوط الاقتصادية من الدول الرأسمالية على الدول النامية.
واما المجال الآخر المهم والمؤثر في العلاقات العربية السوفياتية فهو المجال العلمي والثقافي. فقد استوعبت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي عشرات آلاف الطلاب العرب في مختلف الجامعات، الذين حصلوا على تخصصات متقدمة في شتى مجالات العلم والمعرفة. وساهمت التسهيلات المقدمة من هذه الدول في انتشار العلم والمعرفة بين اوساط شعبية واسعة في غالبية البلدان العربية، كما ساهمت في سد احتياجات البلدان العربية من الاخصائيين المهرة.
لقد بذلت الدوائر الامبريالية وخاصة الامريكية جهودا حثيثة لمنع واعاقة وتخريب العلاقات العربية السوفياتية، لانها رأت في هذه العلاقات بداية توجيه ضربة لسياسات وممارسات القوى الاستعمارية التي تسيطر على منطقة الشرق الاوسط وتنهب ثرواتها. واداة لتعزيز موقع ودور الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية في السياسة الدولية، اضافة للآثار الاقتصادية والطبقية التي ستنجم عن هذه العلاقات في سياسات وممارسات الدول التي ستقيم هذه العلاقات.
وسأتوقف هنا عند بعض ابرز الاجراءات والممارسات في هذا الصدد:
1- البيان الثلاثي الصادر عام 1951 من قبل امريكا وبريطانيا وفرنسا الذي يؤكد على مقاومة الاتحاد السوفياتي والشيوعية ويلتزم بالدفاع عن امن واستقرار اسرائيل.
2- المحاولات العديدة والمتلاحقة لاقامة احلاف عسكرية للمنطقة ومن اهمها حلف بغداد الذي استهدف الى جانب قوى التحرر العربية، الاتحاد السوفيتي.
3- ممارسة ضغوط متنوعة واملاء نهج مكافحة الشيوعية على العديد من الدول العربية والذي تم بموجب هذا النهج اعتقال آلاف المواطنين بتهمة الانتماء للشيوعية الذي استخدم كأداة لمصادرة الحريات العامة والتضييق على الحياة السياسية.
4- منع العديد من الدول العربية طيلة فترة غير قصيرة اقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي ومع بقية الدول الاشتراكية.
5- ولكن اقوى النتائج التي جنتها الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية تتجسد في الانتكاسة الكبيرة التي صنعها انور السادات، والتي ادت الى حصول ضعف كبير في الموقف العربي من العدوان والاحتلال الاسرائيلي للبلدان العربية، والى انقسام حاد لاحقا في الجبهة العربية بشكل عام، واختلال الموقف العربي ازاء القضية الفلسطينية.
ورغم غياب الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وما تركه ذلك من تداعيات سلبية على حركة التحرر الوطني العربية نجمت عن فقدان هذه الحركة لقوة دولية فاعلة في اسناد نضالها في مواجهة مخططات واطماع الدوائر الامبريالية والصهيونية والرجعية، فإن الاحزاب والقوى والشخصيات التي تتذكر اليوم بكل وفاء وتقدير الدعم الهائل الذي قدمه الاتحاد السوفياتي وسائر بلدان الاسرة الاشتراكية ستواصل النضال من اجل تحقيق اهداف شعوبنا العربية في الحرية والتحرر الوطني والديمقراطية وانجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية بافقها الاشتراكي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*مداخلة في ندوة الذكرى المئوية لثورة اكتوبر الاشتراكية التي اقيمت في عمان يومي 18- 19/ 11/ 2017.
التعليقات مغلقة.