هذه هي “الإمبراطورية الامريكية” و “ديمقراطيتها” ! / د. بهيج سكاكيني

نتيجة بحث الصور عن بهيج سكاكيني

د. بهيج سكاكيني ( الأحد ) 31/12/2017 م …




المتتبع للسياسات الامريكية يستطيع ان يستشف الإخفاقات التي منيت بها الإدارات الامريكية المتعاقبة في أفغانستان والعراق وسوريا على الأقل حيث فشلت الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها الامبريالية في تلك المناطق ويشهد جميع المراقبين والمحللين السياسيين ان أمريكا “الإمبراطورية العظمى”  قد بدأت فعلا عملية تدريجية بمرحلة الانحدار المتسارع وقد انهكت قواها بالرغم من الهالة التي تريد الإدارة الجديدة رسمها “للدولة الاستثنائية” التي كان يذكر بها الرئيس أوباما انها الدولة التي تسعى وتتراكض اليها الدول الأخرى في العالم كلما حلت بها كارثة أو طلبا للمساعدة أو كما ذكر بها بوش الابن ان الرب قد اختارها لقيادة العالم وأنه ترشحه للرئاسة أتى تلبية لصوت الهي سمعه وهو نائم يحثه للترشح. أما ترامب فقد أعطي صفة المخلص والمرسل من قبل الله من قبل بعض أئمة السلطان عند زيارته الى الرياض بعد ان جمع اليه أكثر من خمسون رئيس دولة اسلامية وعربية لمبايعته خليفة بدل البغدادي.

الهيمنة التي تمتعت بها أمريكا ولأكثر مما يقرب من ربع قرن أصبحت في وضع منهك الذي يجد ترجمته بالإخفاقات والهزائم على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية في العديد من الساحات. وهذه الإخفاقات توجت في الآونة الأخيرة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة حيت صوتت الدول بأغلبية ساحقة ضد القرار الإدارة الامريكية باعتبار القدس بشقيها الشرقي والغربي عاصمة لإسرائيل. ومعظم الدول التي صوتت ضد القرار هي حلفاء للولايات المتحدة وأعضاء في حلف الناتو. وبالرغم من الضغوطات والتهديدات المباشرة والعلنية التي مارستها الولايات المتحدة على العديد من الدول الا ان التصويت جاء وبأغلبية ضد القرار والمشروع الأمريكي. وهذا بحد ذاته يمكن اخذه كدليل واضح وقوي على الموقع الحالي للولايات المتحدة في العالم.

وبالرغم من أن القرار الأمريكي بشأن القدس يؤكد أن اتفاقيات أوسلو (1993) سيئة الصيت لم تعد ذات صلة او أهمية دبلوماسية، فإن الإدارة الامريكية والدبلوماسيين في البيت الأبيض ما زالوا يحاولون تمرير الكذبة الكبرى ان الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل من شأنه ان يحقق السلام في المنطقة. وهذه الكذبة الكبرى كما أوضحت نتيجة التصويت لا يمكن تمريرها او بيعها للدول بمن فيهم حلفاء أمريكا وعلى ان الولايات المتحدة “البلد الاستثنائي” تقف لوحدها ومنعزلة وأن هذه الصورة قد ظهرت في العديد من المناسبات في الفترة الأخيرة مثل اتفاقية باريس للمناخ واتفاقية الشراكة عبر الأطلسي والاتفاقية النووية مع إيران. وتأتي نتيجة التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتسارع من عملية العزل الأمريكي بدلا من إعادة عجلة تدهور هيمنتها الى الوراء.

وحقيقة ان الولايات المتحدة قامت بتوجيه رسالة وذلك للضغط على الدول وإخضاعها للمشيئة الامريكية يدل الى أي مدى من الوهن وصل الحال بهذا “البلد الاستثنائي” عبر السنوات. الى جانب ذلك فإن الرسالة تبين الى أي مدى كانت الإدارة الامريكية ما زالت تأمل ان الأغلبية من الدول ان لم تكن جميعها من الممكن ابتزازها وإخضاعها لتبني السياسة الامريكية والانحناء أمام المصالح الامريكية الإسرائيلية. وبهذا الخصوص فقد كتبت هايلي في الرسالة التي وجهتها الى أكثر من مئة وثمانين دولة ان كل ما تطلبه الولايات المتحدة من الدول الأخرى:

“….الاعتراف بالصداقة التاريخية والشراكة والدعم الذي قمنا بتقديمه لكم واحترام قرارنا حول سفارتنا. الرئيس سيراقب التصويت بدقة وطلب مني تقديم تقرير حول هؤلاء الذين صوتوا ضدنا.”

وهذا هو دليل واضح على ماهية وحقيقة “الديمقراطية” بالنمط الأمريكي… تهديد ووعيد. هذه الديمقراطية التي تريد “البلد الاستثنائي” نشرها في العالم والتي تدفع المليارات من أجل تحقيق ذلك عن طريق “الثورات الملونة” كما هو الحال في أوكرانيا وجورجيا وغيرها بما فيه ما سمي بـ ” الربيع العربي”. “الديمقراطية” التي تسمح وتشارك مشاركة فعلية بالقتل اليومي لعشرات اليمنيين من المدنيين…ونشر مرض الكوليرا في أكبر وباء بالعالم …ومنع إيصال الدواء والاغذية لملايين اليمنيين كله من أجل مليارات الدولارات من البقرة الحلوب في الخليج…

وكما بين التصويت لم تنحني أية دولة لهذا التهديد العلني السافر والمثير للسخرية. والتساؤلات التي يطرحها البعض الان تدور حول إذا ما كانت الولايات المتحدة ستقوم بفرض عقوبات على هذه الدول بما فيها تلك الدول في حلف الناتو مثل تركيا؟ وهل سيكون لهذه العقوبات أي تأثير؟ هل سيكون في مقدور الولايات المتحدة وضع الضغوطات الكافية على هذه الدول للتراجع عن موقفها؟ من المؤكد انه أي من هذه الإجراءات لا تبدو عملية أو ملائمة لأنها ستؤدي على أرض الواقع الى مزيد من تدهور التأثير والسطوة الامريكية أو ما تبقى منها.

من الضروري على الولايات المتحدة ان تدرك اننا لسنا في عصر الحرب الباردة أو زمن الهيمنة والسطوة التي تمتعت بها لما يقرب من ربع قرن صالت وجالت بها دون منازع وذلك بعد الانهيار الذي حصل للاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في بداية تسعينات القرن الماضي. ان تصاعد وتنامي القوة العسكرية والاقتصادية في الشرق وخاصة الصين وروسيا قد غير من الكثير على الساحة العالمية وعلى ان الكثيرون في الغرب بدأوا تدريجيا وبالتأكيد بالتحرك بعيدا عن التحالف الأطلسي الذي أضر بالكثير من المصالح الأوروبية على وجه التحديد وخاصة الاقتصادية منها.

وبدأ الكثيرون أيضا في الغرب وخاصة الدول الأوروبية تدرك ان الولايات المتحدة تضع مصالحها أولا وقبل أي شيء، وهي ليست على استعداد أن تأخذ مصالح حلفاؤها بالحسبان بشكل جدي. لا بل وعلى العكس من ذلك وبشكل مستمر تضع الضغوطات عليهم لتبني مواقف مضرة لها سياسيا واقتصاديا. وخير مثال على هذا هو الموقف من روسيا والحلف الأطلسي الذي استخدمته الولايات المتحدة وما زالت بعد انتهاء الحرب الباردة كمطية لسياساتها العدوانية في أفغانستان وليبيا على سبيل المثال لا الحصر، بالإضافة الى تحقيق الأرباح الطائلة للتجمع الصناعي العسكري الأمريكي ببيع الأسلحة الامريكية إجباريا لدول الحلف. هذا بالإضافة الى تعريض أمن دول الاتحاد الأوروبي للخطر في حالة نشوب مجابهات عسكرية مع روسيا الاتحادية التي يزداد احتمال نشوبها مع الإصرار الأمريكي على نشر منظومات الدروع الصاروخية وقوات أمريكية تابعة للحلف في الدول الأوروبية المحاذية للأراضي الروسية في محاولة تطويق روسيا الاتحادية. ولم يعد خافيا على أحد ان هنالك أصوات في أوروبا اعادت طرح فكرة الدعوة لإنشاء حلف عسكري أوروبي فيما بينها ربما على غرار حلف الناتو ليكون مسؤولا عن حفظ أمن الدول الاوربية وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة والانجرار خلف سياساتها الضارة بدول الاتحاد الاوروبي. وقد جاء التعبير عن هذا التوجه من أكثر من مسؤول أوروبي ولعل الموقف الألماني كان من أبرزها وضوحا حيث صرحت المستشارة الألمانية ميركل في شهر مايو الفائت ” ان الوقت الذي فيه كان بمقدورنا الاعتماد كلية على الاخرين (الولايات المتحدة) قد ولى. لقد خبرت ذلك في الأيام الأخيرة” و ” إننا الاوروبيون حقيقة يجب ان نأخذ مصيرنا بأيدينا”.

لقد سقطت الأقنعة أمام العالم بأجمعه عن “المصداقية” الامريكية التي كانت هايلي تتشدق بها في بداية شهر ديسمبر الحالي على أن أمريكا ما زالت تلعب دور الوسيط “ذو المصداقية” بين الإسرائيليين والفلسطينيين. هذه “المصداقية” الخادعة الى جانب التهديدات التي تضمنتها رسالة هايلي المتعجرفة والصهيونية حتى النخاع تكشف بشكل واضح لا لبس فيه على ان الولايات المتحدة هي اقل الدول مصداقية في العالم لأنها لم تلتزم بما تعهدت به من اتفاقيات أو عهود دولية أو من تعهدات قطعتها على نفسها وها هي لذلك تعرضت لإهانة كبيرة من “المجتمع الدولي” الذي كانت تراهن على انه سيؤيد قرارها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

وربما من الجدير تناول السؤال عما إذا ما كانت الولايات المتحدة سترد على بعض دول المنطقة بقطع المساعدات التي تقدمها سنويا لها وخاصة لمصر والأردن مع تواجد أصوات في الكونغرس الأمريكي بضرورة قطع المعونات عن مصر لان مصر لم تعد تلبي المصالح الامريكية في المنطقة. وربما تزداد هذه الأصوات وخاصة وأن مصر كانت الدولة التي تقدمت بمشروع القرار في مجلس الامن.

ومن الضروري ان ننوه هنا أن معظم المعونات التي تقدمها الولايات المتحدة لمصر أو الاردن تأتي بصورة معدات عسكرية في معظمها وبالتالي فإنها تذهب الى شركات التصنيع العسكري الأمريكي التي ستكون أول المتضررين من هذه العقوبات أكثر من الدول التي ستتعرض الى العقوبات. وهذا ينطبق على العديد من البلدان التي صوتت لصالح القرار في الجمعية العمومية ضد الولايات المتحدة.

ولقد دأبت الولايات المتحدة على تقديم 1.3 $ بليون دولار كل عام بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد بين نظام السادات والكيان الصهيوني في 1978 كمعونة عسكرية للجيش المصري يتحكم بها البنتاغون الذي يعقد صفقات الأسلحة والصيانة والتدريب مع شركات الأسلحة الامريكية، بمعنى ان هذه المعونة تعطى باليد اليمنى وتؤخذ باليد اليسرى. وهذه المعونة تشكل ما يقرب من 16% من مجموع المعونات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة للدول الصديقة في العالم. أما المعونات الاقتصادية التي تقدم الى مصر فقد هبطت من 250 مليون دولار سنويا الى 150 مليون دولار في عهد أوباما ومن المحتمل ان تهبط الى 75 مليون دولار سنويا كما هو مقترح الان. وهذه المعونة لم تمثل حتى قبل هبوطها من 250 مليون دولار سوى 0.54 % من مجموع المعونات الاقتصادية التي تقدمها الولايات المتحدة لبعض دول العالم مجتمعة. وحتى هذا الكم الضئيل جدا والذي لا يتعدى الان دولار سنويا لكل فرد مصري محكوم بالتزام الحكومة المصرية بتطبيق الديمقراطية والسماح بحرية التعبير..الخ. وهذا المبلغ من المفترض ان يصرف على قطاع التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والنمو الاقتصادي ومن سخرية القدر ان هذا المبلغ قد يصرفه أحد الامراء الخليجيين في ليلة واحدة من ليالي الانس!!!! فهل يا ترى ستخسر مصر الكثير فيما إذا ما تم ذلك وهي البلد التي يبلغ تعداد سكانها ما يقرب من 90 مليون انسان؟

وحتى فيما إذا لم تستخدم الإدارة الامريكية العقوبات على الدول “الصديقة” التي تقدم لها المعونات فإن هذه الدول تدرك جيدا ان المعونات الخارجية للولايات المتحدة من المقرر ان تقلل بقدر 28% في عام 2018 ضمن إطار الشعار الذي أطلقه ترامب “أمريكا أولا”. وبالتالي فلن تغير العقوبات ان طبقت ام لم تتطبق الشيء الكثير بالنسبة لهذه الدول لا بل وبالعكس قد يكون من المفيد لها ان تتخلص من هذا الكابوس الأمريكي الذي يتحكم بثرواتها وسيادتها الوطنية ويكبلها بالديون ويزيد من الفساد المالي والسياسي المستشري بمعظمها.

ويبقى ان نؤكد أن حقيقة تصويت أغلبية أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة ضد القرار الأمريكي بشأن القدس يأتي ليدلل على ان الولايات المتحدة أصبحت في حالة من الضعف بحيث لم يعد بمقدورها توجيه دفة السياسة العالمية لصالحها وربما صدق البعض بالقول ان ما حدث في الجمعية العمومية للأمم المتحدة لا يشكل بداية الوهن الأمريكي على الساحة الدولية بل هو تتويجا لحالة الوهن الذي أصاب “الإمبراطورية الامريكية”.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.