تمنيات العام .. وذكرى عن قلقيلية / د. فايز رشيد

د. فايز رشيد ( فلسطين ) الأحد 31/12/2017 م …




” تصورتم أن أوسلو ستجلب لكم دولة مستقلة, وها هي عقود تمضي وأرض الدولة العتيدة تتآكل تدريجيا. راهنتم على المفاوضات ولم تنتج سوى الهزائم, والتنسيق الأمني قائم على قدم وساق, وليس باستطاعتكم إلغاؤه لأن التنسيق هو أحد اشتراطات أوسلو, وما زلتم تتصورون أن عملية سلمية لا تزال قائمة, ولن تغادروها! بالله عليكم, في أي عصر تعيشون؟ ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما أسهل مضيّ السنين! تمضي وكأنك في غفلة منها. تتذكر أنك بالأمس فقط كنت طفلاً تلعب في الحارة, فإذ بك فجأة تقترب من الكهولة وعمر السبعين. السنوات بالنسبة للفلسطيني هي محطات ألم وأمل, ألم بأحداثها التي مرت على قضيته, وأمل بغدٍ أفضل عنوانه العودة إلى الوطن المحرّر من رجس المعتدين الصهاينة المحتلين لوطننا. لا أذكر منذ وعيي في الحياة إلا الاعتداءات الصهيونية على بلدي قلقيلية سنويا, كان أبرزها عام 1956 حين تم اقتحامها بالدبابات وقصفها بالطائرات, طيلة ليلة كاملة في العاشر من نوفمبر, واستشهد يومها ما يزيد على المئة وعشرين من شبابها, وهم في الخنادق المنتشرة حولها , يدافعون عنها بالطلقات القليلة بين أيديهم. لعلني أستعين بشعر العزيز سميح القاسم في وصف تلك المرحلة, حين قال في رائعته “التعاويذ المضادة للطائرات” – وقد كانت أمي رحمها الله كما كل نساء الحي, وقد اجتمعنا كلنا في بيت واحد يرددن الأدعية: كنتُ طفلاً آنذاكْ,كنتُ أمتصُّ حليب السابعة .. وحليب الفاجعةْ.. كنتُ جَدْيا حالم العينين من حولي آلا فُ الشباكْ.. يوم قالت لي أمي بارتباكْ:”هذه الليلة لا تخلعْ ثيابك.. ساعة النوم.. ولا تخلعْ حذاءك.. لم أكن أفهمُ ما تعنيه بالضبط .. ولكني بكيت!.
ظلت الاعتداءات الصهيونية تتكرر على قلقيلية بشكل شبه سنوي, وصولا للعام 1967, وقد اعتقدنا قبيل الحرب, أننا سنتناول الغداء في يافا, والعشاء في حيفا! فإذا بهم يحتلون الجزء المتبقي من الأرض الفلسطينية, كانت الهزيمة الأفظع استقالة الرئيس عبدالناصر, ثم ما لبث وأن عاد عن الاستقالة. حينها رُدت الروح إلى شعبنا. ونظرا للحقد الصهيوني التاريخي على قلقيلية, بسبب تسلل المقاومين منها للقيام بعمليات فدائية في فلسطين المحتلة, منذ عام 1948, قررت الحكومة الصهيونية طرد أهلها, والبدء في تدمير بيوتها. ضجّ العالم من هذه الهمجية آنذاك وصدرت إدانات للكيان الصهيوني من كافة دول العالم, فقد أرادوا تكرار تجربتهم في مسح المناطق الفلسطينية قرية وبلدة ومدينة بعد أخرى. ثم صدر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة (بعد استخدام الولايات المتحدة الأميركية للفيتو حول قرار يدين إسرائيل, ويطالبها بإعادة أهالي قلقيلية إلى مدينتهم), يطالب الدولة الصهيونية بإعادة أهالي مدينتنا إليها. عدنا بعد ثلاثة أسابيع, كانوا قد هدموا 650 بيتا من بيوتها ( منها كان بيت عائلة كاتب هذه السطور), بالطبع, بعد أن سرقوا كل محتويات بيوت المدينة (حتى الأبواب والشبابيك خلعوها), وعاد المحظوظون (ممن لم تهدم بيوتهم) إليها , فارغة تماما وخاوية.
ثم بدأت معاناة الاحتلال, بكل قهرها وتفاصيلها واعتداءاتها. وكانت المقاومة الباسلة, التي أعادت الروح لشعبنا, وصنعت أملا جديدا. ابتدأت العمليات الفدائية المقاومة تهز كيان العدو, فلجأ العدو مباشرة إلى سياسة الاعتقالات الواسعة, وقد طالت شريحة كبيرة من العائلات الفلسطينية, ومنها عائلة كاتب هذه السطور (وقد بلغنا عام 1969 ثلاثة إخوة في السجن). ثم لجأ الكيان الصهيوني آنذاك إلى سياسة الإبعاد, وأبعد كاتب هذه السطور من الجملة. وهنا أود تقديم الشكر لشاب من منطقة 48 تعرفت عليه في قلقيلية, تفضل باصطحابي في سيارته لرؤية مدننا في منطقة 48, اذهلتني يافا, وحيفا بكرملها الفلسطيني الشامخ وبحرها, كما عكا بأسوارها وأزقتها … وكافة مدننا وقرانا التي مررنا بها. إنها فلسطين جنة الله على أرضه. وحق شعبنا فيها أزلي وخالد وغير قابل للمساومة أو الاجتهاد , وشعار كاتب هذه السطور كان ولا يزال :حيفا قبل قلقيلية, وصفد قبل نابلس, ورأس الناقورة قبل جنين. قد يعتقد البعض أن أصحاب وجهة النظر هذه, حالمون وخشبيون! أصحاب هذا القول قصيرو نظر, فهم لا يدركون, أنه ومثلما قضية فلسطين وحدة واحدة, فإن المشروع الصهيوني وحدة واحدة, ولا يمكن تجزئة عدوانيته, فمركزية حزب الليكود الفاشي ستصوت قريبا على ضم كامل الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني. تصورتم أن أوسلو ستجلب لكم دولة مستقلة, وها هي عقود تمضي وأرض الدولة العتيدة تتآكل تدريجيا. راهنتم على المفاوضات ولم تنتج سوى الهزائم, والتنسيق الأمني قائم على قدم وساق, وليس باستطاعتكم إلغاؤه لأن التنسيق هو أحد اشتراطات أوسلو, وما زلتم تتصورون أن عملية سلمية لا تزال قائمة, ولن تغادروها! بالله عليكم, في أي عصر تعيشون؟ فاعتقاداتكم الوهمية تجعلكم تعيشون خارج إطار الزمن والتاريخ والواقع كما الوقائع بالطبع!.
وها هي السنوات تمضي ولكن, “نحن يا أختاه لا نكتب أشعارا ولكنا نقاتل”. وأنتم يا أبناء شعبنا وكما قال محمود درويش: “كم مرة ستُسافرون … وإلى متى ستُسافرون ولأيّ حلم؟وإذا رجعتم ذات يوم.. فلأيّ منفى ترجعون ؟ لأيّ منفى ترجعون؟ يكون .. بحر ويكون.. بر.. ويكون غيم.. ويكون.. دمٌ ..ويكون.. ليل.. ويكون… قتل ويكون سبت ..وتكون ـ صبرا… وصبرا ـ تقاطع شارعين على جسدْ … صبرا ـ نزول الروح في حجر..ٍ وصبرا ـ لا أحدْ …صبرا ـ هوية عصرنا حتى الأبدْ..حتى العودة إلى وطننا الفلسطيني كاملاً غير منقوص… على أبواب العام الجديد, كل الدعاء بتحقيق الأمنيات الجميلة لشعبنا وأمتنا العربية وللإنسانية جمعاء على المستويين العام والخاص, ولشعبنا العربي الأصيل.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.