يوميات امرأة في ميدان التحرير / هويدا صالح

 

هويدا صالح ( مصر ) الإثنين 1/1/2018 م …




التاريخ يكتب الآن في ميدان التحرير

1
ملحمة خالدة وسرديات كبرى تُشكل المشهد في ميدان التحرير حيث انطلقت ثورة 25 يناير ، ملحمة تفوق في روعتها ودهشتها أكبر الملاحم في التاريخ ، وسرديات متجاورة من الروعة والإدهاش تُغْني الناس عن أعظم الروايات والمسرحيات . كانت الجموع تزحف في اتجاه واحد هو ميدان التحرير . عملاق كان راقدا كنا نعتقد أنه غفى أو نام أو حتى على أسوأ الفروض مات ثم فجأة يقف عاليا متشامخا يسد الأفق ويصم الآذان هكذا كنت أرى زحف تلك الجموع الصاعدة نحو الضياء والتي تدوس بأقدامها كل آثار الاستبداد هكذا رأيت تلك الجموع التي بدأت الدعوة لتجمعها على شبكة الإنترنت عبر جروبات للناشطين من الشباب. شباب لم يتلوثوا بأكاذيب الساسة وألاعيبهم . شباب ليس لديهم مصالح أو حسابات فقط لديهم مساحة من الوعي جعلتهم يتجاوزن حتى السياسيين والمعارضة التي حولها النظام إلى مجرد ديكور شكلي حتى لا يبدو فاقدا للشرعية أمام الرأي العام الدولي .
تعددت وسائط الميديا التي استغلها الشباب للدعوة إلى مظاهرات 25 يناير . كان أبرزها هو الفيس بوك / صفحات بعينها كانت تدعو للخروج للمظاهرات منها صفحة ” كلنا خالد سعيد ” وصفحة ” الجمعية المصرية من أجل التغيير ” التي أنشأها الشباب لدعم الدكتور محمد البرادعي ليترشح لرئاسة مصر ، وكذلك صفحة ” 6 أبريل ” . كذلك نشط الشباب على التويتر والبال توك . كنت ناشطة معهم على الفيس بوك ، وكذلك كان لي نشاط معروف في البال توك paltlak ” ، حيث فتحنا غرفة أطلقنا عليها تغيير دوت كوم وكانت تناقش الشأن السايسي المصري ، وكان لها دور هام في الحراك السياسي في مصر منذ عام تقريبا منذ أن أتى الدكتور محمد البرادعي وقرر الترشح لمنصب الرئيس . كنت جزءا من كل هذا النشاط الذي سبق ثورة 25 يناير بحكم علاقتي الوثيقة بالميديا بدأت لتسويق الفكرة بين المثقفين الذين لم يتحمسوا في بادئ الأمر للفكرة أو ربما لم يصدقوا تماما أن هؤلاء الشباب الصغار قادرون على تحريك الجموع وإيقاظ العملاق . لما وجدت بعض المثقفين يسخرون من أن الشباب يحددون موعدا مسبقا للثورة ، وأن هذا غير منطقي ، فلا توجد ثورة تقوم بموعد مسبق ، كتبت بيانا حاد اللهجة وعنيف ، وكان نصه ” نداء إلى مثقفي مصر ، رجاء إما أن تشاركونا تحركنا للدعوة لمظاهرة 25 يناير ، وإما ارحمونا من السخرية اللاذعة ، أرجوكم التزموا الصمت ، فقد تكون سخريتكم سببا في نشر الإحباط بين الشباب ” وبالفعل وزعت النداء على معظم صفحات المثقفين المصريين يوم 24 يناير .
يوم 25 يناير
وجاء الموعد المحدد اتجهنا إلى نقابة الصحفيين كنقطة بداية للتحرك نحو ميدان التحرير .
كنت متجهة للميدان وأنا أهمس لنفسي : لعلها لا تكون كما المظاهرات السابقة التي كنا ندعو إليها ، حيث لم يتعد العدد بأي حال الألف متظاهر. حين وصلنا للميدان وتوالت الأعداد القادمة من كل اتجاهات، شعرت لوهلة أن الشعب المصري قام من الأجداث ، وأنه قادم إلينا عملاقا قويا . اتصلت بالشاعر والباحث شعبان يوسف وقلت له صارخة باكية فرحة مندهشة : يا شعبان مصر صحيت يا شعبان . مصر لم تمت . مصر قامت . زادت الأعداد حتى تخطينا المائتين ألف . كنا نهتف ولما نتعب نجلس على الأرض أو الأرصفة كيفما اتفق . بعد المغرب كوّن الشباب لجنة للإعاشة ولجنة للنظافة . البعض يجمع القمامة وينظف الميدان ، والبعض يجمع تبرعات من المتظاهرين ليشتروا لنا الطعام . تم توزيع الطعام بعدالة وتنظيم مدهش . وكان الجميع يتسابق في أن يؤثر الآخر على نفسه . الجميع يتسابق ليعطي الماء للعطشان والطعام للجائع . جاءت لحظة رغبت في الذهاب للحمام . وقفت حائرة هل من المعقول أن أدخل حماما عموميا ؟ ثم تذكرت أتيليه القاهرة الذي أنا عضو فيه . اتجهت للاتيليه في ميدان طلعت حرب وعند دخولي للشارع الصغير الذي يوجد فيه حزب التجمع في مقابل الاتيليه وجدت سيارة لأمن الدولة ممتلئة بشباب المتظاهرين وعشرات من ظباط أمن الدولة يدفعون بالشباب إليها . لم أتمالك نفسي صرخت فيهم إلى أين أنتم ذاهبون بالشباب ؟ لماذا تخطفونهم من على أطراف المظاهرة ؟ لو كنتم رجالا لذهبتم للميدان وواجهتم المتظاهرين . على أثر صراخي خرج بعض الكتاب والشعراء من داخل الاتيليه . ضربني الضابط على رأسي بقبضته وسبني بأبي . أمسك بي آخر يدفعني للسيارة لولا خروج الشاعر عادل جلال من الاتليليه ومجيئ الباحث حمدي سليمان من الميدان اللذان أنقذاني من يد الأمن ودفعا بي للاتليه . حين دخلت صارخة منفعلة وجدت الكثير من الكتاب والمثقفين يجلسون في الداخل يشربون الشاي ويثرثرون . صرخت فيهم : مصر تصنع هناك وأنتم جالسون هنا ؟ قال أحد الذين يعملون في الاتيليه : اخفضي صوتك رجاء حتى لا يدخلون نحن نخشى على الاتيليه .
لم أتمالك نفسي وصرخت ثانية تخشون على حوائط متهالكة .؟ تخشون على أنفسكم ؟ تجلسون هنا والشباب يصنع لكم مستقبلكم ؟ ألا تخجلون ؟ إنني أخجل أنني كاتبة ؟ أخجل من انتمائي لكم . الحياة تصنع هناك وأنتم هنا تثرثرون وتخشون على مبني لا قيمة له .؟
وانصرفت متجهة إلى الميدان بعد أن رحل أمن الدولة بسيارة ممتلئة بشباب مصر الأحرار . قضينا ساعات نهتف إلى أن فرقتنا قوات مكافحة الشغب بعد منتصف الليل بقوة وقسوة . حين عدت للمنزل ، ودخلت على الانترنت ولم يكن النظام قد تنبه إلى خطورة استمرار الشبكة الإلكترونية . دخلت على الفيس بوك ووجهت رسائل قاسية وعنيف لاتحاد كتاب مصر . وتساءلت أين هو مما يحدث . في اليوم التالي اجتمع الاتحاد نتيجة للتجريس الذي مارسته عليه عبر كل صفحات أعضاء اتحاد كتاب مصر . فقام اتحاد الكتاب بكتابة بيان ونشره ينددون فيه باعتداءات الشرطة على المتظاهرين . في اليوم الثاني للثورة والثالث كنت أنزل أمام نقابة الصحفيين يحيط بنا آلاف من قوات مكافحة الشغب ، ونكون عشرات على سلم النقابة ، وبجوارنا عشرات أخرى أمام نقابة المحامين يلفنا آلاف من الأمن المركزي .كل هم النظام في اليومين التاليين ألا نذهب لميدان التحرير . وكأن مصر كلها اختزلها النظام في ميدان التحرير. في يومي 26 و 27 كان يحز في نفسي أن أتظاهر مع الصحفيين أمام النقابة ، وأتساءل اين اتحاد كتاب مصر من هذا الحدث التاريخي المفصي ؟
28 يناير
في جمعة الغضب كنا نملأ الشوارع المؤدية لميدان التحرير ، مظاهرات تمتد من ميدان رمسيس بطول شوارع الجلاء ورمسيس والشوارع المحيطة بهما ، مئات الآلاف من المصريين النسبة الغالبة عليهم شباب . تعامل معنا الأمن بوحشية وقسوة غير مسبوقة . آلاف من القنابل المسيلة للدموع تلقى علينا بشكل عشوائي . كنا نكر ونفر وكأنها حرب شوارع.هم يضربون علينا القنابل ، ثم يهجمون وفي مقدمة صفوفوهم عناصر مدنية لا نعرف هل هي شرطة سرية أم بلطجية ، يمسكون بهراوات صغيرة ، ومن يمسكون به منا يدهسونه تحت أقدامهم ويضربونه بقسوة لا يهمهم أن تؤدي إلى موت أو عجز . أحد أصحاب المحلات فتح ممر عمارة في شارع رمسيس وأدخلنا . كنا عشرات في داخل الممر الذي تصطف المحلات على جانبيه . نكاد لا نلتقط أنفاسنا . أسرع أصحاب المحلات بإعطائنا زجاجات من الخل ومناديل ورقية وقطن طبي حتى يمكننا أن نستنشق الخل ، فلا نختنق بالغاز . أحضروا لنا زجاجات المياه . نلتقط أنفاسنا ، ثم نخرج لنعاود الكرة عليهم . أمسك الأمن والبلطجية بشاب من جماعتنا . ظلوا يضربونه وأنا أحاول الخروج لإنقاذه ،فيمنعني أحد الشباب : لو خرجتي سيضعونك مكانه ويغلق باب العمارة . حين نفيق نخرج ثالثة . ابتعدت سيارات الأمن باتجاه ميدان التحرير فجمعنا شتاتنا واتجهنا لمظاهرة قادمة من رمسيس مارة تحت كوبري الجلاء . مررنا أمام جريدة الأهرام ، فنادى شباب : حطموا ذلك المبنى الذي يصفنا أصحابه بالعملاء ، فصرخ فيه الروائي سعيد نوح . سلمية . سلمية هذه أموالنا وليست أموال النظام ، لا تحطموا مباني الشعب ، فاستجاب له الشباب وواصلوا التقدم باتجاه الميدان . دقت الساعة الخامسة . أو بعدها بقليل ، وتراجعت السيارات التي تهاجمنا . لم نصدق ما نرى . فقط اكتشفنا أن الشارع لنا . الميدان الذي أصبح رمزا نسعى إليه ، ويدافع عنه النظام قريب منا . إنه قريب . فاتجهنا مسرعين إلى ميدان التحرير . بالطبع نزل الجيش واستولينا نحن على ميدان التحرير . وتوالت الأحداث . منذ الثلاثاء 25 يناير وحتى الجمعة لم نكن نرى من الأدباء والمثقفين إلا أعدادا قليلة لا تمثل إلا أنفسها ، ففي الثلاثاء الأول تقابلنا في الميدان مجموعة من الأدباء منهم سيد الوكيل وسعيد نوح وحمدي سليمان ومحمود الورداني ونائل الطوخي وأحمد عبد اللطيف وبضع أسماء . كذلك يوم الجمعة أمساء لا تعد على الأصابع . لكن بعد يوم 28 أقبل الأدباء على الميدان . شاركوا الشعب الذي بذل روحه ودمه من أجل الوطن أحلامهم وآمالهم . لكن الأدباء الذي تحمسوا بعد النجاح الذي حققناه في الأيام الأولى وانضموا إلينا كانوا يمثلون أنفسهم . وظلت جملة إنني أخجل من كوني كاتبة أنتمي إليكم التي قلتها للجالسين في الاتيليه يوم الثلاثاء العظيم تتردد في ذهني . هل كل الكتاب ، كتاب مصر ، على الأقل الذين يعيشون في القاهرة الكبرى هم فقط الذين يترددون على الميدان ؟ هل يعقل أن هؤلاء فقط الذين شعروا أنهم جزء من هذا الوطن وانضموا إلينا حتى لو كانوا قد انضموا إلينا بعد أن ثبتنا وتحملنا كل شيئ حتى الهجوم بالجمال والخيول والسيوف علينا ؟ أين بقيتنا ؟ أين جماعتنا من الكتاب والأدباء ؟ أين اتحاد كتابنا ؟
بعد هذه التساؤلات المريرة ، وبعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا إلغاء قانون رقم مائة يوم 2 يناير 2011 أي قبل اندلاع الثورة بثلاثة أسابيع تقريبا والذي بموجبه صارت كل النقابات المهنية والعمالية غير شرعية ، يحق لنا نحن جماعة الكتاب أن نطالب بحل اتحاد الكتاب ، وإعادة تشكيله بحيث يصبح اتحاد كتاب فاعل في مساندة أعضائه ، وله موقف مشرف من قضايا وطنه ، بعد أن أفلحت الأنظمة الشمولية المستبدة ـ التي سعت دوما إلى تهميش المثقف وإقصائه ـ أن تضع على رأسه دوما أسماء لا حضور لها ولا مواقف ، من أجل أن يظل اتحاد الكتاب مجرد مكان يجتمع فيه عدد من الكتاب لا أكثر . لا يزيد عن كونه مكانا يجتمع فيه بعض الكتاب ، ولا أقول كل الكتاب ، فهو بوضعه الراهن لا يحظى باحترام معظم الكتاب المصريين .

29 يناير
انضمت إلي تلك الثورة قطاعات كبيرة من الشعب تمثل شرائح المجتمع المصري بكافة طوائفه ، عمال ومثقفين، وأساتذة جامعات وأطباء ، شباب غير مسيس ، وآخر مسيس . ثورة شعبية ،حرصت منذ البداية أن تؤكد أنها سلمية ولا عنف فيها ، فهي أقل ما توصف بها أنها ثورة بيضاء، ستغير تاريخ الثورات ، فليست عنيفة دامية مثل بعض الثورات في أوربا وأمريكا اللاتينية ، وليست انقلابية عسكرية كما هي هو تاريخ ثورات المنطقة العربية .
في اليوم المحدد للمظاهرات التي لم يتخيل حتى منظموها والمنادون بها أن تتحول لثورة.
بدأت الجموع تزحف من جميع مداخل ميدان التحرير ، التقى الجميع في الميدان وبدأوا يهتفون . أدركت قوات الأمن السياسي خطورة الأمر فدفعت في البداية بعربات المطافئ وفتحت خراطيم المياه تغرق المتظاهرين في الميدان . إحدى سيارات المطافئ تسرع نحونا . أسرع شاب وتسلقها . حاول جاهد أن يغلق خرطوم المياه المتدفق باتجاه الناس . أدرك أحد الضباط الأمر، فقفز هو الآخر بدوره واعتلى السيارة . حاول أن يسقط الشاب إلى أسفل حتى لا يُغلق تدفق المياه. تمسك به الشاب حتى سقطا سويا وسط هتافات المتظاهرين .
هرب الضابط للوراء خوفا من المتظاهرين وقام الشاب قويا نشيطا وسط صرخات الفرح والهتاف . انطلقت الأصوات تحيا مصر . ضطت علينا قوات مكافحة الشغب تحاول سلبنا المساحات التي استولينا عليها ، فتشابكت أجساد المتظاهرين بقوة وحاولت دفع القوات للوراء . وظللنا نهتف ونصرخ كلما أزحناهم عن شبر من أرض الميدان . كلما دفعنا بالقوات للوراء وأخذنا شبرا جديدا نصرخ فرحين وكأننا نحرر الأرض من مغتصب عنيف .
بعد مضي اثني عشر يوما على انطلاق ثورة 25 يناير حُققت الكثير من الانجازات أقل ما توصف بها أنها تاريخية ، حيث قضت الثورة نهائيا على إمكانية الترشح مجددا من قبل الرئيس مبارك ، كما قضت نهائيا على أمل توريث الحكم لابن الرئيس، كذلك حققت إمكانية تغيير الدستور الذي ظل حلما يراود الملايين من المصريين منذ ثلاثين عاما، لكن هناك جانب آخر حققته الثورة على المستوى الاجتماعي وهو إيقاظ الشخصية المصرية ، وبث فيها الروح بعد عقود من القهر والاستبداد السياسي ، والفقر الانكسار الذي خنق كل إبداع لدى المصري ، وجعله يتقزم أمام ذاته ، ويشعر بالتدني والمذلة بسبب مواقف النظام الخارجية ، وممارساته الداخلية . ظن المصريون لعقود أن الشعب المصري مات وأن تلك الروح الوثابة الخلاقة التي تمتع بها المصري قد ضاعت ، حتى أنك إذا قدر لك وجلست في مترو الأنفاق ونظرت في وجوه المصريين لوجدت وجوها متعبة كئيبة ، لا يعرف الفرح طريقه إليها ، وفجأة تتجمع الملايين في ميدان التحرير ، ملايين تحتشد وتتراص لتهتف هتافا واحدا يطالب بإسقاط النظام والمطالبة بدولة المواطنة وتبني قيم الحرية . بنى الشعب شكلا منظما نموذجيا للمجتمع يسود فيه الدعم المجتمعي والمساندة . شكل الشباب لجانا للإعاشة تجمع التبرعات من المتظاهرين وتشتري الطعام والشراب، وتوزعه على الجميع بعدالة وحكمة بغض النظر عمن دفع وعمن لم يدفع . يجمع الشباب القمامة ومخلفات الطعام حتى يظل الميدان نظيفا . أقام الأطباء من المتظاهرين عيادات طبية يُعالج فيها من أصيب من جراء اعتداء بلطجية النظام عليهم.
أقام الشباب مجتمعا يبدو مثاليا ، تسود فيه قيم المودة والتكافل الاجتماعي ، وكأن الناس شعروا أن هذا البلد أصبح بلدهم مرة أخرى ، بعد أن عانوا بغربة واغتراب فصلهم عن الولاء لمجتمعهم . حتى بعد أن أطلق النظام البلطجية تدمر وتخرب ، وفتح أبواب السجون، وتخلت الشرطة عن دورها في الشارع ، وغاب الأمن شكّل الناس لجانا شعبية مهمتها حماية البيوت والمنازل ، . حاول الناس بوعي أن يحموا المال العام و مرافق الدولة ويسدوا الفراغ الأمني حتى أنهم شكلوا دروعا بشرية تحمي المتحف المصري حتى يسلموه للجيش . لم يقتصر الأمر على حفظ الأمن وحماية الممتلكات الخاصة والعامة ، بل شكّلت اللجان الشعبية لجانا خرى في بعض المناطق الشعبية مهمتها مراقبة الأسواق حتى لا يغالي الناس في الأسعار ، ومراقبة أفران الخبز حتى لا يبيع أصحابها الدقيق في السوق السوداء ، ونظموا طوابير الخبز حتى لا يشعر الناس بأزمة .
في الميدان حيث تجمعت الملايين لأيام كثيرة لا تفرق بين الغني والفقير ، بين العامل والموظف والطبيب ، خلع الناس أردية الخوف ، ونهضوا ليدافعوا عن وطن قسا عليهم ، لكنهم لم يتخلوا عنه ، وطن طحنهم تحت عجلات الفساد السياسي والأخلاقي . لقد جوّع الناس الشعب ،فاضطر أن يكسب عيشه بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة ، حتى فسدت الأخلاق وضاعت قيم العمل والجدية ، واستشرى الفساد والرشوة والابتزاز .
عُرف المصري دوما أنه في وقت الشدائد يصير قويا قادرا على مواجهة ظروفه أيا كانت . لم تندلع الثورة فقط يوم 25 يناير وتدفع الناس للنزول للميدان ، بل اندلعت نيران الغضب والصمود من داخل المصريين لتحرق نظاما دكتاتوريا تفسخ من داخله وشاخ . كسر المصريون حوجز الخوف وصفعوا القهر صفعة قوية وظهر جيل جديد يعتبر نواة جيدة لكوادر سياسية تتشكل في ظل المناداة بالدولة المدنية ، ودولة المواطنة ، هذه الكوادر ستشكل تاريخ مصر لعقود قادمة .
حوّل المصريون التظاهرات إلى كرنفالات واحتفالات إن دلت على شئ ستدل على قيم التحضر والتمدن التي يتمتع بها الشعب المصري ، وتلك الفوضى السابقة في كل شئ لم تكن إلا نتائج لمقدمات معروفة وطالما نددنا بها .
غنى المتظاهرون الأغاني الوطنية ، أغاني أفرزتها الحقبة الناصرية التي آمن فيها الناس بالقضايا الكبرى والمد الثوري . غنّى الناس ورقص الشباب على أنغام خالدة ، وتمابلت الفتيات آمنة وغير خائفة من التحرش الجنسي الذي شاع مؤخرا في شوارع القاهرة علنا دون رقيب . رقص الأطفال ، وقال الشعراء القصائد ، وهتف السياسيون بالشعارات المسيسة ، وصلى الناس في الميدان مسلمين وأقباط جنبا إلى جنب دون فتنة ودون تمييز .
في الميدان انصهر الشعب المصري بكل فئاته وتلاحموا، فلا تقدر على التفريق بين الغني والفقير بين الصعيدي والبحيري والقاهري ، بين المسلم والمسيحي ، بين المتعلم والفلاح والعامل . هي مصر تنهض قوية عملاقة ملحمة خالدها يصنعها المصريون . هي مصر بخفة دم أبنائها التي ظهرت في اللافتات والشعارات التي تكتب أو يهتف بها المتظاهرون . هي مصر بتعددها وتنوعها وتجاور كل شئ فيها بكرنفالية واحتفالية .
30 يناير

استيقظت على صوت أحد أصدقائي من البال توك يتحدث من أيرلندا . كان النظام قد قطع خطوط الانترنت منذ يوم 28 يناير فلم أعرف كيف أدخل البال توك لأوصل لهم ما يحدث في مصر . دأب ذلك الصديق المعارض السوري الذي يعيش كلاجئ سياسي في أيرلندا على أن يتحدث إلي يوميا في نهاية الليل؛ ليسمع مني هو وبقية أصدقاء غرفة” SYRIAN UBRISING ” ما يحدث في الميدان . كانوا يعتبرونني مراسلة الغرفة في ميدان التحرير . يتصل ذلك الصديق على هاتفي ، ثم يقتح السماعة الخارجية للهاتف، ويوصلها بميكرفون الغرفة، وأنا أحدثهم عن المظاهرات ، وماذا يفعل المصريون في الميدان ، وتلك التفاصيل المدهشة التي أدهش بها الشعب المصري العالم . قلت له سوف أنزل إلى الميدان الآن . فاطمئن علي وأخبرني أنه ينتظرني مساء لأعطيهم التقرير اليومي عما فعلت أنا والمتظاهرون في الميدان .
وصلت إلى وسط البلد وأردت دخول الميدان من ناحية شارع طلعت حرب ، فوجدت جماعة من البلطجية منعوني من الدخول ، حاولت أن أجادلهم، لكنني لمحت الغضب في وجوههم ، وقد تطاول علي أحدهم بالشتائم فقررت أن أعود من حيث أتيت ،وأبحث عن مدخل آخر للميدان .
توجهت لشارع محمد محمود حيث توجد الجامعة الأمريكية فوجدت لجانا شعبية تبدأ من أول الشارع نظمها المتظاهرون حتى يمنعوا دخول بلطجية النظام وسط المتظاهرين حتى لا يتحرشوا بالشباب . فتشتني الفتيات الواقفات على مدخل الشارع ، ثم دخلت . الميدان يكتظ بمئات الآلاف من المصريين ، من كل فئات الشعب ، من ينظر للوجوه لا يستطيع أن يفرق بين الغني والفقير ولا الطبيب ولا العامل ، كلها وجوه مصرية سمراء مبتسمة . الجميع يبتسم . الجميع يهتف . الجميع يغني . سيمفونية يعزفها الشعب المصري . قابلتني امرأة تمسك بعلبة ورقية ممتلئة بمقرمشات الخبز . مدت يدها لي، وقالت خدي واحدة كنتاكي . ضحكت في وجه المرأة وكنت قد فهمت المزحة ، فمنذ أن أطلق النظام شائعاته عن المتظاهرين في الميدان أنهم خونة وعملاء ، ولديهم أجندات خارجية ، ويأخذون كل يوم وجبة كنتاكي ومائة يورو وصارت مسألة الكنتاكي مزحة المتظاهرين . كل واحد يقابلك يعطيك خبزا أو بلحا أو رغيف فينو محشوا بالجبن ويقول لك : خد كنتاكي مصري . كنوع من السخرية من كلام النظام واتهامه للمتظاهرين بكل هذه الاتهامات . أخذت من يدها قطعتين من الخبز . وشكرتها واتجهت في طريقي . أخذت أتجول هنا وهناك وأحكي مع مختلف الفئات المتواجدة داخل الميدان. تحدثت إلى الكثيرين من النساء والفتيات . الجميع لديه استعداد تام على الصمود حتى النهاية . قلت لفتاة منقبة بعد ن عرفت أنها جاءت للميدان بمفردها ، وأنها طالبة في كلية الحقوق . وأهلها مطمئنون عليها وسط هذه المئات الآلاف من المصريين شبابا ورجالا وعجائز . قلت لها ألا تخشين على نفسك . ليس معك أحد من أسرتك ؟ قالت بابتسامة ظهرت في عيونها ، ولم تظهر على وجهها المختفي وراء النقاب : أنا معي مصر كلها لا أخاف شيئا .
كان الثوار يرتبون مواعيد حراسة الشباب للميدان إلى جانب تواجد الجيش . اقتربت من بعض الشباب كانوا يتنافسون على من يجلس للحراسة . قال شاب يظهر عليه الإعياء . أنا سأسهر الليلة . فرد عليه آخر أنت لم تنم منذ يومين . عليك أن ترجع الليلة لبيتك تطمئن على والدتك وأخواتك الصغار ، وتغير ملابسك وتعود غدا صباحا ، ومع إصرار الشباب واتفاقهم مع الشاب المتكلم وافق الشاب الذي يظهر عليه الإعياء واتجه نحو محطة المترو ، بعد أن ابتعد قليلا رجع بوجهه إليهم وقال : هل يريد أحد منكم شيئا أحضره معي . قال له أحدهم : يا ريت تحضر لي فوطة نظيفة . هز رأسه موافقا وانصرف . شعرت أن هناك إحساسا كبيرا بالمسئولية..وكان دور الناشطين والحقوقيين واضحا جدا، فجميعهم سخروا بيوتهم ومكاتبهم الموجودة بوسط البلد لخدمة المعتصمين.
أكثر من 1000 طبيب متطوع كانوا مقيمين داخل الميدان يقدمون خدمات طبية وإنسانية بتفان وإخلاص لتحميس المتظاهرين على البقاء. نداءات مستمرة للموجودين خارج ساحتهم للانضمام إليهم. كذلك كانت تأتي بعض الأسر والعلائلات لتزور وتقدم الطعام والشراب للمعتصمين ، وتقضي اليوم ثم تعود على وعد أن تأتي في يوم آخر تحضر ما يحتاجه المعتصمين من طعام وشراب . .
الغريب في الأمر أن ثورة المصريين لم تكن ثورة جياع ولم يخرج فيها البروليتاريا بل كان أغلب المتظاهرين فيها من الطبقة الوسطى، فقد التقيت هناك بعدد من الطلاب بالجامعة الأمريكية وجامعات خاصة مختلفة . شباب يسكن في المعادي والمهندسين ومصر الجديدة ، وهي أحياء معروف أن ساكنيها غالبا من الطبقة الوسطى. . دارت بيني وبينهم حوارات مطولة ووجدتهم على درجة كبيرة من الوعي الفكري والسياسي، وهو ما يؤكد على ما قلته سابقا من أن الثورة المصرية ثورة حرية وكرامة وليست ثورة خبز وجياع .
مر النهار سريعا وحل الظلام قررت العودة للمنزل ، لكن ساعات حظر التجوال كانت قد بدأت ، فذهبت إلى زوجي الروائي سعيد نوح الذي كان قد حضر من ساعة ويجلس مع أصدقائه عند ركن أطلقوا عليه ركن الدولة المدنية . ذهبت إليه وسألته كيف سنعود للمنزل وحظر التجوال قد بدأ . فاقترح أن نذهب لحزب التجمع ننام هناك مع الكثير من الأصدقاء الذن يهربون من برد الشتاء ومطره وينامون في مقر الحزب في وسط القاهرة . تذكرت صديقتي الكاتبة سهى زكي ، فقلت له بفرح : سهى تسكن في شارع معروف يمكن أن نذهب إليها ننام عندها حتى الصباح . فوافق . واتجهنا إلى منزل سهى التي كانت في انتظرانا بعد أن تحدثت إليها في الهاتف .
31 يناير
كنت قد سهرت ليلة الأمس على كرسي مستطيل في شقة صديقتي سهى زكي . جلست أنا على كرسي وسعيد على كرسي حتى الصباح نشاهد القنوات الفضائية المختلفة . حاولت أن أغفو قليلا ، لكن اصوات إطلاق الرصاص كانت تأتينا من الشوارع المجاورة من شارع رمسيس وشارع الجلاء . جاء خبر على قناة البي بي سي البريطانية الناطقة باللغة العربية أن هناك إطلاق نيران يتم تبادله بين بلطجية وقوات الجيش بعد انسحاب قوات الشرطة من الشوارع . قال مراسل البي بي سي أن إطلاق النار يسمع في شارع رمسيس ، وبالطبع كان ذلك الموقع بجوار الشارع الذي تسكن فيه سهى . شعرت بالقلق على المعتصمين في الميدان . داخلني شعور أن البطلجية قد يذهبون إلى المعتصمين يهاجمونهم . لكن قناة الجزيرة كانت تثبت كاميراتها على الميدان ، وبدا الوضع هناك آمنا ، فاطمئن قلبي ، لكنني لم أستطع النوم . كانت سهى قد أخذت طفلتها ودخلت للنوم ، وتركتنا أن وسعيد نشاهد الفضائيات حتى تسلل أو خيط لنور الصباح . قلت سعيد : الصبح طلع ، هل نمشي الآن ؟ فوافقني دخلت الحمام وغسلت وجهي ، كذلك فعل سعيد وانصرفنا في هدوء دون أن نوقظ سهى وطفلتها .
بحثتنا عن محل لبيع الطعام . كان بالقرب من بيت سهى محل يبيع الفول والطعمية . أكلنا فيه وأخذنا معنا بضعة ساندوتشات واتجهنا للميدان . قابلنا بعض الشباب الذي كان ينام في الخيام البلاستيكية التي نصبوها على الأرصفة ووسط الميدان . أمسكت بكيس السندوتشات . وزعتها على الشباب وأن أضحك : تفضل كنتاكي مصري بلدي بالهناء والشفاء . كان الشباب يمد يده باسما يأخذ السندوتسشات وينصرف . وزعت كل ما معي من طعام ، ووجدت طفلا صغيرا يفتح عينيه على الرصيف المقابل لشركة مصر للطيران . بحثت في حقيبتي عن أي طعام ، فوجدت علبة بسكويت صغيرة ، فأخذتها واتجهت إليه . أعطيتها له ، فأخذها في صمت وجلس يأكلها . سألت سعيد هل هذا الطفل ينام هنا دون أهله ؟ فقال هو من أطفال الشوارع الذين يبيتون عادة في الميادين وأسفل الكبارى ، وهم نتاج عهد مبارك ، الذي كثرت في عصره ظاهرة أطفال الشوارع وازدياد عدد الفقراء والعشوائيات . قلت ولماذا ينام في الميدان هذا الصغير ؟ فقال : هو يحتمي بالمعتصمين ، ستجدين هنا كثيرا من أطفال الشوارع يشعرون بالدفء هنا ، ويجدون الطعام والشراب .
تجولنا في الميدان . كان الكثير من المعتصمين نائمين في خيامهم . من استيقظ منهم يجلس على جوانب الأرصفة يتناول طعامه ويتدفأ في أكواب الشاي الساخن ويقرأ الجرائد . جرائد المعارضة تحديدا كانت في أيدي المعتصمين . كانت جريدتي الشروق والمصري اليوم هي أكثر الجرائد تداولا في ايدي الثوار . ما يعجبون به من مانشتات الصحف يعلقونها على الحوائط وعلى أركان الخيام .
كان الباعة الجائلون يبيعون للثوار كل ما يحتاجون في يومهم بدءا بأكواب الشاي الساخن وانتهاء بالأعلام المصرية المرفرفة .
بدأت إذاعة الميدان تبث أغاني وطنية وحماسية قبل أن يستيقظ بقية الثوار ، وقبل أن تتدفق الآلاف على الميدان . انقضى اليوم بين الهتافات والأغاني ، ثم قررنا الذهاب للمنزل بعد هذا الإرهاق الشديد . قلت لزوجي ليتنا نستريح غدا ونرى ما الذي تحتاجه البنت ، فهي في الثانوية العامة وتحتاج لرعايتنا . لنستريح غدا نجهز طعاما يكفي الأيام التالية ، وننظف المنزل والثياب . وافق زوجي على أن نستريح قليلا ، ثم نعود في اليوم التالي .
حين عدت للمنزل واسترحت قليلا اتصل بي أصدقائي من البال توك ، فبدأت أحدثهم بصوت مختنق ومتعب من كثرة الهتافات . حاولت الاعتذار لهم بأن صوتي لا يكاد يطلع ، لكنهم أصروا على معرفة تطورات الميدان . حاولت عبر صوت مخنوق أن أشرح لهم تفاصيل اليومين الماضيين ، ووعدتهم أن أحادثهم في أول نزول لي للميدان .
1 فبراير
ارتحت ظهر اليوم التالي ، لكنني لم أستطع منع نفسي من الذهاب إلى الميدان كما أردت. وصلت للميدان. كان الميدان قد امتلأ بأناس من كافة الأعمار والمستويات الاجتماعية . الوضع اختلف كثيرا عن يوم 25 حيث كان معظم المتواجدين في الميدان من الشباب ، شباب الطبقة المتوسطة ، شباب متعلم ومثقف ، نظم تواجده عبر الفيس بوك وتويتر . اليوم الوضع مختلف هناك وجوه مختلفة قليلا ، هناك عمال وفلاحون ، شباب وورجال تعدى سنهم سن الشباب ، بنات صغيرات ونساء . شعرت أن مصر كلها بكل شرائحها الاجتماعية توافدت على الميدان . رغم الزحام الشديد استطاعت أن تشق الطريق إلى مربع التهوية الذي يعلو محطة مترو التحرير . جلست فوق حافة الدائرة فلفحها الهواء الساخن الذي يخرج من المترو من الفتحات الصغيرة . طال الوقت وبدأت الهتافات تهدأ . وبدأ الشباب يغنون الأغاني الحماسية التي تُنشد للوطن . التف شباب وشابات حول شاب يعزف الجيتار ويغني أغنية لشادية : ” ياحبيبتي
يا مصر ..يا مصر.. ياحبيبتي..يا مصر ..ماشافش الرجال
السمر الشداد ..فوق كل المحن .ولاشاف العناد..في عيون الولاد وتحدي الزمن ..ولاشاف إصرار..في عيون البشر ..بيقول أحرار
ولازم ننتصر”
جلست بجانبهم تغني بينهم ، دب الحماس في لقلوب . المرأة التي تجلس بجانبها صوتها مميز ورائق وهي تغني معهم . التفت لها لترى من هي ذات الصوت الرائق . توقفت عن التصفيق والغناء . وتراجعت برأسها للوراء دهشة وتعجبا . كانت المرأة التي تغني بجانبها تضع النقاب على وجهها . تعرف هي نفسية النساء المنقبات وكيف يحرمن كل شئ . كل شئ بالنسبة لهن حرام ، الغناء حرام ، والتصفيق في مجلس عام حرام ، وصوت المرأة عورة ، فما تلك الطاقة السحرية الشاعرية التي تملكت قلوب الجميع . وتسللت بخفية إلى قلب تلك المرأة المشتعلة فرحا ومحبة وتغني معهم دون حذر ، ودون تخوف من شئ . انتبهت لها المرأة ، ولعيونها المحدقة والمندهشة . فقالت لها بصوت عال حاولت أن يكون أعلى من الموسيقى ومن أصوات الشباب : مبروك علينا مصر الجديدة . احتضنتها بفرح وخجل في آن . بادلتها المرأة الفرح والتحية واندمجتا تغنيان مع الشباب .
بعد قليل جاءت إليهم بنتان وقفتا أمام الحلقة التي تضج بالفرح والبهجة . قالت واحدة منه وهي تشعر بالخجل وبصوت لم يسمعه الجميع : بنجمع فلوس للإعاشة .. هل تريدون المساهمة معنا ؟
لم يسمعها الكثيرون ، فهتف شاب بصوت عال : نسمع يا جماعة .. البنات بيقولوا حاجة .
كررت البنت الثانية نفس الكلام ، فبدأ الجميع يعطيها بعض النقود . كل واحد دفع ما يقدر عليه . أخذت الفتاتان النقود وانصرفتا ، ولم يمض ساعة إلا وقد عادت البنت الأولى ومعها ثلاثة من الشباب يحمل أحدهم كرتونة مياه معدنية ، والآخر يحمل علب المياه الغازية والثالث يحمل حقيبة مليئة بالسندوتشات . كانت الفتاة تعطي كل واحد زجاجة ماء وزجاجة مياه غازية وسندوتشين . لم يتوقف الغناء ظللنا نأكل ونغني ونصفق .
2 فبراير

حفيف رصاصة بجانب القلب
حين استيقظت في الصباح كان يحتل ذاكرتي مشهد وحيد ، غيمة صغيرة لونها ما بين الرمادي والأسود ، تكبر ، ثم تكبر حتى تملأ كل السماء ، مددت يدي التي طالت الغيمة بشكل غير منطقي وغير مبرر لي ، وأزحتها عن السماء ، لكن الغيمة تروح وتجيئ وتظلم كل ما حولها ، وتقترب لتضغط على روحي. تعجبت من سريالية الأحلام وعبثيتها ، وكيف أمكنني في الحلم أن تطول ذراعي حتى تمكنت من إزاحة الغيمة . استبشرت خيرا بتلك الرؤية ،بعد صلاة الصبح قمت باتصالات لأتأكد وجود أصدقائي في الميدان . احتسيت كوبا من الشاي وخرجت . ابنتي على غير العادة تحاول منعي من النزول . وعدتها أن أحافظ علي نفسي.وأنني سأتجنب المواجهات العنيفة. سعيد أخبرني أنه سيذهب للعمل يجدد إجازته ، ثم يأتي إلى الميدان . وصلت إلى نقابة الصحفيين ، وجدت صديقتي في انتظاري. هتف مع الجموع . كانت اللحظات تمضي بسرعة وحماس غير عادي . اتجهنا إلى الميدان . كنت أسترجع رؤية الأمس ولا أهتف مع الشباب ، حتي أن صديقتي انتبهت، ولكزتني في جنبي قائلة: اهتفي. نظرت إليها وقلت بثقة : مصر هترجع لنا ثانية . قلتها وأنا أسرع بخطواتي ألتقط الصور للشباب الذي يأتي من كل الاتجاهات . كان يسير بمحازاتنا شاب يحمل علما ، ويهتف بقوة . نظرت إليه ، فانتبه لنظراتي وواصل الهتاف . ملامحه مميزة . فيه شئ لا أعلم ما هو يشدني إليه . شيئ مألوف بالنسبة لي ، لكني لا أعرف ما هو .كانت الأصوات تعلو. كنت أردد الشعارات مع الأصوات المنهدرة . المظاهرة لا تتجه للميدان كما كنت أتخيل، بل تتجه لشارع يؤدي لميدان باب اللوق وسط حشد كبير من رجال ونساء في مختلف الأعمار . خرجت أصوات من الشباب تنادي بالاتجاه إلى وزارة الداخلية . انقبض قلبي. صرخت فيهم أنهاهم عن الذهاب باتجاه ” لازوغلي” لكن أحدا لم يستمع لي . ضاع صوتي وسط الهتافات والصراخ . فكرت أن أعود للميدان لأبحث عن زملائي الذين انفرط عقدهم وسط هذه الآلاف، لكنني تراجعت عن القرار واتجهت معهم إلى ميدان باب اللوق كما اتفقو أخيرا. حين اتجهوا لشارع منصور. لمحت الشاب الذي رأيته منذ قليل . كان يرفع العلم عاليا ويهتف بسقوط النظام . استطعت تمييز صوته وسط هذه الهتافات الهادرة . التفتت برأسي، فوقعت عيناي في عينيه . ابتسمت في هدوء واتجهت نحوه . رفع العلم عاليا أكثر وهتف أكثر ، وكأنه يرحب بي ، دون أن يوجه لها كلمة . في لحظة بدأ وابلا من الرصاص ينهال علينا . من العمارات الشاهقة التي تحيط بميدان باب اللوق . اعتلى الشاب كتف رجل جواره، وراح يواجه مصدر الرصاص بالهتاف وبالعلم الذي يرفرف عاليا . في الحقيقة لم يخرج الهتاف أبدا ، تلقى رصاصة في رقبته، فسقط . ارتبك الجميع، واختلط الصراخ بالهتاف . ارتجف قلبي ، وزاغت عيناي . تسمرت قدماي في الأرض. جسده يترنح بين يدي. دماؤه تسيل على جسد الشاب الذي حمله على كتفيه. كنت كمن دخل كادر سينمائي صوره مصور محترف ببطء شديد . ترنح جسد الشاب الذي يحمله . بدا أنه يريد أن ينزله . استغرق جسده بضع ثوان أخر ، ثم سقط في صمت . غابت كل الأصوات والهتافات . تباعدت المسافات بين الجموع . اغمضت عيني،لأعيد ذات الكادر السينمائي.عاد البشر جميعا للوراء. كل من في الكادر عاد لمسافات لم تعد أتبينها . أنا بجسدي المتصلب المنتصب ، وهو بجسده الساقط الآن يحتلان المشهد .انكفأت على الجسد الذي يتفجر منه الدم ساخنا وفائرا .. قبلته بين عينيه وقلت هامسة : لماذا نلتها دوني . حفيف الرصاصة شعرت به يجرح رقبتي . لكنها أخطأتني أنا واستقرت في رأسه هو . صوت حفيف الرصاصة أقترب أكثر من روحي ، لكنها لم تستقر في جسد أنا ..
” نازلا رحلة الجرح القديم
إلى تفاصيل البلاد
و كانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد
و كنت وحدي
ثم وحدي …
آه يا وحدي ؟
و أحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
يشتدّ في النسيان” ( من قصيدة أحمد الزعتر لمحمود درويش بتصرف )

تجمع الناس الذين تشجعوا على القدوم إلينا بعد أن وجدوني أنكفئ عليه وأحدثه . دبت في قلوبهم الشجاعة ولم تعد تهمهم الرصاصات المتساقطة بعشوائية . قمت متخاذلة مثقلة بروحه التي شعرت بها تفارق الجسد المضرج بالدماء وتستقر داخلي . قلت لهم بوهن : حاولوا ترفعوه للرصيف . لقد مات . لا أعرف كيف تركتهم يرفعونه ويأخذونه بعيدا وأنا جالسة بالأرض أرفض النهوض .
تأكد لي أنني أعيش في حلمي الآن . لم أستطع أن أغمض عيني دون أن أشعر بحفيف الرصاصة التي مرت بجانب أذني، واستقرت في رأس الشاب الذي لم أعرف له اسما .
لا أعرف كيف عدت إلى البيت . لأيام ظللت حبيسة السرير . أخيرا عدت إلى الميدان، لكي أستطيع أن أسرد على روحه المستقرة داخلي أحداث ما حققه الثوار من تقدم . كنت كل ليلة أقص عليه الهتافات الجديدة والنكات خفيفة الظل التي يطلقها المتظاهرون فيضحك معي. ولما أشعر بحزن وأسى في روحه المستقرة داخلي أعيد إليه البهجة وأعده أن أحقق له الهدف الذي تلقى من أجله رصاصة بالرأس على ألا يحزن مرة ثانية .
3 فبراير
لم أستطع أن أبتعد اليوم عن الميدان رغم أن ما حدث بالأمس كان كفيلا بأن يجعلني أهرب طويلا بعيدا عن الأماكن التي ملأت قلبي رعبا، أماكن تعرضت فيها للضرب والعنف بأشكال شتى ، ووصل الأمر إلى أن حفيف الرصاصة بجوار قلبي ما زال هسيسها يملأ روحي فزعا .
حاولت ابنتي أن تذهب معي للميدان ، لكنني شعرت بخوف عليها . صحيح أنا لا مانع عندي أن أضحي بنفسي ، لكن التضحية بصغيرتي التي لم تتعد الخامسة عشر ربيعا لهو صعب على نفسي . منعتها من الذهاب بحزم . ردت على ساخرة بعد أن وصفتني بالدكتاتورية : احذري يا ماما سوف نسقط حسني مبارك وسيأتي عليك الدور لنسقطك من أعلى العرش الذي تتربعين عليه بدكتاتورية . خبطتها بود على ظهرها وقلت لها : أنا عرشي نلته منكم بالمحبة وليس بالدكتاتورية . ثم أكدت لها أنه حين يستقر الوضع في الميدان . ويكف النظام الفاشي عن ممارسة القهر والعنف ضدنا سوف آخذك معي للميدان . غضبت مني ودخلت حجرتها ، لكنني لم أتنازل عن قراري وتركتها ونزلت للميدان . حين وصلت كان بعض الأطباء قد استولوا على مسجد صغير كان في الأصل ممر بين عمارات ميدان التحرير . اتخذه العاملون في المحلات المحيطة الميدان مصلى لهم . استولى عليه الأطباء والشباب والشابات الذين تطوعوا لمعالجة الجرحى لواقعة الأمس التي أطلق عليها الإعلام ” موقعة الجمل ” . كان النظام قد أرسل مؤيدوه ومعهم الجمال والخيول ليهاجموا من في الميدان ، لكن المعتصمون تصدوا لهم بجدارة ، وطردوهم بعد أن قبضوا على الكثيرين منهم ، لكن موقعة الجمل تلك خلفت وراءها جرحى بالآلاف ، منهم من فقد عينيه ومنهم من شجت رأسه ، ومنهم من أصيب في ساقيه . جرحى كثيرون بعضهم أصابته خطيرة نقل للمستشفيات ، وبعضهم إصابته خفيفة عالجه الأطباء في الميدان ن في المستشفى الميداني الذي كان مسجدا كما سبق وأوضحت . اتجهت إلى صديقة لي ناشطة حقوقية وطبيبة في ذات الوقت ، قلت لها أريد أن أتطوع معكم في علاج الجرحى . فرحت ودخلت لخيمة بلاستيكية بجوار المستشفى الميداني وأحضرت لي بالطو أبيض وقفازات مطاطية وأخذتني معها . جلست أساعدها بإعداد الضمادات وسرنجات الحقن ، والمطهرات . وجدت فتاة لا يتعدى عمرها التاسعة عشرة وقد أصيبت في ساقها اليمنى بجرح عميق . طهرت لها الجرح ثم وضعت لها الطبيبة ضمادة وألصقت عليها اللاصق الطبي . كانت الفتاة تتألم وتبكي . جلست بجانبها أمسك بيدها وأطمئنها . وسألتها عن أهلها ، فعرفت أنها لم تخبر والديها بإصابتها بالأمس في ” موقعة الجمل ” وأنها تتصل بهم كل فترة من زمن وتجعل الطبيبة تحدثهم وتخبرهم أنهاة تساعدها في علاج المصابين ،حتى يطمئنوا أنها بخير . ربت على كتفها وطمأنتها أننا جميعا معها ، وأعطيتها هاتفي للتصل بأمها تطمأنها ، بالفعل اتصلت بأمها ، وأخبرتها أن هناك صديقة لها تريد أن تسلم عليها . أخذت الهاتف من الفتاة وأنا لا أعرف ماذا سأخبر أمها ، لكنني ارتجلت ما خطر على ذهني وقلت لها أن ابنتها بخير وأنها تساعدنا . ابتسمت البنت في امتنان ، وأخذت هاتفي وانتقلت لمريض آخر أسأله عما يريده . ظللت مع الطبيعة ساعتين دون أن أشعر بمرور الوقت . جاءني اتصال من ابنتي . كانت منزعجة ، فقد استمعت لأصوات إطلاق نار ، وعرفت من الجيران أن البلطجية سوف يهجمون على المربع السكني الذي نسكن فيه . طمأنتها ، وطلبت منها أن تغلق الباب جيدا ، ولا تفتح حد مهما كان إلا أنا ووالدها الذي كان قد وصل الميدان منذ ساعة . اتصلت بأختي في منزلها وطلبت منها أن تتصل بابنتي كل ساعة لتطمئن عليها .
وصل سعيد وقد اتصل بي . قلت له أنني في المستشفى الميداني ، فأخبرني أنه يجلس في ركن الدولة المدنية الذي أنشأه هو وبعض الكتاب والمثقفين في مقابل شارع ” طلعت حرب ” . بعد أن فرغت من العمل التطوعي اتجهت لركن الدولة المدنية . وجدت بعض الكتاب والمثقفين جالسين يتحدثون عن تنوع المشهد في الميدان . وأن الآن لا فرق بين رجل أو امرأة أو مسلم أو مسيحي أو غني أو فقير . جلست معهم نتحدث عن دور ” الإخوان المسلمون ” في الثورة ، ودورهم الواضح بالأمس في صد هجوم موقعة الجمل . وصف بعض الأصدقاء ” الإخوان المسلمون ” بأنهم انتهازيون ويريدون أن يسرقوا الثورة . قلت لهم لا يجب أن نمارس الإقصاء والتهميش ، ونقصي مكونا مهما من مكونات الشعب المصري ، وأن الإخوان أثبتوا مدى وطنيتهم وخوفهم على مصر حتى أنهم لم يرفعوا شعارا دينيا واحدا . بل ذابوا وسط الميدان دون أن يسيئوا للثورة . اختلف معي بعضهم واتفق البعض ، ثم قلت لهم دعونا من الجدل السياسي . ليس هذا وقته . دعونا نفرح مع الناس بثورتنا المجيدة . وجلسنا نغني ونصفق . غنينا كل الأغاني الوطنية التي كانت تغنى في الستينيات والسبعينيات في مرح وبهجة . قلت والدموع تملأ عينيا : كم نحبك يا مصر .. مصر عادت لنا بعد أن سرقت منا عقودا طويلة . أخيرا يا رب مصر رجعت لنا تاني .
حل المساء فقررنا العودة حتى لا تصاب ابنتي الصغيرة بالرعب لو تأخرنا عليها أكثر من ذلك .
4 فبراير
في الصباح استيقظت ابنتي وهي تصر على الذهاب معي . حاولت أن أثنيها عن رغبتها ، لكن زوجي قال أن الميدان صار آمنا ، ولن يغامر النظام بإرسال بلطجية مرة ثانية بعد الفضيحة العالمية التي حدثت بعد ” موقعة الجمل ” ، بعد أن أرسل النظام لشباب الفيس بوك والبال توك والتويتر بلطجية يركبون جاملا وخيولا . يعني البداوة والتخلف في مقابل المدنية والحداثة . وافقت زوجي وأخذت البنت للميدان . في المترو كانت تلف علم مصر على وسطها وتتحدث عن الثورة ، فرمقها رجل ملتحي وقال لها بغضب : تفخرون بالخروج على الدين . إلى جهنم وبئس المصير . نظرت إليه ابنتي في رعب وصمتت خوفا ،فغضبت وقلت له : هل تخبرني أن دينك الإسلامي يحرم الخروج على الحاكم الظالم ؟ فقال بغضب نعم حفظا على وحدة الأمة . فقلت له : أنت لا تفهم دينك . الإسلام يحتم عليك الخروج للتظاهر والثورة ضد الظلم . أنت تفهم الإسلام بشكل خاطي . قال لي كيف تفهمين أنت الإسلام ألست علمانية ؟ ضحكت ساخرة وقلت له نعم أنا علمانية وليس معنى ذلك أنني كافرة . ارحمونا من الفهم الخاطئ ، مصر دولة مدنية وستظل دولة مدنية ، والثورة على الظلم شئ أساسي . اتهمني بالكفر واتهمته بالجهل ، ثم فض الناس الاشتباك بيننا ، وكنا قد وصلنا للمحطة التي ستؤدي للميدان . طلبت منها أن تفك العلم وتخفية في حقيبتها حتى لا تعرضنا لهجوم البلطجية ونحن في الطريق للميدان . وصلنا وكان الزحام شديدا . كانت إذاعة الميدان تبث أغنية لعبد الحليم حافظ ( صورة صورة صورة ، كلنا كده عايزين صورة ، صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة ) شعرت كأن الشعب المصري كله يرقص . يرقص على أنغام الأغنية . الجميع في حالة نشوة وفرح ، الجميع يغني ويرقص . حتى أنني وجدت شبابا ملتحيا ونساء منقبات يرقصون ويرقصن على أنغام الأغنية . كان الجميع في حالة نشوة وبهجة . الجميع كأنه يؤدي صلوات للفرح وليست مجرد تظاهرات . هذه مصر الحقيقية . هذا هو الشعب المصري في جل عظمته . جلت بعيني في الميدان كانت الأعداد قد وصلت إلى أكثر من مليونين من المصريين في ميدان التحرير . كنا في أسبوع الصمود . أسبوع الصمود كانت فيه الدعوات لمليونية كل يوم لمدة أسبوع حتى نجبر حسني مبارك على الرحيل . تعددت المنصات في الميدان والإذاعات ، إذاعة تبث الأغاني وأخرى عليها وجه من النخبة السياسية يحاول التحدث إلى الناس ، وثالثة يقف عليها بعض الشباب يلقون قصائد الشعر . تجولت في الميدان لساعة كاملة . كل جماعة تلتف حول شئ أقف عندها قليلا أنا وابنتي . حتى وصلنا إلى منصة في مقابل مجمع التحرير . كانت المنصة يقف عليها عدة شباب يعزفون الجيتار ويغنون . أعجبت ابنتي بهم فطلبت مني أن تقف معهم وتغني . فتركتها تشارك في الغناء والعزف وذهبت أنا إلى ركن الدولة المدنية . كانت زوجي قد خرج من عمله إلى الميدان مباشرة . كانت المثقفون جالسون على الرصيف يتناقشون في حال مصر بعد الثورة . ضحكت وقلت لهم : لما يرحل الرجل أولا نتحدث عن مصر بعد الثورة . الرجل جالس ومستريح وسوف نموت جميعا قبل أن يتنحى . شاركوني الضحك وهتفوا : مش هنمشي هو يمشي . تبادلنا الحديث وحين أقبل المساء ذهبت إلى منصة عزف الجيتار أحضرت ابنتي وعدنا للمنزل .

5 فبراير
بعد إشاعة هجوم البلطجية على مربعنا السكني اتفقنا مع جارنا الكاتب الروائي سيد الوكيل أن يبقى هو و أبناؤه في المنزل يوما يحمي العمارة ، ونجلس نحن يوما وهو يذهب للميدان . يعني جعلنا الأمر نوبات حراسة اليوم الذي ننزل فيه نحن للميدان يظل هو في المنزل واليوم الذي يذهب هو للميدان نبقى نحن حماية للمنزل . وكان اليوم هو موعد نوبة حراستنا للمنزل . جلست في حالة من التوتر والقلق . أشعر أنني ينقصني شيئا . أقلق على المعتصمين في الميدان . كأن وجودي الدائم هناك سيحميهم . رغم أنني مثلهم أشعر بالقلق والخوف . ولا أقدر على حماية أحد . لكن أن تكون في المنزل تشاهد ما يحدث في الميدان ولا تكون جزءا حيا من المشهد لشئ مزعج ومقلق . لا تكفي شاشات القنوات الفضائية لتهدأ من قلقك . كانت قناة الجزيرة تثبت كاميراتها على الميدان طوال الوقت . وكنت لا أفعل شيئا سوى البحث بين ” الجزيرة ” و ” البي بي سي ” و ” السي ان ان ” الجميع يركز على مشهد ميدان التحرير . وكأن ثورة مصر كلها صارت ميدان التحرير . وكان الوضع في الميدان يدل على المدنية والتحضر الذي يتمتع بهما الشعب المصري . تحول الميدان إلى احتفالية كبرى بالحرية . احتفالية بعودة الروح إلى الشعب المصري . الجميع ينتشي ويتسابق في إظهار أجمل ما في هذا الشعب العظيم . شباب تظهرهم القنوات الفضائية ينظفون الميدان ، وشباب يغني . وشباب يساعد العجائز . ها هي مصر تولد من جديد . مخاض مقدس ومجيد يا مصر . مخاض مخضب بدم أبنائك أيتها الأم المقدسة مصر ، مصر الجديدة ، مصر الثورة .
انقضي اليوم وأنا في حالة من الشوق للغد ، ليس لأن الغد يعدني بشئ سوى أن أنزل للميدان . غدا هو دور جارنا ليحمي المنزل ودورنا نحن للنزول للميدان . نمت وأنا على موعد مع غد لا أتبين معالمه ، لكنني أشتاق إليه رغم كل شئ .
6 فبراير
اليوم نتجهز للميدان . اليوم هو الأحد . كنت قادمة من اكاديمية الفنون . ذهبت إليها في الصبح لأعرض على الدكتورة نهاد صليحة التي تشرف على رسالة الدكتوراة التي أعملها في النقد الأدبي . وجدت الدكتورة في مكتبها . أعطيتها الجزء الذي أنجزته وبدأت أحدثها عن الميدان وما يحدث فيه . طفرت عيونها فرحا وهي تقول : هل كسر الشعب المصري الخوف أخيرا . ؟ استمعت لما حكيت لها بشوق شديد وكانت تستزيدني عما تفعل النساء في الميدان . حكيت لها عن الفنانة محسنة توفيق يوم الأربعاء الدامي 2 فبراير يوم معركة الجمل . وكيف جاء صوتها عاليا تشجع الناس على البقاء في الميدان . جاء صوتها تماما مثلما كان في فيلم ” العصفور ” حيث كانت تصرخ جارية وهي تقول في الفيلم ” هنحارب هنحارب ” والذاكرة المصرية لا تستطيع أن تنسى صوت محسنة توفيق وهي تصرخ فرحة ” هنحارب ” لأن هذا الفيلم من الأفلام التي كانت تتحدث عن هزيمة مصر في عام 1967 ، وكيف انكسرت الشخصية المصرية بعد هذه الحرب .
انهيت حديثي مع الدكتورة نهاد صليحة ثم اتجهت للميدان . كان زوجي وابنتي قد وصلا قبلي بساعة . اتجهت إلى ركن الدولة المدنية حيث تعودنا الجلوس والحديث . وجدت في ذات المكان امرأة تعدى سنها السبعين عاما أو يزيد . شعرها الأبيض يلمع في ضوء الشمس مثل الفضة . معها حفيدة في سن السابعة وحفيد في سن الثامنة . الطفلان يطيران البالونات المكتوب عليها مصر مصر .. وبجانبها امرأة في سن الأربعين تقريبا . شعرها يتطاير على ظهرها ، وبجانبها امرأة منقبة تبادلها الحديث ، وفي نشوة الفرح تغنيان المرأة الأربعينية والمنقبة ” حلوة بلادي السمرة بلادي الحلوة ” . كان صوتاهما يتحدان ويغنيان أغنية شادية الشهيرة ويتمايلان . وقفت أنظر إليهما مندهشة ومبهورة الأنفاس ، فالمرأتان إحداهما مسيحية كما يبدو من مظهرها والأخرى مسلمة ، وها حب مصر يوحدهما ويغنيان سويا ” حلوة بلادي السمرة بلادي ” . لاحظت المنقبة نظراتي ، فمدت إلي يدها وهي ما تزال تغني . اتجهت إليهما فرحة ومنتشية وانضممت إليهما أغني ” حلوة بلادي السمرة بلادي ” .
نسيت ابنتي وزوجي ، حتى دق هاتفي ، فوجدت زوجي يخبرني أنهما يستعدان للرحيل ووصف لي مكانهما . استأذنت النساء الفرحات بالحرية واتجهت بحثا عن زوجي .

7 فبراير

اليوم دورنا في حماية المنزل قلت لزوجي أنني يجب أن أنزل للميدان ، لن أظل معه لحماية المنزل . حاولت ابنتي الذهاب معي ، فقلت لها أنها يجب أن تذاكر اليوم مادة علم النفس وغدا آخذها معي . جلست مع والدها واتجهت أنا للميدان . وصلت وقد وجدت الكاتبة سولى بكر تجلس بجوار سيدة يظهر على ملابسها أنها من العامة . لم تكن من ضمن المثقفات أو الكاتبات . كانت امرأة بسيطة بملابسها السوداء البسيطة تجلس للتحدث مع روائية كبيرة . فرحت بهذا التواصل وجلست مع الكاتبة على الرصيف . عرفت منها أن ابنتها تقف مع البنات اللاتي كونن لجانا شعبية يفتشن النساء الداخلات للميدان . جلست مع سلوى بكر نتحدث عن الثورة وعن الفساد السياسي والفساد الأخلاقي الذي طال الناس نتيجة للإفساد المتعمد للسعب المصري الذي مارسه نظام مبارك . لاحظت المرأة أنني أتحدث إلى سلوى بكر بإجلال ، وعرفت أن المرأة التي كانت تبادلها الحديث الآن ببساطة هي كاتبة كبيرة . فشعرت المرأة بالخجل والتقزم . لاحظت سلوى بكر ذلك فحاولت أن تشركها معنا في الحديث مرة أخرى وتزيل عن نفسها الرهبة من الحديث إلى كاتبات . حدثت سلوى عن إعجاب ابنتي بروايتها الجديدة ” الصفصاف والآس ” ففرحت بشدة وخاصة أنها تعرف ان ابنتي صغيرة في الصف الثاني الثانوي . قدرت فرحة الكاتبة الكبيرة برأي قارئة صغيرة ، لأننا نحن جماعة لجمهور قارئ غير المثقفين . بعد أن جلست معها بعض الوقت استأذنت منها أنني سأدخل الميدان أتجول فيه قليلا ثم أعود للمنزل لأنني تركت البنت في المنزل تذاكر .
تجولت في الميدان ، كانت الأعداد قليلة بالمقارنة بالأمس . أمس كانت الأعداد تزيد عن المليونين ، ولا عجب فهذا أسبوع الصمود . قرر الثوار أن المليونيات سوف تستمر إلى أن يتنحي مبارك . منذ أن بدأ أسبوع الصمود وقد تجمعت المليونيات يوم الجمعة ، ثم الأحد ، ثم الثلاثاء ، ثم الجمعة الأخيرة جمعة الرحيل . كنت أعرف أن غدا الثلاثاء سوف تتزايد الأعداد ، وقد تصل إلى أكثر من مليونين ، فقد أدرك الجميع أن هذه ثورة الشعب المصري ، وليست مجرد تظاهرات .
8 فبراير
اليوم الميدان ممتلئ . ساعة وصولي كانت هناك فتاة تمسك بكاميرا ديجتال وتجري لقاءات مع الناس . اقتربت مني . قالت : ممكن أعمل معك لقاء ؟
قلت : لأي قناة .
قالت : لقناة إلكترونية على الإنترنت .. يجب أن نعرف العالم ما يحدث .
ضحكت وقلت لها رغم أن معظم قنوات العالم تسجل ما يجري في مصر لحظة بلحظة إلا أنني ليس لدي مانع تفضلي اسألي عما تريدين .
سالتني وسأت غيري عن اسباب الحضور للميدان ؟ وتساءلت عن النشاط السياسي والحقوقي قبل الثورة . حكيت لها عن نشاطنا قبل سنوات في حركة ” كفاية ” وجركة ” أدباء من أجل التغيير ” وعن دوري في ” الجمعية الوطنية من أجل التغيير ” التي قامت لتدعم الدكتور محمد البرادعي رئيسا لمصر . ثم التقت بفتاة صغيرة عمرها لا يتعد السادسة وتمسك بعلم مصر تطيره للمساء وتهتف مصر .. مصر تعيشي يا مصر .
أدركت الطفلة الصغيرة أن هذه كاميرا تسجل صوته فانطلقت تهتف لمصر وتلوح بالعلم .
خطر ببالي شعارا يصلح لأن يحفظه الأطفال ، فقلت للبنت الصغيرة قولي ورائي يا صغيرتي : ” يا مبارك قول لسوزان الطفل المصري مش جبان ” بدأت الطفلة تردد الشعار الذي قلته لها واجتمع الأطفال حولنا وبدأوا يهتفون جميعا : ” يا مبارك قول لسوزان الطفل المصري مش جبان ” .. تجمع حولنا ما يزيد عن عشرين طفلا في مختلف الأعمار وبدأوا يهتفون نفس الشعار . وانتبهت القنوات الفضائية للأطفال الذين يهتفون ، فتجمع المصورون يصورون أطفال مصر وهم يهتفون الشعار الذي ألفته لهم .
كانت الأعلام الحمراء تغطي الميدان . شعرت أن مصر كلها في الشارع الآن . السي ان ان تقول أن الأعداد تعدت المليونين ، لكن من ير الميدان ، وير كل هذه الأعلام وهذه الأعداد يشعر أن مصر كلها خرجت للشارع . ابنتي أقبلت متأخرة هي وأبيها . وجدتها منشغلة بالبحث عن شئ لا أعرفه . قلت لها عما تبحثين ؟ فأخبرتني أنها تبحث عن أحد يكتب لها لافتة .
عادت بعد قليل ومعها لافتة كبيرة كتبت على مربع ورقي كبير ” طالبات وطلاب الثانوية العامة يردن إسقاط النظام ” ضحكت أنا ومن حولي على تصميمها العنيد أن تمثل كل طلاب وطالبات الثانوية العامة وأنهم يطالبون بإسقاط النظام .
9 فبراير
اليوم كان الميدان أقل زحاما ، فالمليونيات في أسبوع الصمود تقتصر على الجمعة والاحد والثلاثاء ، اليوم هو الأربعاء . ابنتي كتبت اليوم نصا سرديا وأرسلته لجريدة البديل . ثم نقلت رابط النص على صفحتي في الفيس بوك . أسميتها أصغر كاتبة من كاتبات الثورة . حكت في النص السردي كيف أنني منعتها في بداية الثورة من النزول للميدان خوفا عليها . قابلتني بعض الأديبات وتحدثن عن نص ابنتي .. شعرت بالفخر وكأن صغيرتي نالت جائزة نوبل . قابلتني صديقة لم أرها منذ سنوات ، كانت تكتب القصة القصيرة وتحضر معنا الندوات في أتيليه القاهرة ، صديقتي وفاء علم الدين . قالت أنها تتابع صفحتي على الفيس بوك يوميا . وانها كلما قرأت تعليقاتي على الفيس بوك تتشجع وتنزل الميدان . شعرت لحظتها أن ما أفعل له جدوى وفائدة . ولم يكن هذا رأيها وحدها . بل قابلني أيضا كاتب شاب اسمه أحمد الصباغ وقال أنه ينزل كل يوم للميدان كلما قرأت تعليقاتي المحمسة والتي تبث الشجاعة والحماسة في القلوب . بكيت بدموع حارة وقلت بطفولية : ” يعني ما أكتب كل يوم على الفيس بوك يضيف للثورة شيئا ” أكدت لي صديقتي أنها كل يوم تقرأ تعليقاتي في صفحات الآخرين ، فهم ينقلون تلك التعليقات يوميا ، وكثير من الناس ينزل للميدان بعد أن تحمسهم كلماتي .
فرح قلبي وشعرت أن ما أفعل على الانترنت يسهم بشكل أو بآخر في إنجاح الثورة . تلك الفرحة الطفولية لتأثير كلماتي جعلتني أعجب من نفسي . أنا كاتبة ونشرت الكثير من الكتب ، ولي مقالات نقدية ومقالات رأي في عدة صحف مصرية وعربية مثل جريدة ” الأخبار ” و ” اليوم السابع ” و جريدة ” الحياة اللندنية ” وجريدة ” القدس العربي ” ومع ذلك فرحت فرحا طاغيا لمجرد أن الشباب يقولون لي أن كلماتي كانت ملهمة لهم ، وكانت دافعة لهم لينزلوا الميدان .
ودعت أصدقائي واتجهت للمستشفى الميداني لأرى إن كانوا بحاجة لي في العناية بالمرضى والمصابين .. وجدت كثير من المرضى تحسنت حالتهم وصاروا يشاركون في الهتافات والتجمعات ، ولم أجد في المستشفى سوى بعض المعتصمين من المصابين يغيرون ضمادات جروحهم . شاركت صديقتي مها الطبيبة التي لا تفارق المستشفى الميداني منذ إنشائه ، شاركتها العناية ببعض الجرحى . ولما انتهيت استأذنت منها وغادرت إلى الخارج . كان أزيز طائرات لفت انتباهي ، فقلت أخرج لأرى ما الذي يحدث . كانت طائرات إف 16 تحوم حول الميدان . في البداية اعتقدنا أنها طائرات تابعة للجيش تحمي المتظاهرين فرفع لها المتظاهرون أيديهم بالتحية وعلت هتافات ” الشعب والجيش إيد واحدة ” ، ثم انخفضت الطائراتان أكثر . شعرت أن أذني سوف تنفجر . كانت الطائرتان تخترقان حاجز الصوت . ادركنا في لحظات أن الطائرتين تابعتان للرئاسة بشكل أو بآخر ، فانطلق صوت شاب بتلقائية ” حسني اتجنن .. حسني اتجنن ” وانطلق وراءه كل من في الميدان في سخرية وتهكم وصخب ” حسني اتجنن حسني اتجنن ” الطائرات تبتعد عنا ، ثم تعود ثانية ، بدا كل واحد منا يضع قطنا أو قطعة مناديل ورقية في أذنيه ، ولم يعد يهمنا أن الإف 16 التي تحلق فوقنا تخترق حاجز الصوت لتصيبنا بالرعب والفزع . صرنا نهتف ونهلل كلما اقتربت منا .
حل الظلام سريعا ، ولم يكن معي هذا اليوم ابنتي أو زوجي ، فقررت الرجوع في بداية الليل ، وخاصة أن اصدقاء البال توك ينتظرونني لأعطيهم التقرير اليومي عما يحدث في الميدان .
10 فبراير
اليوم الخميس أردت أن أستريح اليوم في المنزل . غدا ستكون جمعة الرحيل . غدا عليه أن يرحل . ظللت أردد طوال الوقت ماذا لو لم يرحل ؟ دم الشهداء يصرخ فينا . طوال اليوم يحتل ذاكرتي مشهد الرصاصة اليت مرقت بجانب أذني واستقرت في رأس الشاب الذي تلقى رصاصة بدلا عني . طوال الوقت أشعر به يراقبني وكأنه يطالبني بأن أنتقم لدمه المسفوح على الإسفلت . كلما ذهبت معي ابنتي إلى الميدان أتخيل أم ذلك الشاب . ترى كيف هي ؟ كيف تواجه الحياة بعد أن قتله قناص حاقد على الشعب المصري ؟ اليوم استيقظت وأنا ممتلئة بتفاصيل يوم 28 ، ذلك اليوم الذي توجهنا فيه لوزارة الداخلية . ذلك اليوم الذي سمعت فيه حفيف الرصاصة بجانب أذني والذي استقرت فيه الرصاصة في رأسه .
جلست أمام التلفزيون أبحث عن أخبار المظاهرات ، ثم تذكرت صديقة لي كانت معنا في مظاهرة 28 يناير ، وقبل أن أنفصل عنهم واتجه إلى شارع لازوغلي قالت جملة بشكل عارض أن هذا الشاب زميلها في جريدة ما لا أذكر اسمها .
اتصلت بها ، وظللت نصف ساعة أذكرها بالموقف ، وهي لا تتذكر . ذكرتها بلقائنا أول اليوم أمام النقابة ، وذكرتها بالشاب الذي كان يحمل العلم الكبير ويهتف بجوارنا وأنها قالت هو زميلها . بعد إلحاح وتذكير قالت نعم تذكرته هو زميلي في جريدة ” صوت الأمة ” .. قلت لها أرجوك اعطني رقم هاتف أسرته

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.