في فلسطين: المقاومة نمط حياة / د. مصطفى البرغوثي
فجر إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل موجة جديدة من المقاومة الشعبية في فلسطين لامست حدود الإنتفاضة الشعبية، وواقع الحال أن نمطا جديدا من الإنتفاضة الفلسطينية قد بدأ يتكون منذ عام 2015.
إنتفاضة مقاومة شعبية تجري على شكل موجات ، تتناوب وتتكرر . وما بدأ في عام 2015، وصل ذروة مذهلة في تموز من عام 2017 عندما قدمت المقاومة الشعبية واحدا من أفضل نماذجها في القدس وأجبرت نتنياهو على التراجع عن إجراءته التي حاول فرضها في المسجد الأقصى. وقد عمق ذلك النجاح الفلسطيني الإيمان بقوة المقاومة الشعبية، وقدرتها عندما تستخدم بشكل منظم وعندما تحقق زخما شعبيا مؤثرا.
واذ تنوعت أشكال هذه المقاومة على مدار الخمسة عشر عاما الأخيرة، من المظاهرات ضد جدار الفصل العنصري ، إلى سفن كسر الحصار على قطاع غزة، الى بناء قرى المقاومة، إلى حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية ، إلى الصلاة في المسجد الأقصى رغم أنف المحتلين، والمسيرات الشعبية في عيد الفصح والتي تنتهي دوما بالصدام مع المحتلين، فان المقاومة الأوسع والأكثر انتشارا كانت إصرار الفلسطينيين على البقاء في وطنهم فلسطين، رغم التهجير القسري و الإحتلال البغيض ومنظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري.
لقد أدرك الفلسطينيون أن المشروع الصهيوني يرتكز على ركنين، الإستيلاء على أرض الفلسطينيين أولا وتهجيرهم منها ثانيا، ولذلك صار التمسك بفلسطين والبقاء فيها أروع أشكال المقاومة الفلسطينية لأنه المسبب الأول والأكبر لأزمة الحركة الصهيونية العاجزة عن إستكمال أهدافها.
ولأن التطهير العرقي للفلسطين هو جوهر المشروع الإستعماري الصهيوني فأن كل جانب من جوانب حياة الفلسطيني صار نوعا من المقاومة.
فالبقاء في فلسطين مقاومة، وإصرار الشباب الفلسطيني على رفض إغراءات الهجرة مقاومة، وتلقي التعليم صار مقاومة وتقديم العلاج للمرضى والعناية بصحة الناس خصوصا في المناطق المهددة غدا واحدا من أسمى آشكال المقاومة، ومثلما صارت التظاهرات الشعبية مقاومة، فإن بناء المدارس والعيادات الصحية والمساجد والكنائس وأداء الصلاة غدا من أشكال المقاومة.
ومن ناحية اخرى تتقدم مقاطعة بضائع الإحتلال ورفض التعامل مع مؤسساته كأحد أهم أشكال المقاومة المؤثرة والفعالة.
وهكذا و مع مرور سبعين عاما على نكبة الشعب الفلسطيني ، تحولت المقاومة في فلسطين الى نمط حياة.
وعندما يسألني الباحثون عن أهم ما يميز الشعب الفلسطيني، فأنني أجيبهم بكلمتين ” الصمود المقاوم” .
ذلك “الصمود المقاوم” هو الذي جعل عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية اليوم أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين رغم تهجير 70% من الشعب الفلسطيني بالقوة عام 1948 .
وذلك الصمود المقاوم هو الذي جعل أهل العراقيب في النقب يعيدون بناء قريتهم 123 مرة بعد هدمها.
وهو الذي جعل قرية ” جب الذيب” في منطقة بيت لحم تصمد لإجراءات الإحتلال وتعيد بناء مدرستها بعد هدمها من قبل الإحتلال، وهو الذي مكن أهالي “سوسيا” و ” جبل البابا” و عشرات القرى الصغيرة الاخرى من البقاء في وجه الاحتلال و الاستيطان.
وهو الذي جعل قطاع غزة يصمد لحصار خانق مستمر منذ أحد عشر عاما ولثلاثة حروب عاتية لم تكن دول لتصمد أمامها.
وذلك الصمود المقاوم هو الذي مكن فلسطين من إلحاق الهزيمة بترامب ونتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة .
يدرك الفلسطينيون أن طريق نضالهم طويل وصعب، ومحفوف بالآلآم والمخاطر، ولكنهم يدركون أيضا أن نهايته لن تكون إلا النصر والحرية.
وضوء الحرية في نهاية الطريق هو الذي يمنحهم الأمل في محيط ظلمته حالكة، وهم يخوضون نضالهم أمام خصم عنصري شرس، و ضوء الحرية في نهاية الطريق هو الذي منح ويمنح الفلسطينيين جيلا وراء
التعليقات مغلقة.