الذكرى المئوية لميلاد رجل خارق للمعتاد وخالد في التاريخ / فهد الريماوي
فهد الريماوي* ( الأردن ) الثلاثاء 9/1/2018 م …
*رئيس تحرير جريدة “المجد” الاردنية
في مثل هذا الاوان منذ قرن من الزمان، وفيما كانت البشرية تداوي جراحها، وتلملم اشلاءها، وترمم دمار حربها العالمية الاولى.. تمخضت “بهية” المصرية فانجبت معجزة لها قامة هرم فرعوني، وسمرة طمي النيل، وارومة بني مرة، وابتسامة فجر الصعيد، ومهابة الامام علي، واسم جمال عبدالناصر حسين.
يومذاك التحم المضاف بالمضاف اليه، والتحق ظرف الزمان بظرف المكان، واندمجت الاسماء الخمسة بالافعال الخمسة، لكي تطلق البشائر بمولد هذا الوافد/المعجزة، وتفتح “طاقة القدر” لاستقبال هذا الوليد الواعد ببعث مجد العرب، والموعود بنصر من الله، وبشعبية اسطورية رافقته – على المدى – حياً وراحلاً.. بل لعل الكثيرين قد احبوه بعد رحيله، وترحموا عليه بعدما لمسوا حجم الخراب العربي الذي اعقب غيابه.
دارت دواليب الايام، وتكدست الاعوام على الاعوام، وبدأت شمس الطالب ثم الضابط ثم الثائر ثم القائد “ابو خالد” تسطع في سماء مصر التي سرعان ما وجدت فيه ضالتها المنشودة، وبطلها المنتظر.. بينما وجد فيها السند والعضد والعشيرة الكبيرة المتعطشة للنهوض والانقيام، والمستعدة للبذل والعطاء والفداء ثمناً للحرية والكرامة والتقدم.
كانت مصر تحتاجه بمثل ما يحتاجها، وتلوح في خاطره كما يلوح في خاطرها.. فهو يعرف قانونها الطبيعي، وشخصيتها الفريدة، ودورها في التاريخ، وعبقريتها في المكان.. يعرف انها عظيمة يليق بها القادة العظام، فيما يجور عليها وينتقص من مكانتها الحكام الاقزام.. فشتان بين مصر مينا ورمسيس الثاني وصلاح الدين ومحمد علي وعبدالناصر، وبين مصر كافور الاخشيدي والخديوي توفيق وانور السادات وحسني غير المبارك.. وشتان بين مصر القوية والابية الفائضة عن حدودها، والقادرة على استنهاض امتها، وتوفير مكان لائق بها تحت الشمس، وبين مصر الهزيلة والعليلة المنكمشة على نفسها، والمنشغلة بتدبير قوت يومها، والمتذيلة لغلمان بني سلمان ونهيان، والمتغافلة عن حبس النيل خلف سدود الحبشة والسودان.
بعد مئة عام على ميلاده، واثنين وخمسين عاماً من حياته ونضالاته، وثمانية واربعين عاماً على رحيله، لا يحتاج “ابو خالد” الى تعريف وتوصيف، او الى تعظيم وتفخيم، فهو حاضر في الحاضر، وماثل في الذاكرة، وخالد في التاريخ.. غير ان جيلاً عربياً – او اكثر – قد نشأ بعد رحيله، فقرأ او سمع عنه دون ان يعيش عهده، ويشهد مجده، ويفخر بصليل صولاته وجولاته في ميادين الفروسية.. ولعل من حق هذا الجيل علينا ان نبسط له بعضاً من جوانب عبقرية هذا الزعيم العظيم الذي ايقظ روح الامة العربية، وشحذ عزيمتها، وأعلى كلمتها، وتبنى مشروع عزتها ونهضتها، ودأب على تذليل الصعب ليغدو سهلاً، وترويض المستحيل ليصير ممكناً، ولملمة الشتات العربي ليصبح موحداً، واتخاذ الوضعية الدفاعية كقوة هجومية متعددة المراحل اسفرت، في نهاية المطاف، عن سحق الاستعمار الكولونيالي الاوروبي، وتحرير معظم دول آسيا وافريقيا التي رزحت طويلاً تحت نير ذلك الاستعمار، ونزفت الكثير من خيراتها وثرواتها لتصب في خزائنه.
ورغم ضخامة وشراسة جبهة الاعداء المثلثة الاضلاع (الرجعية والصهيونية والامبريالية) التي قارعته وقارعها، وصارعته وصارعها، وانتصرت عليه حيناً وانتصر عليها احياناً، وسجلت في مرماه اهدافاً وسجل في مرماها اهدافاً مقابلة.. الا انه بقي، الى آخر يوم من حياته، مقاتلاً باسلاً في ميادين عدة.. وصنديداً عنيداً لا يهاب ولا يضعف ولا تلين له قناة، فيما ظلت القضية الفلسطينية، والوحدة العربية، والكرامة القومية، والعدالة الاجتماعية مقاصد فعله، وشواغل فكره، وعناوين عمره.
هذا الرجل عشقته الشجاعة، وطوقته الزعامة، وسكنته الاحلام العريضة، واعتنقته الاخلاق الحميدة، وتقلدته المواقف الحاسمة، وتعلقت به الجماهير العربية من المحيط الى الخليج، فكانت قوته من قوتها، ورسالته من رسالتها، وارادته من ارادتها.. بل كثيراً ما كانت تسبقه الى ما يريد، وتغفر له فيما يخطئ، وتنصره باكثر مما يتصور، وتقف بين يديه في السراء والضراء، فليس فينا من ينسى يوم خرجت الملايين العربية تشد ازره، وتناشده العدول عن الاستقالة جراء نكسة حزيران عام 1967، ويوم خرجت – دامعة وموجوعة ومفجوعة – تشيعه الى مثواه الاخير عام 1970.
بعد نيف واربعين عاماً، يُثبت هذا الرجل انه كان الارجح عقلاً، والابعد نظراً، والاحد بصيرة، والاحصف بوصلة، حين اعلن “ان ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وان المشروع العدواني الصهيوني لا يقبل المهادنة ولا يتقبل السلام، وان الخنزيرة الامريكية المحكومة لحقيقتها الرأسمالية المستغلة، ولفيزيائها الامبريالية الوحشية، لن تضع نفسها الا في الخندق الاسرائيلي، ولن تعقد تحالفاتها الا مع اشرار العالم، ولن تقبل من الدول العربية والاسلامية الا الخضوع لجبروتها، والتسليم بالهيمنة اليهودية على الشرق باسره.
وعليه، ولاسباب وظروف وتعقيدات جمة لا مجال لشرحها في هذا المقال، عقمت امتنا العربية بالوقت الحاضر عن انجاب الزعماء الكبار، وعجزت عن مواصلة درب عبد الناصر، واسلمت امرها لمن لا يعرف قدرها، ودخلت في سبات وطني وقومي ينذر بالهلاك.. ولولا وجود منائر هنا ومشاعل هناك من طراز حسن نصرالله، لما خيم في سماوات امتنا سوى الخيبة والعتم واليأس والانهزام.
ولكن “ان لله عباداً اذا ارادوا.. اراد”، وان للامم العريقة – مثل امتنا- نواميسها الخاصة وانبعاثاتها الثورية من قلب الرماد.. ولعل لنا في روسيا اسوة وقدوة وقوة مثال، فقبل اقل من عقدين زمنيين كانت روسيا يلتسين تكابد الجوع، وتفتقد الامن، وتتعرض للنهب، وتقترب من التفكك، غير ان رجلاً واحداً قوياً ووطنياً اسمه بوتين دخل سريعاً على خط الازمة، واوقف على الفور مسار الانهيار، وتصدى للخونة والفاسدين والمافيات بكل مسؤولية ورجولة واقتدار، وشكل رافعة عملاقة انتشلت بلاد تولستوي ولينين وبوشكين وبطرس الاكبر من مهاوي المذلة والانكسار الى اعالي الرفعة والسيادة والاستقرار والازدهار.
وفي الاخير، جدير بنا ان نحتفل بمئوية ميلاد “ابي خالد”، ولكن يحزننا ان لا يتواجد بيننا الا في صيغة “الضمير الغائب”، ويهمنا ان نؤكد له – بهذه المناسبة- انه كان على الدوام ذا الهمة الذي احيا امة.
التعليقات مغلقة.