الولايات المتحدة وإدارتها أصبحت تهدد السلام والامن العالمي بتصرفاتها الهوجاء / د. بهيج سكاكيني
د. بهيج سكاكيني ( الثلاثاء ) 9/1/2018 م …
الرئيس الذي لا يستطيع التفريق بين كوع يديه من بقية أعضاء جسمه كما يقول المثل الأمريكي يغرد من جديد بالقول “حان زمن التغيير في إيران” وذلك إثر المظاهرات التي حدثت في بعض المدن الإيرانية وضخمت في الاعلام الغربي لأسباب في نفس يعقوب، وجميع المتابعين لما يجري في المنطقة كانوا يتوقعون شيء من هذا القبيل على غرار “الثورات الملونة” التي تسيرها المخابرات المركزية الامريكية بين الحين والآخر وخاصة بعد الفشل الأمريكي على كافة الجبهات في منطقتنا. السيد ترامب يقول بأن واشنطن تدرس فرض عقوبات على إيران لحماية المتظاهرين والذي لم تتجاوز اعدادهم في جميع المدن مجتمعة عن 45 الف على اكبر تقدير في بلد يتجاوز تعداد سكانه عن 80 مليون نسمة. وهذه بالطبع لم تكن المرة الأولى التي تحاول فيها المؤسسة الامريكية الحاكمة لتحريك الشارع الإيراني وكان ان حدث هذا في المحاولة الفاشلة عام 2009.
وتأتي المحاولة الجديدة على غرار المحاولات في أوكرانيا وفترة الربيع العربي ومؤخرا في فنزويلا حيث يتم دفع العيديد من الأجيال الشبابية الى الشوارع لإثارة الفوضى ويتم الاعتداء على مؤسسات الدولة والاعتداء على الشرطة والأماكن العامة وحرق ونهب بعض المحلات التجارية. ويتم تضخيم الاحداث في الاعلام الغربي وتشجيع المتظاهرين وتبيان ان الدول الغربية تقف معهم ولن تتخلى عنهم وعن حركاتهم الاحتجاجية وإطلاق التصريحات النارية عبر وسائل الاعلام من السياسيين ورجال الامن والاستخبارات لتأجيج الحالة. ليس هذا وفقط بل يتم استخدام السلاح من بعض المرتزقة الذي يتم زرعهم بين المتظاهرين والذين يطلقوا الرصاص على كل من المتظاهرين ورجال الامن في آن واحد لتأجيج الوضع وإثارة مزيد من الفوضى وإعطاء الانطباع ان الأمور خرجت عن نطاق السيطرة وأن الدولة لم تعد قادرة على حفظ الامن. هذا السيناريو تكرر في أوكرانيا وفي مصر وتونس وسوريا وفنزويلا مؤخرا كما أكدت الاحداث.
والبعض على الأقل يذكر الوقاحة المتناهية التي تصرفت بها نائبة وزير الخارجية الامريكية للشؤون الأوروبية تجاه الاتحاد الأوروبي الذي سعى الى حل الازمة الأوكرانية بالطرق السلمية. وكذلك زيارة المجرم والمولع بالحروب جون ماكين السناتور الأمريكي الى أوكرانيا وإنضمامه الى المحتجين في الميدان ومشاركته المنبر مع أحزاب فاشية ونازية في كييف في فبراير من عام 2014 وحثهم على الابقاء على الاعتصامات والاحتجاجات الى حين اسقاط حكومة فيكتور يانوكوفيتشالمنتخبة.
التهديدات الامريكية لإيران لم تهدأ منذ قدوم ترامب الى البيت الأبيض وهذا له أسبابه التي لا تمت بصلة الى تظاهر بضعة الاف من الإيرانيين هنا وهنالك أو قضية البرنامج النووي الايراني او الصواريخ البالستية. السبب الرئيسي لكل هذه التهديدات بالعقوبات أو طرح موضوع مراجعة الاتفاقية الموقعة بين الدول الكبرى وإيران حول برنامجها النووي ببساطة هو أن إيران لعبت وما زالت تلعب دورا رئيسيا في محور المقاومة الذي عمل ويعمل على إحباط المخططات والاستراتيجيات الامريكية في المنطقة برمتها.
أمريكا تسعى الى فرض سيطرتها على المنطقة ونهب ثرواتها ومقدراتها والمداخيل والموارد المالية التي يؤمنها بيع النفط الخليجي في الأسواق العالمية الى جانب ضمان “الامن” للكيان الصهيوني عن طريق تزويده بكل أنواع الأسلحة الامريكية المتطورة وإبقاءه متقدم تكنولوجيا وعسكريا على كل الدول العربية مجتمعة (هذا إذا ما حصلت المعجزة وحصل ان اجتمعت الأنظمة الرسمية على العداء لهذا الكيان) وكذلك العمل على دفع الأنظمة العربية الرسمية نحو التطبيع مع هذا الكيان وبالتالي ضمان عدم الاعتداء او التعرض له عسكريا. لا بل وبالإضافة الى ذلك استخدام الأدوات الممثلة بالنظام الرسمي العربي وخاصة بحلب المليارات من هذه الدول التي قبلت أو تقبل التطبيع والتعاون مع الكيان العمل معه للتصدي للدول الوطنية في المنطقة التي تقف حجر عثرة لتنفيذ هذه المخططات والاهداف. وهذا وجد تعبيره في التقرير الذي صدر مؤخرا عن استراتيجية الامن القومي للإدارة الامريكية.
بحسب استراتيجية الامن القومي لإدارة ترامب وكما ورد في التقرير بهذا الشأن فإن الإدارة ترى أنه:
” على مدى أجيال كان الاعتقاد السائد ان الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين هو السبب الرئيس في منع السلام والازدهار في المنطقة. أما اليوم فإن التهديدات من المنظمات الراديكالية الجهادية الإرهابية والتهديد من إيران أوجدت الادراك بأن إسرائيل ليست السبب في مشاكل المنطقة”.
وهذا يلخص ببساطة السياسة الامريكية في المنطقة وكل الحروب التي شنتها الولايات المتحدة وما زالت إما بشكل مباشر بوضع قواتها وإمكانياتها العسكرية في المنطقة لتناسب المخطط أو من خلال حلفائها المتمثلة بالكيان الصهيوني وحلف الناتو الى جانب أدواتها وخاصة في منطقة الخليج الذين يساهمون الى حد كبير ماديا ضمن المخططات الجهنمية في المنطقة ويعملون للهيمنة والسيطرة السياسية على جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي لجر النظام العربي الرسمي الى هذا المخطط. وهذه الأدوات هي من أثارت الفتن الطائفية والمذهبية في المنطقة لخدمة المخططات الصهيو-أمريكية في المنطقة بشكل رئيسي.
لقد عمدت الولايات المتحدة وحاولت جاهدة وما زالت الى ضرب محور المقاومة والممانعة منذ زمن إما مباشرة او من خلال استخدام ادواتها وحلفائها في المنطقة. والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 كان عدوانا أمريكيا بامتياز والذي كان يهدف الى إضعاف محور المقاومة من أجل إيجاد وخلق الشرق الأوسط الجديد الذي يؤمن المخططات والاستراتيجية الامريكية في المنطقة والتي كان يروج لها المحافظين الجدد والمتحدثة باسمهم آنذاك كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية.
وعندما اضطرت الولايات المتحدة من سحب معظم قواتها من العراق 2011 نتيجة الضربات المؤلمة التي كانت تتلقاها على ايدي المقاومة العراقية لم تتمكن من تحقيق معظم ما كانت تخططه من عملية تقسيم العراق وجعله بؤرة تدور في الفلك الأمريكي. وعندما عادت الى العراق تحت راية محاربة الارهاب قامت في حقيقة الامر بدعم تنظيم داعش ومهدت له سبل السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية. وحاولت جاهدة تأخير عمليات القضاء على داعش وخاصة في المناطق التي لها امتداد جغرافي مع سوريا وذلك في محاولة لمنع التواصل الجغرافي بين محور المقاومة ومنع انتقال السلاح الى سوريا والى حزب الله في لبنان. وكان لتحرك القوات الامريكية الى قاعدة التنف الحدودية وتحضير قوات للتحرك للسيطرة على المعابر الحدودية بين العراق وسوريا وخاصة على مدينة البوكمال هو جزء من مخطط قطع الطريق على التواصل بين إيران والعراق وسوريا وهو المخطط الذي أفشله الجيش العربي السوري وحلفائه.
ولكن المحاولات الامريكية وحلفائها وأذنابها في المنطقة اللذين أضاعوا ثروات بلادهم ومقدراتها في عمليات عقيمة وثأرية ومغامرة والتي أوضحت طيش ومراهقة سياسية غير مسبوقة، لن ولم يتوقفوا عن محاولاتهم في اسقاط الدولة السورية على الرغم من الخسارات التي لحقت بهم وبأدواتهم من التكفيريين في سوريا. فها هم يسعون الى بناء جيش “سوريا” الجديد من بقايا الإرهابيين الدواعش اللذين فروا من الرقة وغيرها من الأماكن والمدن السورية في معسكرات اقيمت لهذا الغرض في منطقة التنف الحدودية، الى جانب رهانهم على العملاء من الاكراد في الشمال السوري حيث قاموا في الفترات الأخيرة بمدهم بالأسلحة الثقيلة والمتطورة لقتال الجيش العربي السوري وحلفائه في محاولة لإقامة كيان كردي عميل في الشمال السوري.
وما المحاولات الأخيرة لزعزعة الاستقرار في إيران سواء عن طريق بعض العمليات الإرهابية مثل نسف خطوط انابيب الغاز والبترول أو إثارة بعض عمليات الشغب والمظاهرات في بعض المدن الإيرانية والتي خمدت بحسب التقارير الواردة من هناك، ما هي الا جزء من المخطط في محاولة ضرب محور المقاومة. وكنا قد أشرنا في مقال سابق ان الإدارة الامريكية قد تلجأ الى مثل هذه الاعمال وذلك لعدم وجود خيارات أخرى لديها فيما يخص العمل ضد إيران. وبعد ان فشلت أجهزة المخابرات الإقليمية والأمريكية في تحويل حركة الاحتجاج على غرار ما كانت تصبو اليه في “الثورات الملونة”، ذهبت الى إثارة زوبعة في مجلس الامن والطلب بعقد جلسة خاصة لمناقشة الأوضاع بشأن إيران فيما يتعلق بالمظاهرات التي جرت في بعض المدن الإيرانية مصورة انه ما حدث يهدد السلام والامن الدوليين. الى هذه الدرجة من السخافة والصبيانية أصبحت هذه الإدارة تدير السياسة الخارجية لـ”أكبر” دولة في العالم وهذا ما أحرج الأمم المتحدة وكذلك حلفاء الولايات المتحدة وخاصة دول الاتحاد الأوروبي الفاعلة من بريطانيا وألمانيا وفرنسا اللذين بشكل او بآخر أبدوا امتعاضهم من هذا النزق السياسي الذي تمارسه الإدارة الامريكية وخاصة مع وجود ممثلة في مجلس الامن التي لا تفقه في السياسة ولا الدبلوماسية وتتصرف كطالبة مشاغبة في مدرسة بكل رعونة ووقاحة متناهية.
الولايات المتحدة كانت تأمل من ان ردة فعل الأجهزة الأمنية في إيران ستكون عنيفة تجاه المتظاهرين والمحتجين ويتم استخدام الحرس الثوري الإيراني لقمع المتظاهرين حتى تستخدم هذه كورقة للضغط على الحلفاء الأوروبيين لجرهم الى المواقف المتشددة والغير مبررة واللاأخلاقية للإدارة الامريكية بشأن الاتفاق النووي لمآرب سياسية لاحقة وفرض عقوبات جديدة على إيران في محاولة لخنق البلد اقتصاديا. ولكن الحكومة الإيرانية لم تستخدم سوى قوات الشرطة الذي قتل منهم خمسة عناصر بالرصاص من قبل عناصر ربما من منظمة مجاهدي خلق الإيرانية التي رعتها القوات الامريكية عندما غزت العراق ووفرت لها الحماية واسكنتها في معسكرات ووفرت لها الأسلحة ودربت العديد من عناصرها على أمل استخدامها في المستقبل في الداخل الإيراني عندما تأتي الفرصة لذلك، وهذا ما أشار له الصحفي الأمريكي المشهور سيمور هيرش عام 2012. وكانت هذه المنظمة تنشط تحت رعاية نظام صدام حسين قبل الغزو الأمريكي للعراق نظرا للعداء الذي كان قائما بين العراق وإيران آنذاك.
لا أحد من المتابعين لما يجري في إيران يستطيع إنكار ان الوعود الاقتصادية وخاصة فيما يخص البطالة وتحسين الأوضاع المعيشية لقطاعات واسعة من الشعب الإيراني لم تتحقق ربما في أغلبها وهذا مما حدا بتحرك الشارع الإيراني وخاصة من الأجيال الشابة ولكن توقيت هذه الاحتجاجات يثير نوع من الشكوك على الأقل بأن هنالك عناصر خارجية حاولت استغلال الضائقة الاقتصادية لهذه الشريحة الاجتماعية في إيران. والذي يبدو ان تأكيد الرئيس روحاني من أن حكومته ستأخذ بعين الاعتبار مطالب المحتجين والعمل على تحسين الأوضاع أعطت نوع من التطمينات للشارع الإيراني كما يستدل من التراجع في الاحتجاجات وانخفاض وتيرتها بشكل ملحوظ تبعا لما أفادته المصادر الإعلامية.
الولايات المتحدة أصبحت تتصرف كمن لدغتها أفعى وذلك بعد ان فقدت العديد من أوراقها في المنطقة مصحوبة بتراجع واضح في التأثير على مجريات الأمور على الساحة الدولية، ليس فقط لتنامي الدور الروسي والصيني على وجه التحديد بل أيضا لتخلي حلفاء تقليديين عن المواقف الامريكية المتهورة التي اتخذتها الإدارة الامريكية مؤخرا والتي من شأنها ان تدفع المنطقة لا بل والعالم بأسره الى شفير حرب لا يحمد عقباها قد تصل الى استخدام أسلحة نووية وهو ما يهدد به ترامب كوريا الشمالية ليلا ونهارا ويغرد على التويتر بـ ” ان الزر الذي يكبس عليه اكبر من زر رئيس كوريا الشمالية وهو يعمل” بمعنى الزر الذي يضغط عليه لضرب كوريا الشمالية بالصواريخ النووية وأن هذه الصواريخ تعمل وليس كصواريخ كوريا الشمالية التي تنجح أحيانا وتفشل في أخرى. والولايات المتحدة تهدد روسيا الاتحادية بزرع محطات صواريخ في البلدان المتاخمة لحدودها الى جانب الدول الأوروبية الأخرى وتواجد قوات من الناتو في هذه البلدان والسعي الى زيادتها. ويهدد الصين في بحر الصين الجنوبي وتعلن على الملأ بان الامن القومي الأمريكي يشمل كل بؤرة في العالم بغض النظر عن بعدها أو قربها من أمريكا. وترامب يهدد كوبا من جديد ويلغي سياسة “الانفتاح” الي انتهجها أوباما قبل تركه البيت الأبيض بعد أكثر من نصف قرن من قطع العلاقات وفرض حصار (عدوان) اقتصادي وسياسي مطبق على الجزيرة الكوبية.
لا شك ان الولايات المتحدة تتجه أكثر وأكثر الى مزيد من العزلة الدولية بسبب الرعونة التي أصبحت تميز وتطبع سياساتها الخارجية التي أدت الى فقدان المناصرة من قبل الحلفاء والأصدقاء في العالم ولن يكون التعامل مع إيران نهاية مطاف هذه السياسة المراهقة والصبيانية والمتهورة والتي أصبحت اضحوكة الدول صغيرها وكبيرها هذا بالإضافة الى عدم وجود استراتيجية واضحة للإدارة ووجود التناقضات بين البيت الأبيض والخارجية الامريكية والبنتاغون وأجهزة المخابرات والتي عبرت عن نفسها في أكثر من موقف وحدث.
والخطورة على الأقل في منطقتنا تبرز فيما صرح به الرئيس الفرنسي بصراحة لوسائل الاعلام مؤخرا ” ان السياسة الرسمية التي تتبعها الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والذي هم حلفائنا ستقودنا في الغالب الى الحرب”. وهذه الثلاثة دول معا تدفع بالتصعيد مع إيران على خلاف “المجتمع الدولي” الذي يسعى الى نزع فتيل الحرب وضمان الاستقرار في منطقة ذات أهمية جيوسياسية للعالم بأكمله وليس فقط للدول الغربية. والسؤال الذي يطرح نفسه الان الى أي مدى سيبقى هذا الثلاثي يدفع الى تفجير الأوضاع في المنطقة وهل سيقف العالم للجم هذه العربدة والرعونة والعجرفة الامريكية للحفاظ على السلم والامن العالمي أم يجبن ويترك الأمور للتدحرج تدريجيا الى مزيد من الحروب والدمار؟
التعليقات مغلقة.