كيف ومع من غادر ياسر عرفات عمان الى القاهرة خلال فتنة أيلول 1970 م ؟
الأردن العربي ( الأحد ) 12/4/2015 م …
نشرت صحيفة البديل المصرية مذكرات للفريق محمد صادق وزير الحربية ابان ايلول الاسود في الاردن ، عندما سافر مع وفد برئاسة الرئيس السودانى جعفر نميرى، كمبعوثين من مؤتمر القمة العربية المنعقد فى أيلول اﻷسود لوقف القتال بين اﻷردن وفلسطين، وكلف شخصيًا من الرئيس عبد الناصر بإحضار الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، المحاصر فى الأردن.
وإليكم الكواليس الكاملة لتهريب ياسر عرفات، على لسان منفذ المهمة الفريق أول محمد أحمد صادق من واقع مذكراته:
** “القذافي” لوزير الحربية: سفرك الآن ضرورة لإنقاذ الثورة الفلسطينية
اعتبارا من يوم 17 سبتمبر 1970 ، بدأ الجيش الأردنى قصف معسكرات وأماكن تجمعات المقاومة الفلسطينية بنيران كثيفة ومتصلة، وأدرك قادة المقاومة أن الملك حسين يخوض هذه المعركة لتصفية وجود المقاومة الفلسطينية بالأردن، وأنه قد حسم أمره فعلا، ومستعد للمضى إلى النهاية.
وقررت كل المنظمات الفلسطينية خوض المعركة، ولم يكن أمام المقاومة فرصة للانتصار على الجيش الأردنى حسن التدريب والموالى للملك حسين، وتصاعد هذا الغضب الذى لم تبال به القيادات الفلسطينية فى الوقت المناسب، بل ولم تعره أى اهتمام استنادا إلى وجودها القوى ورسوخ أقدامها بالضفة الغربية للأردن التى تضم نسبة كبيرة من السكان الفلسطينيين، و كذلك إلى تعاطف الرأى العام العربى معها باعتبارها أول تجسيد للمقاومة العربية بعد نكسة يونيو 1967، وظل الغضب يتصاعد ضد المقاومة الفلسطينية ورجالها.
وكنت قبل أن يبدأ الهجوم الأردنى على المقاومة الفلسطينية قد قررت دخول مستشفى القوات المسلحة فى ضاحية المعادى بالقاهرة لإجراء جراحة ولم أخبر أحدا بدخولى المستشفى، كان فى ذلك الوقت الرئيس جمال عبدالناصر موجودا فى مرسى مطروح لراحه إجبارية فرضها عليه الأطباء، ولن يزعجنى أحد، وعلي أن أجرى الجراحة وأمضى بضعة أيام فى المستشفى ثم أعود لعملى كرئيس لهيئة أركان القوات المسلحة المصرية، وبعد دخولي المستشفى بساعة واحدة دق جرس التليفون وقيل لى إن الرئيس عبدالناصر على التليفون.
لازلت أذكر صوته يرن فى أذنى: “أهلا يا صادق .. انت فين .. إحنا عاوزينك لمهمة عاجلة ستسافر الآن فورا إلى الأردن فى مهمة لوقف القتال الدائر هناك، المقاومة فى مأزق وانت أعرف الناس بهم، انت فين دلوقت؟”
ولم أشأ أن أقول للرئيس إنني في المستشفى، وعاد عبدالناصر يكمل حديثه قبل أن أرد: “إلى جوارى الآن الرئيس القذافى هو أيضا سيكلمك”.
ويقول القذافى: “يا أخ صادق سفرك الآن ضرورة لإنقاذ الثورة الفلسطينية”، ويعود الرئيس عبدالناصر ليتابع تعليماته: “جهز نفسك للسفر فورا إلى عمان”.
وأجيب أنا: “لكن يا سيادة الرئيس .. عمان تحترق، القتال فى الشوارع، مطار عمان مغلق”.
ويرد الرئيس: “يا صادق تصرف، وأنا واثق فى حسن تصرفك، كل ما نطلبه من الملك حسين هو وقف نزيف الدم .. وتحقيق المصالحة وإنقاذ عرفات من هذا المأزق الخطير”.
السفر إلى الأردن ولقاء الملك حسين وشروط وقف إطلاق النار
وغادرت المستشفى من دون أن أجرى الجراحة .. رغم تجهيز حجرة العمليات فعليا، ومن مستشفى المعادى إلى مطار “ألماظة” مباشرة، حيث أصدرت تعليماتى بتجهيز طائرة حربية للإقلاع فورا على أن تملأ خزانات الوقود إلى نهايتها .. ولم أشأ أن أطلعهم على وجهة سفرى، فقط اكتفيت بالقول إننا متجهون إلى بيروت ، وعند وصولنا أجواء العاصمة اللبنانية قلت لقائد الطائرة: “الآن إلى مطار المفرق فى الأردن”، وبلا إجراء أى اتصالات لاسلكية كنا فوق مطار المفرق وهبطت الطائرة.
وهناك توجهت لقائد المطار العسكرى وكشفت له عن شخصيتى، أنا الفريق محمد صادق رئيس أركان القوات المسلحة المصرية، أريد لقاء عاجل مع جلالة الملك حسين .. معى رسالة مهمة من الرئيس عبدالناصر، اتصالات عديدة تمت مع القصر الملكى .. أخيرا الملك حسين على التليفون ليقول لى: “الطريق غير مأمون لوصولك”.
قلت: أعلم ذلك .. أرجو إرسال طائرة هليكوبتر للوصول إليك، وبالفعل جاءت طائرة الملك حسين إلى مطار المفرق، وركبنا الطائرة التى هبطت بنا في فناء القصر الملكى بالحمر.
الملك حسين فى ردائه العسكرى .. مظاهر الإرهاق بادية على وجهه .. استقبلني مرحبا ومتسائلا: “ها أنت ترى أفعالهم، لابد من القضاء على الفتنة وإنقاذ الأردن”.
جلست طويلا مع الملك وبعد أن أطلعنى على كل دقائق الموقف العسكرى قلت: أريد أن أقابل ياسر عرفات .. وأين هو عرفات؟ قال لى الملك: “لن تجده .. نحن نبحث عنه ولا نجده.
.وبعد مناقشات دامت حوالى ثلاث ساعات غادرت القصر الملكى بسيارة مصفحة نقلتنى إلى مقر السفارة المصرية فى جبل عمان حيث يواجهها فندق الأردن أكبر فنادق عمان العاصمة، وهناك لم أجد أحدا فى السفارة إلا ضابط اتصال مصري شجاع، لم يكن معنا فى السفارة سوى جهاز اللاسلكى، وجهاز راديو، والقصف يحيط بنا من كل النواحى، ظللت ثلاثة أيام داخل السفارة، ومن الطابق العلوى كنت أراقب مسرح العمليات وأجريت من خلال ضابط الاتصال المصرى اتصالات مباشرة مع عدد من قادة المقاومة وبدأت عملية إبلاغ الرسائل إلى أبوعمار عن طريق إبراهيم الدخاخنى ضابط الاتصال حول شروط وقف إطلاق النار.
الملك حسين يبلغ عبدالناصر فى القاهرة بالشروط التى يراها ملائمة لوقف إطلاق النار ويتصل عبدالناصر بى لأبلغها بدورى لضابط الاتصال الذى يقوم بإبلاغها لياسرعرفات، وكان عليه أن يخترق خطوط القتال سيرا على الأقدام من الجانب الأردنى إلى الجانب الفلسطينى، وقد رأى ياسرعرفات أن الشروط الأردنية قاسية، ولا يستطيع قبولها، وطلب فى رسالة إلى عبدالناصر الحصول على شروط أفضل من تلك الشروط.
عبد الناصر: أحضروا ياسر عرفات حيًا إلى القاهرة
وعدت إلى القاهرة وقابلت على الفور الرئيس عبدالناصر وقدمت له تقريرى النهائى، وقتها كان عبدالناصر قد دعا الملوك والرؤساء العرب لاجتماع قمة طارئ يعقد فى القاهرة، وخلال المؤتمر اقترح عبدالناصر تشكيل وفد يمثل القمة العربية برئاسة الرئيس السودانى جعفر النميرى وعضوية الباهى الأدغم رئيس وزراء تونس آنذاك، والشيخ سعد العبدالله السالم، وزير الدفاع الكويتى آنذاك، بالإضافة إلي شخصى كرئيس لأركان القوات المصرية المسلحة.
واتفق على أن يكون هذا الوفد ممثلًا لكل المجتمعين فى القاهرة وله سلطة التصرف باسمهم فى الموقف على أساس الاتصالات بالملك حسين وبالسيد ياسر عرفات.
كانت قمة القاهرة قد عقدت فى محاولة جادة من مصر لإيجاد مخرج للأزمة المتدهورة فى الأردن حيث يرتفع عدد الضحايا كل دقيقة بطريقة مخيفة، وعقد وفد القمة اجتماعا فى فندق هيلتون، تم خلاله الاتفاق على خطة عمل الوفد المسافر إلى عمان، وبعد ذلك اتجهت للقاء منفرد مع الرئيس عبدالناصر الذى بادرنى قائلا:
” أهم شىء عندى الآن هو أن تحضر لى ياسر عرفات حيا إلى القاهرة، فعرفات يمثل الرمز الفلسطينى ولابد من إنقاذ هذا الرمز، عليك أن تتصرف فى نطاق من السرية الكاملة، ولك كل الصلاحيات، بقية المهام يقوم بها وفد القمة مجتمعا، وضع خططك ونفذ التعليمات فنحن فى سباق مع الزمن”.
غادرنا جميعا مطار القاهرة إلى مطار عمان، حيث فوجئ الجميع بوصول وفد الملوك والرؤساء العرب، واتجهنا فورا إلى لقاء الملك حسين الذى كان يحيط به كبار ضباطه، وبدأ العاهل الأردنى شرحا مطولا للموقف، وعقب انتهاء المباحثات، وجـه الرئيس نميرى بيانا أذيع عبر إذاعة عمان موجها لجماهير الشعب الأردنى قال فيه:
” إننا جئنا إليكم باسم مؤتمر القادة العرب الذى ينعقد اليوم فى القاهرة، فور أن حلت النكبة فى بلدكم العزيز هذا، وما وقع فيه من أحداث دامية مؤسفة عصرت الدماء فى قلب الأمة العربية، لقد كانت الشعوب العربية تتابع كفاحكم ضد العدو المشترك لحظة بلحظة طوال السنوات الماضية.. ولكنها روعت فجأة بوقوع الكارثة بالأردن المتفتح، وقد كانت تتوقع حدوث أى شىء ما عدا هذا لثقتها بأن الذى يقف فى أرض المعركة هو أكثر الناس إدراكا وتمسكا بمعنى الاتحاد والتعاون والتلاحم تحت كل الظروف، إن الشعوب العربية لم تكن تتصور أن تتفاقم الأحداث وتصل إلى ما وصلت إليه بين الأخوة الأشقاء فى الدار والدم واللقمة والهدف والمصير، بل كانت تؤمن أن القوى الصامدة فى الأردن هى أكبر من كيد العدو ومكره وأساليبه الخبيثة المدمرة، لقد اجتمعت وأعضاء الوفد العربى إلى جلالة الملك حسين ولمست مع إخوانى جراحات قلبه وأسى فؤاده.. ولكننا لمسنا إلى جانب ذلك إيمانه بالعمل الفدائى، وحرصه عليه، وإيمانه بوحدة شعبه وقدسيتها وحرصه عليه، وقد لمسنا من جلالته الاستجابة الصادقة والفورية لنداء أمته وصوت ضميرها وهو الذى كافح وعمل فى سبيل أمته طوال حياته، ولئن تعذر علينا الاجتماع بالأخ ياسر عرفات، فقد اجتمعنا بالأخوة صلاح خلف، وفاروق قدومى، وإبراهيم بكر، وبهجت أبوغربيه، والعقيد سمير الخطيب، ووجدنا عندهم الاستجابة الفورية والصادقة لنداء أمتهم وصوت ضميرها وهم العاملون المكافحون فى سبيل قضيتها المقدسة”.
وأخيرا نجحت الجهود العربية، وتم الاتفاق على عودة قوات الجيش الأردنى إلى ثكناتها وقواعدها العادية، وجلاء الفدائيين من عمان والمدن والقرى، ونقل قواعدهم إلى خطوط وقف إطلاق النار والتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية التى كانت تضم وقتئذ منظمات المقاومة العشر برئاسة السيد ياسر عرفات، وتطبيق نظم الدولة وقوانينها على الفدائيين وعلى كل من يعيش على أرضها.
عدنا إلى القاهرة وقد وصلت الجهود إلى نتيجة يمكن لها على الأقل أن توقف النزيف والخراب، وأن تعطى للقادة العرب فرصة للتفكير والتدبر، فهناك اتفاق تم التوصل إليه لوضع حد للحرب الأهلية فى الأردن، وهذا الاتفاق يحظى بموافقة كل الأطراف – أردنيا وفلسطينيا وعربيا – وكان هذا بالتحديد يوم 23 سبتمبر (ايلول) سنه 1970، وفى هذا اليوم غادر الرئيس اللبنانى شارل حلو القاهرة إلى بيروت بعد أن شارك فى جانب من اجتماعات القادة العرب وفى الوقت نفسه كان الرئيس اللبنانى الجديد سليمان فرنجيه قد تسلم سلطاته الدستورية اعتبارا من يوم 23 ايلول ثم غادر بيروت إلى القاهرة صباح 24 ايلول ليشارك فى اجتماعات القمة العربية، وفى اليوم التالى 24 ايلول 1970 حدثت المفاجأة ، فاتفاق وقف إطلاق النار لم يصمد طويلا ، القتال استؤنف بطريقة أشد وأعنف.
عاد القادة العرب المجتمعون فى القاهرة لليوم الثالث على التوالى إلى مشاوراتهم ووصلوا إلى نتيجة محددة، أن الأمور وصلت بما تتجه إليه الأحداث فى الأردن إلى حد يتعين معه حسم الموقف بصفة قاطعة ونهائية.
واتفق القادة العرب على أن يعود الرئيس جعفر نميرى إلى عمان مرة أخرى وأخيرة على رأس وفد يضم الباهى الأدغم، والسيد حسين الشافعى، والشيخ سعد العبدالله السالم، والدكتور رشاد فرعون مستشار الملك فيصل، والسيد فاروق أبوعيسى وزير خارجية السودان آنذاك، والفريق محمد أحمد صادق، وكانت مهمة الوفد المعلنة هى تقصى الحقائق والعمل بكل الوسائل من أجل وقف إطلاق النار على أن يعود الملوك والرؤساء العرب للاجتماع مرة أخرى فى اليوم التالى (25 سبتمبر) للنظر فى النتائج النهائية لمهمة الوفد.
كانت هذه هى مهمة الوفد الرسمية والمعلنة، أما المهمة الأخرى السرية التى لم يكن يعرفها أحد غيرى فهى صدور تعليمات مباشرة لى من الرئيس عبدالناصر بإحضار ياسر عرفات إلى القاهرة بأى طريقة وبأى أسلوب كان.
ثلاث سيارات مصفحة لتحرير “عرفات” قرب جبل اللويبدة
وصلنا إلى عمان وعقدنا اجتماعا مطولا مع الملك حسين، تركت الاجتماع وذهبت إلى شرفة القصر الملكى استطلع ميدان المعارك، كان القصف مركزا وشديدا على مناطق معينة علمت أنهم يعتقدون أن أبوعمار كان موجودا فيها، وأثناء المقابلة الطويلة قطعت الإذاعة الأردنية إذاعتها التى كانت تقتصر على الأناشيد العسكرية، لتعلن أن الرئيس نميرى سيذيع بيانا بعد وقت قصير، وفى الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق مساء 24 سبتمبر (ايلول) أذاع راديو عمان نداء بصوت الرئيس نميرى كان نصه: “الأخ المناضل ياسرعرفات، باسمى شخصيا ونيابة عن الوفد الذى وصل إلى عمان هذه الليلة نرجو منكم أن تقترحوا علينا كيف يمكن الاتصال بكم ومكان وموعد الاجتماع وبأى وسيلة متاحة، وبما أن الأمر هام وعاجل فأرجو تحقيق ذلك حالا .. نكرر حالا وشكرا.”.
وظل راديو عمان يكرر النداء بعد ذلك عدة مرات ، وبعد حوالى الساعة .. وفى الساعة الثانية عشرة و 45 دقيقة رد ابوعمار على النداء ببيان أذيع من راديو اللجنة المركزية فى دمشق قال فيه:
“سيادة الأخ الرئيس اللواء أركان حرب جعفر محمد نميرى .. سمعت نداءكم الموجه إلينا من إذاعة عمان من أجل لقاء عاجل وفورى يجمعنا .. وتلبية لندائك أقول: ليكن الاجتماع الليلة وفى حدود الساعة الواحدة ، ونقترح أن تصلوا سيادتكم عبر الطريق الموصل من فندق الكرمان إلى مدرسة عالية إلى مقر سفارة الجمهورية العربية المتحدة فى جبل اللويبده ويصلكم مندوب من طرفنا ليرافقكم إلى مقر الاجتماع، لقد عممنا على قوات الثورة فى جبل اللويبدة لتأمين وصولكم وعدم التعرض لسيادتكم وسيكون أكثر أمنا لمسيرتكم لو شددتم على الطرف الآخر بالتقيد بوقف إطلاق النار فى جبل اللويبدة هذه الليلة وإلى أن نلتقى بكم لكم التحية من إخوانكم المناضلين”.
ومن القصر الملكى فى عمان ذهبنا إلى لقاء ياسرعرفات وكان دليلى هو ذلك الضابط المصرى الشجاع إبراهيم الدخاخنى، وتحت ستار من القصف المدفعى الشديد توجهت ثلاث سيارات مصفحة إلى مكان الاجتماع بعرفات، توقفت السيارات الثلاث عند مكتب الوزير المفوض المصرى فى جبل اللويبدة، منطقة يسيطر عليها الجيش الأردنى، وعلى بعد كيلو متر واحد يقف الفدائيون متحصنين فى مواقعهم على قمم جبال عمان وفوق أنقاض المنازل التى تهدمت وصل مندوب من ياسر عرفات، وبعد مداولة قصيرة تقرر أن ينتقل الرئيس السودانى ومعه أعضاء الوفد إلى المقر السرى لعرفات، ويتم اللقاء، ويتفق على أن ينتقل الجميع إلى مقر السفارة المصرية فى جبل عمان، وكان لابد من تغيير زى أبوعمار حتى لا يتعرف عليه أحد، وبالفعل نجحنا وركبنا السيارات ومعنا عرفات ودخلنا السفارة المصرية من دون أن يحس أحد أن معنا ياسر عرفات، وبدأنا المفاوضات مع الملك حسين.
وفى الساعة الثانية إلا الثلث بعد ظهر يوم 25 سبتمبر أذاع راديو عمان أن وفد الملوك والرؤساء قد اجتمع مع كل من الملك حسين وياسرعرفات، وقال أنه نتيجة للجهود المباركة التى بذلها الوفد برئاسة اللواء جعفر نميرى فقد تم بحمد الله الاتفاق الشامل على وقف إطلاق النار، وأضاف أن ياسر عرفات سلم إلى اللواء نميرى “نداء خطيا” موقعا منه بوقف القتال، بعد ذلك بدأ وفد الرؤساء بحث الخطوات التنفيذية للاتفاق، ولكنها تعثرت بالتطورات التى حدثت عند العصر، فالقتال استؤنف مرة أخرى وتجدد القصف وشمل كل مناطق عمان.
ولكى أتمكن من إخراج ياسرعرفات من عمان من دون علم أى فرد فى الأردن طلبت منه أن يصعد إلى الطابق الثالث من السفارة ويظل هناك إلى أن أحضر إليه، فى الوقت نفسه طلبت من ضابط الاتصال المصرى أن يقوم أبوعمار بتسجيل بيان يذاع بصوته فى وقت حددته له من إذاعة المقاومة يهاجم فيه الأردن ويعلن استمرار القتال حتى يتم الاتفاق الكامل على وقف إطلاق النار، وقتها اعترض أبوعمار قائلا: كيف ذلك ؟ قلت له: أرجوك لا وقت لدينا نفذ ما طلبته منك وأنا ضامن للنتيجة النهائية وهى حقن الدماء، وسأتجه أنا الآن مع وفد القمة العربية للقاء أخير مع جلالة الملك حسين.
وبالفعل ذهبت مع الرئيس نميرى ودخلنا مع الملك حسين فى مفاوضات حول تثبيت وقف إطلاق النار، وبعد مضى نصف ساعة، دخل علينا أحد ياوران الملك حسين ومعه جهاز تسجيل أداره للملك فسمعنا بيانا بصوت ياسر عرفات يهاجم فيه الأوضاع بشدة ويعلن استمرار القتال حتى يتم التوصل إلى إيقاف حقيقى للمعارك، وثار الذين من حول الملك وبدا الوضع فى غاية الصعوبة فقلت لهم بالقطع هذا ليس صوت عرفات، ولم يستمع أحد لتبريراتى، وانتهى الاجتماع بقرارنا العودة فورا إلى القاهرة.
وعدنا إلى السفارة المصرية وقد اشتدت المعركة، وقد لاحظت من خلال متابعتى أن القصف تركز هذه المرة على المنطقة التى التقينا فيها بياسر عرفات فى جبل اللويبدة، وقبل أن نغادر السفارة المصرية طلبت أن اصطحب معى فى الطائرة عددا من المصريين الذين حاصرتهم الأحداث، وبالفعل وصل إلى مقر السفارة عدد من السيدات طلبت منهن أن يجهزن أنفسهن لركوب السيارات التى ستتجه إلى المطار، وصعدت إلى الطابق العلوى من السفارة وطلبت من أبوعمار أن يحلق ذقنه وهنا فقط أخبرته أنه سيصحبنا إلى القاهرة، فعارض عرفات ذلك بشدة، فقلت له أن هذا هو قرار الرئيس عبدالناصر، وإن وجودك الآن حيا خارج عمان أفضل للمحافظة على الثورة الفلسطينية، والرئيس عبدالناصر لديه من الخطط ما يضمن إنهاء الاقتتال الدائر خلال يومين أو ثلاثة، عارض عرفات طويلا ولكنه فى النهاية وافق، ثم استعرت عباءة الوزير الكويتى وألبستها لعرفات ونزلت به إلى الطابق الأرضى للسفارة وطلبت من إحدى المواطنات المصريات أن تركب السيارة ومعها عرفات وابنتها، وبدأنا جميعا نتحرك إلى السيارات من دون أن يشعر به أي فرد من رجال المخابرات الأردنية.
ووصلنا إلى مطار عمان فطلبت من سائق سيارة عرفات أن يتجه مباشرة إلى الطائرة ونزل عرفات ومعه السيدة المصرية التى لم تكن تعرفه وصعد إلى الطائرة وجلس فى مقعده من دون أن يحس به أحد بينما كنت أنا منهمكا فى حديث ضاحك مع أحد ضباط الجيش الأردنى الكبار كما صافحت حرس الطائرة لأشغلهم عن متابعة الصعود إلى داخلها.
“أبو عمار” يصل القاهرة ودهشة جمال عبد الناصر
وانطلقت الطائرة إلى القاهرة ونزل منها الرئيس نميرى وبقية أعضاء الوفد واستقبلنا فى المطار من دون أن يشعر أى فرد فى مصر، ومن المطار إلى مكتبى فى رئاسة الأركان ومعى عرفات، وفجأة دق جرس التليفون، كان المتحدث سامى شرف: “حمدا لله بالسلامة.. نقدر جهودكم، الرئيس عبدالناصر يسأل عنك وما هى أخبارك”، قلت: “كله تمام”، سأل سامى شرف: “ماذا تعنى ، ماذا أقول للرئيس؟”.
قلت : “كله تمام”.
قال : ماذا تعنى ؟
قلت : “لاشئ ، فقط أرجو إبلاغه : المهمة نفذت”.
قال : “أى مهمة ؟”
قلت : “أرجوك أبلغ الرسالة للسيد الرئيس”
وبعد دقائق كان عبدالناصر شخصيا على التليفون “يا صادق حمدا لله بالسلامة ، ماذا فعلت ؟”
قلت : “المهمة نفذت يافندم ، كله تمام ، عرفات موجود معي”.
قال الرئيس : “موجود فين ؟”
قلت : “عرفات معى الآن”.
قال الرئيس : “معك الآن فى القاهرة ؟ كيف حصل ذلك ؟ كيف خرجت به من عمان من دون أن يعلم أحد ؟ وكيف دخلت به القاهرة من دون أن يراك أحد ؟”
قلت : “يا فندم أبوعمار إلى جوارى الآن يرتدى بذلة الياور المرافق لى”.
قال الرئيس : “إذن أحضر أنت وهو فوراً .. ؟ نعم الآن وفورا..”
وبعد دقائق كنا ياسر عرفات وأنا في منزل الرئيس عبدالناصر بالأحضان وبالعناق قابله عبدالناصر والدموع تملأ عينيه ..” الحمد لله ” … قالها الرئيس عدة مرات.
قلت للرئيس عبدالناصر :” ما العمل الآن يا سيادة الرئيس ؟”
قال : “ماذا تقترح ؟”
قلت : “يظل عرفات معنا بصفة سرية لبضعة أيام ثم يطير إلى دمشق ومن هناك يبدأ العمل”.
هنا قال عبدالناصر : “بل عرفات سيظهر للناس غداً وبصفة رسمية..”.
قلت : “هذا سيؤزم الموقف”.
قال الرئيس : “يا صادق اذهب الآن لتنام لقد نفذت مهمتك بنجاح.. واترك لى المهمة الآن”.
وبالفعل تركت عبدالناصر ومعه ابوعمار وعدت إلى مكتبى. وبعد ساعتين دق التليفون وصوت عبدالناصر :” يا صادق افتح الراديو اخبار الساعة الواحدة والنصف مساء ستعلن وصول ياسر عرفات إلى مصر”.
قاطعته قائلا : “يا ريس أخشى من تأزم الموقف”. وهنا قال عبدالناصر “ظهر غد يكون الملك حسين فى القاهرة وستتحقق المصالحة”.
فى اليوم التالى كان الملك حسين يتصل بالرئيس عبدالناصر ويبلغه أنه فى طريقه إلى القاهرة لحضور القمة ، وفى مساء يوم 27 سبتمبر أعلن من القاهرة التوصل إلى اتفاق شامل بين الحكومة الأردنية والمقاومة الفلسطينية، وبدأ الملوك والرؤساء العرب يغادرون القاهرة إلى عواصم بلادهم وكنت مع عبدالناصر بالمطار وكانت السعادة تغمره، وكانت آخر كلماته لى: ” يا صادق اذهب الآن لتستريح، وبعد ذلك فلتدخل المستشفى لتجرى الجراحة، لماذا لم تقل لى وقتها انك كنت فى المستشفى عندما طلبت منك السفر فوراً إلى عمان ؟”.
قلت له يا سيادة الرئيس لم أفعل سوى الواجب، فلتعد سيادتكم الآن للمنزل وتستريح.
قال لى: “بالفعل أنا تعبان وسأنام ملء جفونى. الحمد لله . تحققت المعجزة . سأذهب لأنام ولا أريد أي إزعاج من أي واحد منكم. أنت أيضا اذهب لتنام مفهوم وبعدها سنلتقى…”.
وودعت الرئيس بعد أن أديت له التحية العسكرية وذهبت إلى مكتبى. وبعد ساعات دق جرس التليفون : عليك بالتوجه فوراً إلى منزل الرئيس عبدالناصر.
وقتها قلت لنفسي “سبحان الله ، الراجل ده مش حايريح نفسه أبدا ..” ولم يخطر على بالى أي شىء سوى أنها مهمة جديدة سيكلفنى بها الرئيس عبدالناصر. وفى بيته فى منشية البكرى كانت الفاجعة … عبدالناصر فى رحاب الله.
التعليقات مغلقة.