قصة ما يسمى “حل الدولتين” / هاني المصري
هاني المصري ( فلسطين ) الثلاثاء 23/1/2018 م …
تزايد الحديث حتى في بعض الأوساط القيادية الفلسطينية أن ما يسمى “حل الدولتين” انتهى، وأن الفلسطينيين يجب أن يعودوا إلى المطالبة بحل الدولة الواحدة الذي سبق أن طالبت به الثورة الفلسطينية في السنوات الأولى لانطلاقها، وتخلت عنه بعد حرب تشرين 1973.
وعندما تحرك قطار التسوية كان لا بد من إجراء تغييرات في البرنامج الفلسطيني، ومن دونها كانت القضية ستخرج من المعادلة المطروحة كليًا. ويكمن الخطأ في تصور دعاة القبول بأن قطار التسوية جارف مع اختلافهم على كيفية التعامل معه، إذ طالبوا بالصعود إلى القطار قبل أن يغادر المحطة من دون الفلسطينيين. وفي هذا السياق تم تبني برنامج النقاط العشر في العام 1974، الذي تضمن إقامة سلطة وطنية على أي جزء يتم تحريره.
وقد تحول هذا البرنامج من برنامج مرحلي على طريق العودة والتحرير إلى برنامج مكون من ثلاث ركائز (حق العودة، وتقرير المصير الذي يشمل إقامة دولة على حدود 1967، والمساواة بين المواطنين في إسرائيل)، ثم إلى برنامج نهائي وصولًا إلى اتفاق أوسلو الذي اعترف بإسرائيل على 78% من أرض فلسطين، وقزم وقسم كل من القضية والأرض والشعب إلى أقسام ومراحل وقضايا انتقالية ونهائية، إذ صار البرنامج المرحلي برنامجًا نهائيًا، ولم تكن هذه النتيجة حتمية.
وتم الهبوط بسقف البرنامج المرحلي ليصبح برنامج الحد الأقصى، إذ تم التركيز على إقامة الدولة وتجاهل بقية أركان البرنامج، بل الاستعداد للفصل ما بينها، أو المقايضة فيما بينها، حيث بدت أن المساومة التي تقايض بين الدولة وحق العودة مقبولة، كما يظهر من خلال الموافقة على مبدأ “تبادل الأراضي”، ومعايير كلينتون، وحل متفق عليه لقضية اللاجئين، ودولة منزوع السلاح، ومرابطة قوات دولية أو أميركية لفترة يُتفق عليها.
في المقابل، وافقت جبهة الرفض على أن قطار التسوية جارف، ولكنه سيصل إلى إقامة دولة مسخ على جزء من فلسطين مقابل التخلي عن باقي فلسطين، ما يستوجب رفضها، خصوصًا أنها لا تملك المقومات الاقتصادية وغيرها، ما دفع أصحاب جبهة القبول إلى الرد عليهم بأننا في مرحلة استعادة وطن وليس اختيار وطن، وإن استرجاع جزء أفضل من استمرار ضياع كل شيء.
بعد عشرات السنين من الأوهام والرهان والتجارب والمبادرات والمفاوضات للتوصل إلى اتفاق حول “حل الدولتين”، ثبت بالملموس أن إسرائيل لا توافق أبدًا على قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، لأنها لا تجد من يجبرها على ذلك، وكونها تحد من سيطرتها ونفوذها ومن إمكانية تحقيق أطماعها وأحلامها في إقامة “إسرائيل الكبرى”، إن لم يكن على كل أرض فلسطين فعلى أكبر مساحة ممكنة منها، شرط الاحتفاظ بأقل عدد ممكن من السكان.
يدل ما سبق على أن هدف إقامة دولة على حدود 67 عن طريق المفاوضات الثنائية والتسوية برعاية أميركية والرهان على الأمم المتحدة لم يكن واقعيًا وقابلًا للتحقيق في أي وقت، حتى في العصر الذهبي لاتفاق أوسلو. وإذا كان هذا الهدف غير ممكنًا فكيف يتصور البعض استبداله بدولة واحدة ترفضها إسرائيل بصورة أكبر من رفضها للدولة الفلسطينية. وبالتالي، فلا معنى للتهديد من قبل بعض الأوساط القيادية الفلسطينية بالدولة الواحدة واستخدامه كتكتيك لأنه ضارّ، ويسهّل ولو من دون قصد تمرير الحل الإسرائيلي، ويمس بمصداقية القيادة الفلسطينية التي تظهر وكأنها تخلت عن سياسة تبنتها طوال عشرات السنين، طالبت فيها بدحر الاحتلال وإقامة الدولة من دون بلورة سياسة جديدة تقدم بديلًا متكاملًا.
إن أقصى ما طرح ويمكن أن يطرح لاحقًا من قبل إسرائيل على الفلسطينيين حكم ذاتي على السكان، بينما تبقى السيادة الإسرائيلية على الأرض. وليس بالضرورة أن يعارض القادة الإسرائيليين إذا سمى الفلسطينيون الحكم الذاتي دولة أو حتى إمبراطورية ما دامت مفاتيح الأمور ستبقى بيد إسرائيل.
تأسيسًا على ما سبق، إن ما يسمى “حل الدولتين” التفاوضي عن طريق تسوية لم يمت بعد قرار ترامب الذي دق مسمارًا جديدًا في نعشه، ولا بعد انهيار قمة كامب ديفيد في العام 2000، بل ولد ميتًا. فلا يوجد ما يدفع إسرائيل إلى الموافقة على إقامة دولة فلسطينية، وحتى يحدث ذلك لا بد أن تجبر على ذلك من خلال أن يصبح احتلالها لأراضي الضفة والقطاع مكلفًا أكثر من الأرباح بكثير.
هل هذا يعني أننا يجب أن نعلن التخلي عنه، وتبني الدولة الواحدة الديمقراطية، أو ثنائية القومية، أو غيرهما، أو العودة إلى برنامج التحرير والعودة لإقامة الدولة الإسلامية أو القومية؟
إن ما جرى منذ تبني برنامج “النقاط العشر” في العام 1974 لا يمكن إزالته بخطاب أو قرار، وإنما بحاجة إلى رؤية شاملة جديدة تفتح الطريق لتبني مسار مختلف جوهريًا عن المسارات المتبعة سابقًا. رؤية تركز على تغيير موازين القوى وتعزيز الوجود والصمود الفلسطينيَين على أرض فلسطين، وإنجاز أقصى ما يمكن إنجازه في كل مرحلة، والانتقال إلى تحقيق أهداف أخرى، من خلال الرهان على عدالة القضية، وتفوقها الأخلاقي، وكفاحية الشعب الفلسطيني وإصراره على تحقيق أهدافه، وعلى الأبعاد العربية والإسلامية والإنسانية التحررية للقضية الفلسطينية. رؤية لا تقفز عن الواقع ولا تخضع له، وإنما تتعامل معه من أجل تغييره.
لقد فشل “حل الدولتين” لأن موازين القوى مختلة بشكل كبير لصالح إسرائيل، ولأن القوى المؤمنة به في إسرائيل هامشية ولا يوجد لها أفق لكي تكبر في ظل المزايا التي يحصل عليها الإسرائيليون في حكم الوظيفة التي تؤديها إسرائيل، ولأن الدول العربية في حالة يرثى لها، والدول العظمى والأمم المتحدة ليست بوارد فرضه على إسرائيل كونها في الأساس مشروعًا استعماريًا جاء لخدمة مصالح الدول الاستعمارية وأهدافها؛ لإبقاء المنطقة العربية أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة والجهل والفقر، ولا يزال يخدم تحقيق أهدافها ومصالحها رغم تغيير مكانة وأهمية الدور الإسرائيلي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء نظام القطبية الثنائية، وسقوط دول مستعمرة وصعود غيرها، ورغم تغير الاستعمار القديم ليحل محله استعمار جديد إمبريالي.
على الرغم من فشل “حل الدولتين” لا يزال العالم مؤمن به لأسباب مبدئية أخلاقية تتعلق بضرورة التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، ولأن بقاءها دون حل – وهذا هو الأهم – يجعلها مصدر عدم استقرار وتهديد للأمن والسلم في المنطقة والعالم، وخصوصًا أن كل الأطراف والدول والعقائد على اختلافها تستخدمها لتحقيق أهدافها ومصالحها المتعارضة.
كما أن التوصل إلى قناعة ولو متأخرة باستحالة تحقيق “حل الدولتين” عن طريق المفاوضات والرهان على الأميركيين لا يفتح طريق الدولة الواحدة كما يتوهم البعض. فهناك سيادة لدولة واحدة (إسرائيل) ولا يوجد دولة واحدة، وإنما يفتح الطريق للضم الزاحف والاستعمار الاستيطاني الذي تزيد معدلاته، ما يعني أن الذي سيحل محل “حل الدولتين” – إذا لم يتوحد الفلسطينيون ويتبنوا رؤية جديدة ووضع الخطط اللازمة لتحقيقها، وإذا لم تتحل قياداتهم وقواهم بالإرادة لدفع الثمن المطلوب – حل إسرائيلي يترواح ما بين الحكم الذاتي، والتهجير، وربط المعازل الفلسطينية الآهلة بالسكان في الضفة بالأردن وإلحاق القطاع بمصر، أو إقامة الدويلة بغزة بعد توسيعها من سيناء وتجميع الفلسيطينيين فيها، أو تطبيق خطة الحسم، أو خطة الإمارات السبع، أو الحل على حساب الأردن، أو الدولة الواحدة بنظامين، وهي كلها مرفوضة من الفلسطينيين، وتحقيقها يعني تصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها.
أخيرًا، إن حل الدولة الفلسطينية ذات السيادة على حدود 67 يجب أن يبقى مطروحًا مع أنه غير ممكن التحقيق على المدى المباشر على الأقل، لأنه يستند إلى الشرعية العربية والدولية، ويمكن أن يساعد على منع الحل الإسرائيلي الجاري فرضه حاليًا، والذي من شأن التمسك به أن يبني على الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، الذي تجدد بقوة من خلال الرفض الواسع لقرار ترامب الأخير، وكذلك لأن ميزان القوى القادر على دحر الاحتلال وإقامة الدولة أقل من ميزان القوى القادر على التحرير، أو إقامة الدولة الواحدة التي ترفضها الأغلبية الساحقة في إسرائيل بصورة أكبر من رفضها إقامة الدولة. فهناك اعتراف دولي بإسرائيلي ورفض عالمي لاحتلالها لأراضي 67 يمكن التسلح به، ولكنه غير قادر على دحر الاحتلال الذي بحاجة إلى إستراتيجية متعددة الأبعاد والأطراف والأشكال والأدوات، وأساسها المقاومة لتزرع حتى تحصد السياسة.
لقد تغير معظم اليمين الإسرائيلي الذي كان يعطي الأولوية تاريخيًا لوحدة وتكامل أرض إسرائيل، وأخذ بمقولة اليسار الصهيوني الذي أعطى الأولوية لنقاء اليهود في دولة إسرائيل، بحيث أصبح مستعدًا لضم أكبر مساحة من الأرض وطرد أكبر عدد ممكن من السكان من دون السماح لمن تبقى منهم بإقامة دولة تملك مقومات الدول.
إن عدم إمكانية قيام دولة فلسطينية أو دولة واحدة حاليًا لا يعني عدم تبني أي خيار، بل يمكن الجمع بين هذين الخيارين لأن تجسيد الدولة على حدود 67 لا يمنع بل قد يكون أقصر طريق لتحقيق الدولة الواحدة. فأس الشرور لم يكن تبني خيار الدولة وإنما تصور تحقيقه عبر المفاوضات واعتماده كبرنامج فلسطيني على حساب بقية الحقوق الفلسطينية.
التعليقات مغلقة.