آخرُ من خرجَ من معسكرِ الحامدية .. ميسم ورفاقه رحلةُ تقفي الأثرِ بينَ الأحراش
الأردن العربي ( السبت ) 3/1/2015 م …
حوار … سهى سليمان
هو ذاكَ المنزل، حيثُ قوس قزح يدلّكَ على الطريق، وتسمعُ همسَ الأشجارِ سعيدةً بعودةِ الغائب، ثمّةَ فرحٌ يقفزُ فوقَ العيونِ الدامعة، ليستقرَ في الأعماقِ مهدئاً من روعِ الخوفِ أنكَ أنتَ الآن وصلتَ بأمان.
بعد سنتين من وجودِ “ميسم” في معسكرِ الحامدية، ودعَ شمسَه الغائبةِ خلفَ الجبال، واقتحمَ الضبابَ مشهراً سيفهُ في وجهه، سارَ في الأحراش، انتفضَ على التعبِ وانهارَ الخوفُ مترنحاً على وقعِ صموده.
ولأنَّ الوطنَ غالٍ، ولأنَّ الأرضَ أغنيةٌ تصدح ُبها حناجرُ من زرعَ قمحها وغرسَ ليمونها، كانتْ جباهُهم عاليةً شامخة، وجوهُهم مشرقةً تضفي على المكانِ نوراً على نور.
عندما وصلنا كانَ والدُ ميسم باستقبالنا، أبٌ جليل، تتبدى على وجههِ تناقضاتِ الفرحِ والحزن، تجاعيدُ آثارِ الغيابِ الطويل، ودمعةُ الفرحِ باللقاءِ القريب، أدخلونا قلوبَهم قبلَ منزلهم، وكان لنا هذا اللقاء:
من هو ميسم؟
اسمي ميسم محسن حسين، ولدتُ في قريةِ مجبر التابعة لمنطقةِ الشيخ بدر في محافظة طرطوس، من مواليد 1981، موظفٌ في مؤسسة المياه، طلبتُ لخدمةِ العلم (الاحتياط) في 17 آذار 2012، وذهبتُ إلى إدلب ـ معسكر الحامدية قبل الحصار.
الحامدية… تلال ٌوضباب
أديتَ الخدمةَ في معسكرِ الحامدية، ما هي طبيعةُ المعسكرِ وجغرافيته؟
يقعُ معسكرُ الحامدية في منطقةٍ محاصرةٍ بالتلالِ، وطبيعةُ الطقسِ قاسية جداً حيث بقي الضبابُ لأكثر من شهرين، ويحاذي المعسكرُ قريةَ الحامدية جنوب مدينة معرة النعمان بريف إدلب، يتفرعُ منه طرق رئيسة، حيث يقعُ على طريق دمشق ـ حلب، وطريقٌ يؤدي إلى مدينة معرة النعمان الذي يصل بين إدلب وحلب، وطريقُ الاتستراد الذي يصل من حماة إلى حلب.
كنا محاصرين كوادي الضيف، وقد استمرَ الحصار أكثر من 11 شهراً، كانتْ معنوياتنا عالية جداً، ولم نخف يوماً، خاصةً وأننا اعتدنا على طبيعةِ المعاركِ والمواجهاتِ مع المجموعات المسلحة.
عندما كنت أودّ الاتصالَ مع أهلي كنتُ اضطر إلى السيرِ والخروجِ إلى منطقةٍ عاليةٍ لالتقاطِ شبكةِ الهاتف الجوال، وفي بعضِ الأحيانِ كنتُ أتواصل عن طريقِ الهاتف الأرضي.
هجومٌ على معسكري وادي الضيف والحامدية
كان هناك تراجعٌ باتجاهِ معسكر الحامدية من وادي الضيف؟ ما السبب؟
منذ أن أعلنَ المسلحون معركةَ تحت اسم “تحرير وادي الضيف والحامدية”، بدأوا هجوماً عنيفاً على المنطقةِ بأكملها، وقد شكّلت طبيعةُ المنطقةِ والطقسُ الضبابي عائقاً أمام البقاءِ في المعسكرِ ما اضطر رفاقنا إلى التراجعِ باتجاه معسكر الحامدية.
بعد ذلك قاموا مرة أخرى بالهجومِ على معسكرِ الحامدية، واستمرتْ الاشتباكات لمدة يومين تقريباً، وكان المواجهاتُ عنيفةً جداً وبشكل مباشر، وقد أدى ذلك إلى استشهادِ عددٍ من أفراد الجيش، لكن بالمقابل كان هناك أعدادٌ كبيرةٌ من القتلى في صفوفِ المسلحين.
نفذَ الهجومَ على المعسكرين ما يقارب 4000_5000 مسلح، وقد استخدموا كافة أنواع الأسلحةِ خاصةً الثقيلة منها، (مدافع، دبابات، وأكثر ما كان مؤثراً هو قذائف B9 التي كانت تُضرب من مسافةٍ قريبة، وما ساعدهم في ذلك تواجد الضباب الدائم)، إضافةً إلى الصواريخِ الحرارية وهي التي أدتْ إلى إعطابِ الدبابة التي كنا نستقلها.
هناك معلومات تتحدث عن أمر بالانسحاب من 6 أشهر ما صحة هذا؟
نعم الأمر صحيح، لكننا لم نرضى بذلك، فمن صمدَ لمدة 6 أشهر سابقة، سيستمر بالصمود، ولا سيما بعد أن أصبحَ معسكري وادي الضيف والحامدية قدوةً وأسطورةً بالصمود، لا يمكن أن نقبلْ بهذا الانسحاب، كنا نصدّ أي هجومٍ على المعسكر، وما كان يساعدنا هو سلاحُ الجو الذي كان يحسمُ أي معركة لصالحنا.
على الأقدامِ سيراً… وسيلتنا تقفي أثر الدبابات
من الحامدية إلى القرية… لو عدنا قليلاً إلى الوراءِ ورويتَ لنا كيف كانتْ تلك الرحلة؟
رحلةٌ شاقةٌ جداً، قاسيةٌ بكلِّ تفاصيلها، لكن ما اتذكره دائماً ولن أنساه، عندما بدأنا بالخروج من المعسكر، على شكلِ مجموعات من 10_15 شخص في كل دبابة، أما الجرحى فتمِّ نقلهم عن طريقِ الشاحناتِ أو العربات.
وبعد أن بدأ الرتلُ (المؤلف من دبابات والعربات عدة) بالمسير، كنا آخر مجموعةٍ تنسحب، وكانت الدبابةُ التي تقلنا هي الأخيرة، حيث استهدفها المسلحون ما أدى لإعطابها، واستشهادِ أحد أصدقائي، إضافةً إلى بعضِ الإصاباتِ الخفيفة، ما اضطرنا للخروجِ منها.
أخذ “ميسر” نفساً عميقاً قبل أن يكملَ وكأنه يزيحُ عن كاهلهِ حملاً ثقيلاً:
هنا تابعَ رتلُ الدبابات مسيره، في حين بدأنا رحلةَ السيرِ على الأقدام، اضطررنا للمشي من الحامديةِ إلى معرحطاط ومن ثمّ كفر باسين، توغلنا في الأحراشِ والمزارع، لم نكنْ نعرف الطريق، اتجهنا نحو المجهول، حتى تمكنا من معرفة الطريقِ نحو بلدة تدعى “التح”.
تقعُ بلدة “التح” جنوبَ شرقِ مدينة النعمان بحوالي عشرات الكيلومترات، على الحدودِ الإداريةِ الفاصلةِ بين منطقتي المعرة وخان شيخون، وتبعد ُعن كلتا المدينتين المسافة نفسها لتشكلَ رأس مثلثٍ قاعدته تلك المدينتين (المعرة والخان).
بعد ذلكَ تابعنا مشقةَ المسيرِ إلى خان شيخون، ومن ثمّ إلى بساتينِ مورك وصولاً ثمّ إلى “تلة الكتيبة” في مورك ومن ثمّ إلى إحدى النقاطِ العسكريةِ في حماة ومن ثمّ تمّ نقلنا إلى قرانا.
يضيف ميسم محدقاً بعينيه على الأرض وكأنه يعيد ما حدث:
كنا نتقفى أثرَ العربةِ أو الدبابةِ من خلالِ تتبعِ خطّ سيرِ السلاسل، والمفارقة عندما وجدنا أحد الضباطِ وهو يستريح، اعتقدنا في بدايةِ الأمرِ أنه من المسلحينِ، خاصة مع كثرة الضباب لم نعرفه، كنا على وشكِ إطلاقِ النار عليه، لكنه عرّفَ عن نفسهِ وتعرفنا عليهِ ورافقنا بمسيرِ العودة.
السلاح صديقنا.. والخوف هو العدو
في المعركةِ أصدقاءٌ كثر وأعداءٌ أكثر من هم؟
لم يكنْ أجملُ من السلاح صديق، كان رفيقنا الدائم، إضافة إلى رفاقِ السلاحِ الذين قاتلتُ معهم جنباً إلى جنب في أرضِ المعركة، كانوا أخوة لي.
أما العدوُ الأساسي كان وسيبقى هو ذلك الإرهابي المسلح الذي ساهمَ بتدمير وطننا، أرضُ السلام والمحبة، إضافةً إلى الخوف، لم يدخل قلوبنا، خضنا أكثرَ من 50 معركة خلالَ فترة تواجدنا هناك وتحتَ الحصار، وأصبحتْ عزيمتنا عاليةً ومستعدين لخوضِ أية معركة.
لحظاتُ الحزن والفرح كثيرة، حبذا لو ذكرت لنا بعضاً منها خلال الحصار؟
ربما هي لحظاتُ فرحٍ وحزن، لحظاتٌ عشتها مع رفاقِ السلاحِ وأصدقائي في المعسكر، كنا كأسرةٍ واحدة، مثل الأخوة في كلّ شيء، كالجسدِ الواحد، نتقاسمُ الحزنُ والفرح، معاً على السراءِ والضراء.
عندما كان أحدنا يصلهُ بعض المساعدات من أهلهِ وخاصةً الطعام، كنا نتقاسم لقمةَ الخبزِ والشرابِ مع جميع الأصدقاء، كان هناك إيثارٌ منقطع النظير.
مرّتْ علينا لحظاتُ حزنٍ استذكرنا وما زلنا نستذكرُ الشهداءَ من أصدقائنا وغيرهم، بعضهم عرفناه وبعضهم لم نعرفه، لكن ما كان يعزينا هو أننا نحاربُ من أجلِ قضيةٍ محقةٍ وندافعُ عن أرضنا ووجودنا.
غيابٌ عن الوعي… وموكبٌ في استقباله
“ميسم” كان يتحدث بعنفوان، لم يحدثنا عن حالتهِ الصحية ربما تغاضى ذلك عن قصد، لكن الأخَ الأكبر نورس تابعَ الحديثَ قائلاً:
كنتُ أتواصلُ مع أخي بشكلٍ دائم، خاصةً طيلةَ فترةِ الانسحاب، وقد أخبرني أننا وصلنا إلى طريقٍ مسدودٍ ومحاصر من قبل المسلحين الذين يطلقون القذائفَ بشكلٍ عنيفٍ جداً، حينها طلبتُ إليه أن يبقى مع أصدقائه ويسيروا بالطريقِ الذي يهديهم الرحمنُ إليه، وفعلاً بحمدِ الله استطاعَ هو وأصدقائه الوصولَ إلى مورك.
في الوقتِ الذي أخبروني فيه أنه وصلَ مع أصدقائه بخيرٍ وسلامة، يوم الثلاثاء الساعة 9 صباحاً، حاولتُ الاتصال أكثرَ من مرةٍ لكنه لم يجيب، قلقتُ بعض الشيء، حتى علمتُ أنه كان غائباً عن الوعي، ومرهقاً بشكل كبير، نتيجةَ المسيرِ الطويل، وبعد فترةٍ تمكنتُ من الاطمئنانِ عليه وأنه وصلَ إلى برِّ الأمان.
اسمحوا لي عبر مؤسستكم الكريمة أن أوجه التحيةَ والشكرَ لكلِّ من ساهمَ وساعدَ أخي وأصدقائه للوصول سالمين.
عندما انتهتْ جميعُ الإجراءاتِ الخاصةِ بخروجهم أبيتُ إلا وأنْ نستقبلهم بموكبٍ كالأبطال، فقد ذهبَ كلّ من يحبّ ميسم، وكلّ من كانَ فرحاً بوصولهِ وعودته، لأنه هو وأصدقائه أبطالٌ ويستحقونَ أن نحتفلَ بهم.
عندما رأيتُ أخي وأصدقائه لم أصدق نفسي، للوهلةِ الأولى لم أكن أعرفُ أغلبيتهم، فقد كانَ التعبُ والإرهاق، الوحلُ والطين يغطي لباسَهم العسكري لكني كنتُ على يقين أنني أرى أبطالاً مغاوير.
وتأكيداً لما تحدثَ به أخي عن جوّ التعاونِ والمحبةِ الذي عاشوه في المعسكر، فقد تحدثَ أحدُ الضباط في الجيشِ السوري العائدين معه، ووجهّ الشكرَ لأخي وأصدقائه، وأثنى على صمودهم وبسالتهم في التضحيةِ والدفاعِ عن بعضهم وحمايته، فقد شكلوا قدوةً في التضحيةِ والإيثارِ عندما قاموا بالتغطيةِ الناريةِ لحمايةِ بعضهم والمساهمةِ بشكلٍ كبيرٍ بالعودةِ السالمةِ للجميع.
وأنا على استعدادٍ مع جميع أخوتي على ارتداءِ الزيّ العسكري والذهابِ إلى أرضِ المعركة للدفاع عن تلك الأرض، لأن قضيتنا وأرضنا مقدسة.
“ميسم” بماذا كنتَ تفكرُ وأنتَ عائدٌ مع رفاقك؟
كان الهمُّ الأولُ والأخيرُ وربما الأوحد هو وصولنا جميعاً بخيرٍ وسلامة، دون أن يصيبَ الأذية لأحدٍ منهم، كنا آخرَ مجموعةٍ تنسحب، 9 أشخاصٍ ممن اجتمعنا معاً، لا يعرفُ الجميع بعضهم لكننا خلالَ رحلةِ المسير أصبحنا كالأخوة.
بدمع العين… أنا أم البطل
هل اعتقدتَ في يوم من الأيامِ أنكَ ستعودَ إلى دياركَ؟
كانَ دائماً الأمل موجودٌ بالعودة، لم يعرف الخوفُ يوماً طريقاً إلى قلوبنا، لقد اعتدنا المعاركَ وطبيعتها بعد حصارٍ دامَ لمدةِ عام ٍتقريباً.
والدُ البطل “ميسم” كان يتابعُ الحديثَ وينظرُ إلى ولدهِ بفخرٍ وعزة وكبرياء، فقد تحدث قائلاً:
أنا والدهُ أطلبُ من الله العلي العظيم أن يحمي الرئيس وكل فردٍ في الجيشٍ السوري، وأن يعودَ كلّ غائبٍ إلى أهله، وأن تعودَ أرضَ سورية إلى ما كانتْ عليه قبل الأزمة، كما أطلبُ من الله الشفاءَ العاجل للجرحى والرحمة لشهداء سورية.
أما صاحبةُ العينين الدامعتين، من “الجنة تحت أقدامها” أولى كلماتها كانت: ابني بطل، ولديّ أربعةُ أولاد ٍجميعهم فداء لهذا الوطن.
قصةٌ أخرى… زوجُ أختٍ مفقود
يعاودُ نورس الأخ الأكبر لميسم الحديث، وكان لديه ما يتحدث به، قضيةُ قلقٍ ومصيرٌ مجهول لزوجِ أخته: حيث قال:
أودُّ أن أشيرَ إلى قضيةٍ مهمةٍ جداً، قضيةُ زوج أختي المفقود (وائل معين حسن)، انقطعتْ أخباره عندما كانَ في محطةِ سنقور للكهرباء، حيثُ طُلب لخدمةِ الاحتياط وأدى الواجبَ وذهب بكلِّ شجاعة، وبعدَ التحاقهِ بالعملِ علمنا أن المحطةَ دُمرت بشكلٍ كامل، وعندما استقصينا عن الموضوعِ تمّ إخبارنا بأن العناصرَ قد فُقدت بعدَ احتراقِ المحطةِ ولم يبقَ أي أثرٍ لهم، فاُعتبر من المخطوفين، وله الآن ما يقارب سنة ونصف.
حاولنا التواصلَ مع أكثرِ من جهةٍ لكن الجوابَ الدائم هو أن المحطةَ تعرضت لصواريخٍ حراريةٍ وقد دُمرت بالكامل، دونَ معرفةِ أي تفاصيلَ أخرى، وقد ذهبَ والد المفقود إلى اللاذقية لإجراء فحص (DNA) فيما إذا كان من الشهداء لكن لم يأتِ أي خبر، والهاتفُ الأخير كانَ عندما اتصلتْ به والدتُه واعتقدتْ أنه سيردُّ عليها (وائل) لكن تفاجأتْ بأنه من الإرهابيين، حيث ردّ عليها وأخبرها أنهم قطعوا جسدَ وائل بعد أن تمّ قتله هو وأحدُ أصدقائه “مازن حسن” من قرية الصفصافة.
نتمنى من “مؤسسة دام برس” وجميعِ المعنيين المساعدة في معرفةِ أي خبرٍ يؤكد لنا استشهاده أو أنه ما زال حياً.
“ميسم” ما هي رسالتك عبر مؤسسة دام برس الإعلامية
أولاً أودُّ أن أوجه رسالةَ تعزيةٍ لكلِّ عائلاتِ الشهداءِ مترحماً على أرواحهمِ الطاهرةِ ومقدراً تضحياتهم، كما ادعو من الله الشفاءَ للجرحى وأن يعودَ كل غائبٍ عن أهله، كما عدتُ سالماً إلى أهلي، ونتمنى من مؤسستكم الكريمة الاهتمامَ بقضيةِ زوجَ أختي وجميعِ المفقودين.
في الختام شكرَ السيد ميسم حسين وعائلتهُ الكريمة مؤسسة “دام برس الإعلامية” على هذا اللقاء، ونحنُ بدورنا نشكرُه على تشريفنا بزيارتهِ في منزله، كما نتمنى عودةَ جميعِ الغائبين عن أهلهم، والشفاء للجرحى، والرحمة لجميع شهداء سورية الشرفاء…
التعليقات مغلقة.