بوتين والعقيدة العسكرية الجديدة … روسيا تعرّف “العدو” … كيفورك ألماسيان

 

 

                      

     كيفورك ألماسيان

الأحد 4/1/2015 م …    
وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على النسخة المُحَدَّثَة للعقيدة العسكرية الروسية التي ستحل محل النسخ السابقة الصادرة أعوام 1993 و2000 و2010، والتي اتهمت الدول الغربية برعاية الانقلاب في كييف لتثبيت حكومات معادية لمصالح موسكو في البلدان الواقعة على طول حدودها عن طريق ما يُسمى بـ «الثورات الملونة». وأكد مجلس الأمن الروسي أن العقيدة العسكرية الجديدة كانت ضرورية بسبب «ظهور تهديدات جديدة لروسيا، الأمر الذي أصبح واضحاً في الوضع في أوكرانيا وحولها، والأحداث في شمال أفريقيا وسوريا والعراق وأفغانستان». ويبقى جوهر العقيدة الجديدة ذا طابعٍ دفاعيٍّ بحت على غرار سابقاتها، حيث تعتبرُ الجيش الروسي أداةً دفاعية، لا يتم استخدامها إلا بعد استنفاد كل الحلول غير العنيفة، كما تُحَدّدُ ردع الأعداء المحتملين عن مهاجمة روسيا كهدف الأسلحة النووية الأساسي، والتي يعتبر استخدامها مشروطاً بحالة الدفاع عن النفس ضد أي هجوم عسكريّ – نووياً كان أم تقليدياً – قد يهدد وجودها، حيث ينحصر قرار استخدام الأسلحة النووية بيد الرئيس بوتين فقط. تكشف الوثيقة الجديدة أيضاً عن «وجود مناطق توتر عرقيّ ودينيّ ونشاطات للجماعات الدولية المسلحة المتطرفة والشركات العسكرية الخاصة بالقرب من الحدود الروسية وحلفائها، بالإضافة إلى وجود صراعات إقليمية، ونمو النزعة الانفصالية والتطرف في بعض مناطق العالم»، كما تُحَدد التهديدات الداخلية الرئيسة بالأنشطة التي تهدف إلى زعزعة استقرار الوضع في البلاد، والأنشطة الإرهابية التي تضر بسيادة وسلامة أراضي روسيا، بالإضافة إلى الإجراءات التي تنطوي على الدعاية المناهضة لموسكو.
تضمّنت العقيدة المُعَدَّلة بنوداً جديدة تمثلت بتأكيد مهام القوات المسلحة الروسية بضمان المصالح الوطنية في القطب المتجمّد الشمالي، والذي كان محطّ اهتمام البلدان الأربعة الواقعة على حدوده ألا وهي: الولايات المتحدة، كندا، النرويج، والدنمارك، حيث يُعتقد بأنه يحتوي على احتياطي هائل من النفط والغاز اللذين لم يتم استغلالهما، كما ذكرت التوسّع والحشد العسكري لـ «حلف شمال الأطلسي»، الذي يتخذ قرارات مخالفة للقانون الدولي على نطاق عالمي، عبر تعزيز وجوده العسكري في شرق أوروبا، متحججاً بأن لديه أدلة على أن روسيا نسّقت مع المسلّحين التمرّدين الموالين لموسكو في شرق أوكرانيا عقبَ الإطاحة بالرئيس المنتخب فيكتور يانوكوفيتش. وأكدت العقيدة الجديدة أيضاً أنَّ برنامج الولايات المتحدة الأميركية يتمثل بـ «إنشاء ونشر أنظمة الصواريخ البالستية الاستراتيجية التي تقوض الاستقرار العالمي الحالي وميزان القوة في القدرات الصاروخية النووية. وتنفيذ نظرية «الضربة العالمية»، بقصد نشر الأسلحة في الفضاء ونشر الأسلحة التقليدية الاستراتيجية فائقة الدقة» وذلك بهدف توجيه ضربات استراتيجية باستخدام الأسلحة غير النووية، وتأتي لهجة روسيا الصارمة هذه تجاه المعسكر الغربي بعد أيام من تخلي أوكرانيا عن وضعها كدولة غير منحازة، وسعيها للحصول على العضوية في «حلف شمال الأطلسي»، الأمر الذي جعل روسيا تعرب عن غضبها الشديد بالقرار الذي اتخذته أوكرانيا، ما يهدّد بتعميق أسوأ أزمة بين الشرق والغرب منذ الحرب الباردة، حيث صرحت موسكو بأن «حلف شمال الأطلسي» يسعى لتحويل أوكرانيا إلى «الخط الأمامي للمواجهة»، كما أضاف وزير الدفاع الروسي بأن انضمام أوكرانيا المحتمل إلى الحلف سوف يؤدي إلى انهيار كامل للعلاقات بين روسيا والحلف.
شرعت روسيا بحسب الوثيقة الجديدة أيضاً بالتعاون مع دول عدة بشكل مستقل مثل بيلاروسيا وجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين أعلنتا انفصالهما عن جورجيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى تعاونها مع مجموعة من المؤسسات الدولية وفي مقدمتها «منظمة شانغهاي للتعاون» (SCO)، مجموعة «البريكس» (BRICS) منظمة «معاهدة الأمن الجماعي» (CSTO) و»رابطة الدول المستقلة» (CIS) بالإضافة إلى الأمم المتحدة، كما أكدت الوثيقة حرص الكرملين على إرساء حوار بنّاء مع الاتحاد الأوروبي و»حلف شمال الأطلسي»، للعمل معاً على إقامة منظومة جديدة للأمن الشامل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ برغم من التوتر الشديد بين الغرب وموسكو، حيث صرح مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية لوكالة سبوتنيك الروسية تعقيباً على الموضوع قائلاً: «لقد رأينا تقارير العقيدة الجديدة ونقوم بمراجعتها»، وأضاف: «نتفق مع روسيا في الرغبة في منع الصراع من خلال العمل معاً في المحافل الدولية، والقضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل مكافحة التطرف العنيف وانتشار أسلحة الدمار الشامل»، معتبراً «توسيع «حلف شمال الأطلسي» على مدى السنوات كان بمثابة القوة التي تعمل من أجل الاستقرار والتعاون، وهو أمر متجذر في الخيارات السيادية للدول منفردة، ويهدف إلى بناء أوروبا كاملة وحرة وتعيش في سلام، ومتحدة في القيم الديموقراطية». وختم المسؤول الأميركي تصريحه قائلاً: «ومع ذلك، تعتقد واشنطن أن الدول التي تنتهك وحدة الأراضي وسيادة جيرانها هي التي تشكل خطراً كبيراً على الاستقرار الأوروبي والدولي اليوم»، مشيراً بقوله هذا إلى الدور الروسي في شرق أوكرانيا.
يعتبر المحلل السياسي الأميركي أندرو كوريبكو أن قرار الغرب بمواجهة روسيا والحرب الباردة الجديدة قد يكون فعلياً نعمة في ثوب نقمة. فقد أصبحت موسكو تعقد صفقات كبرى في جميع أنحاء أوراسيا بدءاً من سواحل فيتنام ووصولاً إلى البلد العربي الأكبر من حيث عدد السكان، ألا وهو مصر، وذلك منذ بدء الغرب بمواجهتها، ما أدّى إلى الإحساس بانتشار الديبلوماسية الروسية في كل مكان هذه الأيام، حيث تهدف هذه السياسات الخارجية الأوراسية فعلياً إلى تعزيز البديل السياسي والاقتصادي، وتحدي الهيمنة الغربية وتسهيل ولادة عالم متعدد الأقطاب. وتأكيداً على هذا، تعتبر ليليا شيفتسوفا من «معهد بروكينغز»، أن عقيدة الجيش الروسي الجديد: «تُشَرِّع انتقال روسيا إلى نظام استثنائي»، كما تعترف موسكو للمرة الأولى منذ العام 1991 بعقيدتها العسكرية قائلةً بأنَّ التنافس بين الشعوب ذات الحضارات والقيم المختلفة هو جزء مما يجري في العالم. وتختم شيفتسوفا حديثها قائلة إن: «العقيدة الروسية الجديدة هي بمثابة هدية الكرملين إلى الروس في عيد الميلاد والسنة الجديدة».
من جهة أخرى، يفتقر المعسكر الغربي متمثلاً بحلف «الناتو» إلى عقيدة أمنية واستراتيجية واضحة للخروج من المأزق الذي فرضته الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي، والذي دفع الدول الأعضاء لزيادة الضغوط السياسية وفرض عقوبات اقتصادية مماثلة على موسكو – باستثناء ألمانيا – التي تبنت مواقف سياسية معتدلة نسبياً، حيث اعتبر وزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير أن نقص الحوار البنّاء مع روسيا هو ما أدى إلى تدهور العلاقات ما بين الطرفيْن قائلاً: «نحن نتحدث فقط عن بعضنا البعض، وليس مع بعضنا البعض».
انطلاقاً مما سبق، يبدو جلياً بأن جميع الخطوات التي سبقت إعلان العقيدة الروسية الجديدة بدءاً بالحرب بالوكالة في سوريا، حشد قوات حلف «الناتو» وزرع الأسلحة الاستراتيجية في شرق أوروبا والانقلاب السياسي في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على موسكو وتشديدها بقرار الكونغرس رقم 758، وانتهاءً بحرب النفط وانخفاض سعره إلى 60 دولاراً للبرميل، تدلُّ على أن الحرب الباردة قد بدأت بالفعل بشكل أو بآخر، مجبرةً بوتين على تجديد عقيدة روسيا ليكبح من خلالها جماح التقدم العسكري والثقافي لـ «حلف الأطلسي» نحو المجال الحيوي لبلده، الأمر الذي سيجعل مستقبل النظام الدولي بأكمله متعلقاً بكيفية تعامل الدول الغربية – وخاصة الولايات المتحدة – مع تصاعد قوة موسكو وحلفائها، وبمصير الصراعات الجيوسياسية في منطقة أوراسيا التي لا تبدو قابلة للقسمة بين الدول المتصارعة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.