الثّقافة في خدمة السّلطة: لحظة اللّيبراليّين التاريخيّة المُتَوهّمة / د. هشام البستاني
على السّكت، ودون تغطيةٍ أو اهتمامٍ إعلاميّين، بالضّبط كما يليق بقطاع هامشيّ ومهمل، يتمّ التعامل معه، رسميًّا، كأداةً من أدوات صناعة وترسيخ «الهويّة»، ومجالًا من مجالات «مواجهة الإرهاب» والوقاية منه، أصدر المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وهو مجلس مهمّته «تقديم المشورة الى الحكومة»، أواخر شهر كانون الأول الماضي، ورقة رأي بعنوان «المشهد الثقافيّ في الأردن: الأزمة وآفاق التنمية والتغيير».
كان الغرض من الورقة، بحسب بعض من تحدّثتُ إليهم من القائمين عليها قبل نشرها، إثارة النّقاش حول المواضيع التي تطرحها، وأن تكون مسوّدة لمقاربة جديدة تدفع بإمكانيّات تغيير الوضع القائم البائس للمشهد الثقافيّ المحليّ، وتضع بين يدي «صانع القرار» رؤىً مختلفة، ومخرجات عمليّة، تُعينه على إحداث هذا التّغيير المنشود.
لكن الورقة نفسها، والمقاربة التي تتّخذها سبيلًا لتحقيق «أهدافها»، تبدو بعيدة عن فكرة «التّغيير»، وقريبة من شكل الدّعاية التّضليليّة، بإعادتها إنتاج ذات الكليشيهات التي تقدّمها السّلطة بوجهها الليبراليّ، مبتعدة قدر ما تستطيع عن تحميل أصحاب القرار أيّ مسؤوليّة في الخراب الذي نشهده اليوم، مع أنها (أي السّلطة) هي الفاعل الأوّل والأكبر في المشهد الثقافيّ، وهي المسؤولة الأولى عن تفكيكه وتدجينه وتحويل عناصره إلى الصّيغة التي تُعمّمها على المجتمع بأسره: الزبائنيّة القائمة على «الحقوق المكتسبة» بالتسوّل والتّنفيع والتكسّب والحصول على امتيازات صغيرة.
النتيجة كانت ستكون واضحة لو تمّ عكس ذلك: سبب الخراب لا يمكن أن يكون جزءًا من تغييره أو حتّى إصلاحه، والورقة إذ تتجاهل دور السّلطة في الوضع الثقافيّ للأردنّ اليوم، بل تتوجّه إليها لإحداث التّغيير المطلوب، تُهمل أدنى معايير الموضوعيّة والربط التحليليّ: واقع الثقافة بائسٌ لأنّه بالضّبط يخدم ويُحقّق مصالح السّلطة، وهي –بالتّالي– معنيّة تمامًا بالحفاظ عليه كما هو.
التوجّه إلى السّلطة يحمل خليطًا من السّذاجة الرومانسيّة من جانب، والدعاية التي تخدمها من جانبٍ آخر، باعتبارها منفتحة وديمقراطيّة، تطلب المشورة أو تستمع إليها، وتسمح بوجود منابر لآراء متعدّدة، متنوّعة، لا تهدّدها ولا تشير إلى أخطائها، مكسبةً إيّاها المزيد والمزيد من الشرعيّة، ومعطيةً إيّاها صكّ براءةٍ من الحال المائل الذي نحن فيه اليوم.
دور السّلطة الغائب: نحن هكذا لأنّنا هكذا!
في مجتمعات أطراف العالم، والكيانات الوظيفيّة النّاشئة بعد الاستعمار، وبترتيب منه، تبرز السّلطة باعتبارها المؤثّر الأكبر، وشبه الوحيد، في صنع السّياسات وتشكيل المجتمع (أو تدجينه أو تفكيكه)، وهذا هو حالنا في الأردن، وهذا هو حال المشهد الثّقافي الذي تلعب فيه السّلطة الدّور الأكبر، فهي التي تتحكّم بالمراكز الثقافيّة من خلال إداراتها التابعة لوزارة الثقافة أو البلديّات، وهي التي تتحكّم بتمويل الهيئات الثّقافيّة، وتراقبها، وتملك إمكانيّة حلّ إداراتها، وتُقدّم من ترضى عنه في مهرجاناتها ومواقع المسؤوليّة فيها، وتختار كتبه للنّشر في سلاسلها، ويحظى بجوائزها وتكريمها ومكافآتها، وهي التي تضع استراتيجيّات العمل الثقافي (إن وجدت مثل هذه الاستراتيجيّات) أو ترتجله، وتمنع ما لا ترضى عنه من الأنشطة، حتى ولو عنى ذلك خرقها للقانون.
والسّلطة، باحتكارها المُطلق للحكم، وتأثيرها السياسيّ – الاقتصاديّ – الاجتماعيّ الهائل النّاتج عن هذا الاحتكار، هي التي أنتجت، عبر وظيفيّتها، ومن خلال عقود من الفساد، والتبعيّة، وتعطيل إمكانيّات التنمية الذاتيّة المستقلّة، المشاكلَ الاقتصاديّة والفقر والبطالة، وبالتالي آثارها الاجتماعيّة والسياسيّة (مثل العنف)، وهي التي دفعت المجتمع للتفكّك إلى جماعات (إقليميّة وجهويّة وعشائريّة وطائفيّة وإثنيّة) عبر إضعافها وتفكيكها للمجتمع المسيّس (الأحزاب والنقابات والجمعيّات) وإلحاقه بها، وإقرارها قوانين انتخابيّة زادت في تفكيك المجتمع، وأفرزت مجالس نوّاب تابعة، وعلى هامش كلّ ذلك، تم تحويل «الثّقافة» إلى مساحة لبسط الهيمنة من جهة، والتّنفيع وتقريب المحاسيب، واشتقاق الهويّات الفرعية، وترويج الرّداءة، وتحويل «المثقّفين» إلى متسوّلين، من جهة ثانية.
واقع الثقافة بائسٌ لأنّه بالضّبط يخدم ويُحقّق مصالح السّلطة، وهي –بالتّالي– معنيّة تمامًا بالحفاظ عليه كما هو.
لا تلاحظ الورقة أي شيء من ذلك، بل تقول العكس؛ فالسّلطة بحسبها «لم تدرك الدّور الحاسم للثّقافة»، رغم أنّ أداءها يثبت أنّها تُدرك، وأنّها تعمل من خلال هذا الإدراك على تفكيك العناصر التي تُشكّل «الثقافة» والفعل الثقافيّ، وتفريغها من إمكانيّات النّقد والحركة الحرّة المستقلّة. مثل هذه التبرئة المجّانيّة للسّلطة تتفاقم حين تُحوّل الورقة «الواقع الثقافيّ» إلى كينونة قائمة بذاتها، شخص معنويّ صاحب إرادة مستقلّة «يتّسم بالمراوحة، فما إن يتقدّم باتجاه المجتمع المدنيّ الحديث … حتى يتراجع، ويصاب بارتباك وتداخل غير مُنتج، وتحتدم التّناقضات التي تلغي الواحدة منها الأخرى». شخصٌ يتحرّك لوحده، هكذا، دون فاعل، يتقدّم ويتراجع ويرتبك ذاتيًّا دون مُحرّكات، مثله مثل «الماضويّة وثقافة التّقليد والتّغريب والاستهلاك والتواكل» التي يبدو أن «قطاعات المجتمع» تُنتجها ذاتيًّا، من تلقاءِ نفسها، مذكّرة إيّانا بالأطروحات الجوهرانيّة التي تعزو «التخلّف» (وغيره من الرّذائل) لخللٍ بُنيويّ في العقل العربيّ نفسه، لا لاختلالات وتشوّهات في الواقع الموضوعيّ وأدوات التّأثير فيه، أوجدته السُّلطة من أجل بقائها الأبديّ، أو هو ضروريّ في سياق دورها الوظيفيّ.
وتذهب الورقة أبعد حين تقرّر، دون أن يرفّ لها جفن، «أن الدولة الأردنيّة مدنيّة بطبيعتها من حيث التّشريعات والمؤسّسات، إلا أنّ المفاعيل السلبيّة للواقع الثقافيّ والاجتماعيّ بتناقضاته، تسري في هذه التّشريعات والمؤسّسات، مما يؤدّي إلى تفريغها من مضمونها»! هذه العبارة (المليئة بالتّناقضات عن الدّولة المدنيّة بطبيعتها، والمفرغة من مضمونها، في ذات الوقت)، هي إعادة صياغة مُفذلكة للدّعاية السّلطويّة التي تجزم بأن «الدّولة» جاهزة للديمقراطيّة، لكن المشكلة (ويا لبؤسها!) تكمن في الشّعب الجاهل المتخلّف غير الجاهز للديمقراطيّة، والغرض منها -طبعًا- التّعمية على الفاعل الذي نقل المجتمع الأردنيّ من انتخاب وتشكيل حكومة حزبيّة ائتلافيّة عام 1956، إلى مجاميع تحتمي بالحمولة والعائلة والعشيرة بعد أكثر من نصف قرن من الزّمن؛ ونقل الفاعلين الثقافيّين الذين أنشؤوا مؤسّسة ثقافيّةً لمواجهة الأحكام العرفيّة وتأثيراتها على الإبداع والمُبدعين في ظلّ الأحكام العرفيّة نفسها في سبعينيّات القرن الماضي (هي رابطة الكتّاب الأردنيّين)، ليصبحوا هم ومؤسّستهم اليوم ذواتًا داجنة، تركض خلف السّلطة، وتتسوّل التّمويل منها، بعد عقود من رفع الأحكام العرفيّة.
بل وتضع الورقة المسؤوليّة على «المثقّفين» أنفسهم، الذين لم يلتقطوا التغيّرات العميقة في «مفهوم العمل الثقافيّ» إثر دخول وسائل التّواصل الاجتماعي والتّكنولوجيا على خطّه، فهم أيضًا جزء من العهد المتخلّف إذ «ما زالوا يترحّمون على ميزتهم التي فقدوها بأن يُلقي أحدهم أفكاره على الجمهور»، داعيةً إلى «أن يذهب المُنتَج الثّقافي وصاحبه إلى النّاس في المحافظات والأطراف، وينزل إلى السّاحات العامة»، متجاهلة أن كل هذه المساحات، بالإضافة إلى الجامعات والمدارس العامّة، مغلقة إغلاقًا شبه تامّ في وجه المثقّف النقديّ، ومفتوحة فقط أمام مادحي السّلطة والمسبّحين بحمدها. الحقّ على المثقّف إذًا إن أغلقت السّلطة المساحات العامّة في وجهه، بل ومنعت وجوده في بعض المساحات الخاصّة أيضًا.
تتجاهل الورقة أن كل هذه المساحات، بالإضافة إلى الجامعات والمدارس العامّة، مغلقة إغلاقًا شبه تامّ في وجه المثقّف النقديّ، ومفتوحة فقط أمام مادحي السّلطة والمسبّحين بحمدها.
ثمّ، كيف تصل الورقة إلى هذه النّتيجة القاطعة: «الدولة الأردنيّة مدنيّة بطبيعتها»؟ من أين أتى هذا التّأكيد في دولة دينها الإسلام (المادة 2 من الدّستور)، وتتجاور فيها القوانين الإسلاميّة والكنسيّة الطائفيّة في الأحوال الشخصيّة مع القانون المدنيّ، ولا تتساوى فيها المواطنات الإناث مع المواطنين الذّكور، وتعترف بالقوانين والأعراف العشائريّة وتمارسها يوميًّا بما يخرق القانون المدنيّ، ولا تحظى فيها الحكومة بالولاية العامّة، وتتركّز فيها جميع السّلطات في شخص واحد هو الملك، الذي يتمتّع بحصانة دستوريّة تضعه فوق المُساءلة والمسؤوليّة 1، وبرلمانها ضعيف حدّ العجز ومُلحق بالسّلطة التنفيذيّة؟
دون نقد دور السّلطة، لن تقدّم أيّ ورقة تتحدّث عن «أزمة المشهد الثقافيّ في الأردن وآفاق تغييره» أساسًا موضوعيًّا يمكن البناء عليه، أو أخذه بجديّة، بل ستكون مجرّد أداة دعائيّة تحيّد دور السّلطة، كمقدّمة للالتحاق بها أملًا في تحقيق بعض المكاسب.
الثّقافة كأداة للتّوجيه والدّعاية
يرد في تقديم الورقة ما يفيد بأن الثقافة هي «مرآة» للعقليّة المجتمعيّة التي تمثّل المجتمع وعاداته ومعتقداته وسلوكيّاته وعمرانه ومأكله وملبسه وغيرها من عناصر، وبأنّ ثمار الثّقافة والفنّ هي «أداة تنمية باتّجاه بلورة القيم المدنيّة»؛ فيما يرد في الجزء المُعنون بـ«دعوة إلى رؤية جديدة» ما يفيد بأن على الفعل الثقافيّ أن يتوجّه نحو «النشاط النوعيّ والتعمّق المجتمعيّ الذي يسهم في تشكيل الرّأي العام وتوجيهه نحو التقدّم…»، وأن عليه أن يُشكّل «مساحة لتوظيف أدوات اللغات الفنيّة والأدبيّة والرياديّة والإبداعيّة من أجل تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة والمنفتحة..»؛ وثمّة فقرة كاملة عنوانها «في خدمة هدف التّنوير» يجعل الثّقافة موضوعًا لـ«مواجهة النّزعات المتشدّدة والأفكار الظلاميّة… [مما] يقلّل من الكُلفة الأمنيّة التي تتكبّدها الدولة في هذا المضمار».
حين نقوم بجمع الكلمات التي أبرزتُها في المقتطفات أعلاه (مرآة، أداة، تشكيل، توجيه، توظيف، تعزيز الهويّة الوطنيّة، خدمة هدف التّنوير، مواجهة النّزعات المتشدّدة، تقليل الكلفة الأمنيّة)، نستطيع الاستنتاج ببساطة أن الثّقافة التي تتطلّع إليها الورقة هي حالة غير نقديّة ولا إشكاليّة، لا تضع نفسها في مواجهة ما تعتبره: الشّكل التاريخي المستقرّ للمجتمع وقيمه المحافظة، بل تُعتبر –على النّقيض من ذلك- حالة تعكس (أي تعبّر عن) هذا الشّكل كمرآة (الصورة كما هي، دون تغيير ولو بسيط)، وتريد –على النقيض- أن تفرض من فوق، بالتّشكيل والتّوجيه والتّوظيف، أدوارًا تجعل من الثّقافة معزّزةً للهويّة الوطنيّة (هويّة الدّولة الوظيفيّة ومجموعتها الحاكمة)، وأداة ترويجيّة لخطاب أيديولوجيّ محدّد، ليبراليّ، بمصطلحات محدّدة -سنمرّ عليها لاحقًا-، لا يُجهد نفسه –كعادة الخطابات الدّعائية- بتعريفها، ويجعل من الثقافة حالة تعبويّة لخدمة هذه الحالة غير المعرّفة، التي تسوّق نفسها عند السّلطة بآليّات أطرفها تقليل الكلف الأمنيّة.
العجيب في الأمر أن الورقة تقرّ في قسمها المتعلّق بـ«دور القطاع العام في التّنمية الثّقافيّة» بأنّه «ليس مطلوبًا –في واقع الحال- من الحكومات السّيطرة على الثّقافة وإدارتها بصورة شموليّة، أو اللّجوء إلى الوصاية والرّعاية الفوقيّة، فهذه حالة مضادّة للثقافة»، مثلما هي بالضبط المقاربة نفسها التي تتبنّاها الورقة.
وزراء سابقون يقودون التّغيير
كان من المفاجئ، حين لبّيت الدّعوة لحضور جلسة النّقاش وتقديم المقترحات حول المسوّدة التي صارت لاحقًا ورقة الرأي المذكورة، والتي انعقدت يوم 30 / 10 / 2017 في المركز الثقافيّ الملكيّ، بحضور ما يقرب من 50 مثقّفًا وكاتبًا وفنّانًا ومعنيًّا بالشأن الثقافيّ، وجود وزيرة ثقافة سابقة على المنصّة الرئيسيّة للاجتماع، وتقديمها لمُداخلة أولى «توجيهيّة» للمُجتمعين.
ما المُشكلة في وجود وزيرة ثقافة سابقة في موقع قياديّ وبارز في اجتماع يُعنى ببحث «أزمة الثّقافة» و«آفاق التّغيير»؟ الوزراء السّابقون كانوا في موقع المسؤوليّة بالمعنى الدّستوريّ والقانونيّ. نعرف –طبعًا- أنّ أغلبهم بلا «ولاية عامّة» ولا تأثير في صناعة القرارات والسّياسات، أو أنّ تأثيرهم محدود: مجرّد موظّفين تنفيذيّين لتوجّهات تُحدّد في مستويات أعلى؛ كما نعرف أن حقيبة الثقافة هي من الحقائب الوزاريّة «الأقلّ حظًّا»، الترضويّة، تُعطى لمراضاة المجموعات الاجتماعيّة (عشائريًّا ودينيًّا ومناطقيًّا وإثنيًّا وجندريًّا) حتى لا تخرج من مولد التّشكيل الوزاريّ بلا حمّص.
اللّحظة التّاريخيّة مرّت. نحن اليوم أمام لحظة انتهازيّة جديدة تستخدمها السّلطة لإعادة إنتاج نفسها، وتصفية التيّارات الرّئيسيّة التي تُمثّل تهديدًا حقيقيًّا لها
الوزراء السّابقون، إذًا، مسؤولون عن الوضع الذي تُشخّصه الوثيقة باعتباره أزمة تستدعي التدخّل والتّغيير: إن كانوا فاعلين ومؤثّرين وأصحاب قرار فعليًّا، فهم مسؤولون مباشرة عن الأزمة والتردّي ومُنتجون أصيلون لها، أمّا إن كانوا مجرّد ديكور ترضويّ، فهم مسؤولون عن تولّيهم شؤون أمور لا علاقة لهم بها، ومساهمون في هدر أموال دافعي الضرائب (التي يتلقّونها كرواتب، وتقاعد، وموازنات لوزاراتهم) على المزيد من تخريب الوضع القائم، وإيصاله إلى وضعيّة «الأزمة» التي تُقرّ بها الورقة.
وعليه، فإن المقاربة الصّحيحة هي محاسبة هؤلاء المسؤولين على تقصيرهم. أمّا أن يكونوا أطرافًا أساسيّين في مقترح تغييريّ للوضع القائم، فلا يفهم سوى باعتباره اعترافًا مبدئيًّا من الورقة بلا جدّيتها تجاه «الأزمة»، وتسويتها معها، و«تبرئها» لمن تبوّؤوا مواقع المسؤوليّة فارتضوا موقع الديكور الترضويّ، وساهموا باستمرار الحال على ما هو عليه على أقل تقدير، أو أساؤوا القيام بها فساهموا مباشرة في خراب المشهد الثقافيّ، على أكثره.
حال اليوم هو نتيجة تراكميّة للأمس، وقرارات الأمس، ومتواطئي الأمس، ومهمِليه، والمستفيدين منه في حينه، لكن يبدو أن تعاطي النّاس مع مسؤولي الأمس، الخارجين من السّلطة، يحمل شحنة من التّفاؤل والانبهار والهيبة، تُعطّل النقد، وتُعمي عن حقيقة أن أساس التّغيير هو ليس تشخيص الاختلال فقط بل تحديد أسبابه ومسبّباته؛ وتحديد المسؤوليّات ومحاسبة المسؤولين، لا تصديرهم في مواقع قياديّة (كما حصل في الاجتماع المذكور، وكما يحصل في أماكن أخرى، مثل التحالف المدنيّ) لتغيير واقع ساهموا بصناعته حين كانوا على الكرسيّ، ويبحثون اليوم عن دور آخر حين غادروه (أو نُزِعوا عنه) دون أن يعترفوا بمسؤوليّتهم، ويعتذروا، ويقدّموا أنفسهم للمُحاسبة.
لحظة الليبراليّة التاريخيّة المُتوهّمة لانتزاع التّأثير من الإسلاميين
تحتفل الورقة بعدّة مصطلحات لا تُقدّم لها تعريفًا واضحًا (التّنوير، المدنيّة، التنوّع، التعدّد، الحداثة، مواجهة الظلاميّة والتشدّد)، كما تربط دائمًا بين الثّقافة و«القيمة الاقتصاديّة المُضافة»، مُشتقّةً وظيفةً ربحيّة للثّقافة. وإذ تستنكر الورقة ربط الثّقافة بموضوعيّ «الإعلام» و«الشّباب»، لا تخجل الورقة من اقتراح ربط الثّقافة بالسّياحة توظيفًا لها لجني الأموال، وتأخذ موقفًا مُتفائلًا جدًّا فيما يتعلّق بتأثيرات وتحوّلات تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، وتُدين غير الملتحقين بهذه الوسائط، كما تركّز على فكرة «الرّيادة» (entrepreneurship) الثقافيّة؛ كلّ هذا يؤشّر بوضوح على أيديولوجيا ليبراليّة تحاول أن تبرز برأسها من بين صفحات الورقة، لتتكامل مع تيّار صاعد هذه الأيّام، يقوده جيل جديد نسبيًّا، بالتّزامن، في مواقع مختلفة، سياسيّة (وزارة التّربية والتّعليم، حزب التحالف المدني)، وإعلاميّة (صحيفة الغد)، ويحاول من خلال ورقة المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ أن يشتقّ لنفسه موقعًا ثقافيًّا.
الإشكاليّة الأساسيّة تتمثّل في تجاهل هذا التيّار لنقد السّلطة، وبحثه عن موطئ قدم داخلها من الجهة الأخرى
تتضمّن هذه المقاربة عدّة إشكاليّات، منها الخلط بين «الثقافة» والأيديولوجيا الدّعائيّة التي أوضحت عناصرها أعلاه، وتحويل العمل الثقافيّ إلى ما يشبه الميليشيا المؤدلجة التي عليها أن تواجه ميليشيا مؤدلجة أخرى نقيضة، وهو ذات الإشكال الذي تسقط فيه كلّ الأيديولوجيّات في تعاطيها مع الثّقافة (قوميّة أو يساريّة أو إسلاميّة، ويدلّ هذا على جوهرها العصبويّ الإقصائي اللاثقافيّ)؛ ومنها أنّها مقاربة ردّ-فعليّة، تشتقّ نفسها من خصمها، وتتماهى –بالتّالي- معه، والخصم هنا هو التيّارات «الماضويّة» و«الظلاميّة» و«المحافظة» و«المتشدّدة»، في إشارة واضحة إلى الإسلاميّين؛ ومنها أنّها مقاربة انتقائيّة، فالظلاميّة والتشدّد والإقصاء والتّكفير والتخوين وادّعاء امتلاك الحقيقة الكاملة ليست حكرًا على (بعض) التيّارات الإسلاميّة، بل تشترك فيها تيّارات علمانيّة ودينيّة (مسيحيّة) أخرى، بل إن السّلطة (التي لا يرد لها أيّ ذكر في الورقة) هي الفاعل الأوّل في محافظتها وتشدّدها وإقصائيّتها وعنفها؛ أما النّزعات العشائريّة والجهويّة والإقليمية والبطريركيّة، وهي كلّها نزعات متجذّرة تسحب المجتمع إلى «الوراء» أكثر من النّزعات الدينيّة أحيانًا، فلم تحظَ بتحليلٍ كافٍ، بل ثمّة جهد واضح لإضمار الحديث عنها وعدم الاصطدام بها، وهو ما تبلور بدفاع وزيرة الثقافة عن العشائريّة في الاجتماع المذكور أعلاه؛ طبعًا –لإنصاف الوزيرة- لا يمكن لمفكّر جادّ إلا أن يرى الدّور الهامّ الذي تلعبه العشائريّة في مجتمعنا باعتبارها قوّة «تقدميّة»، «حداثيّة»، «تنويريّة»، لإنجاز «الدّولة المدنيّة»!
لكن الإشكاليّة الأساسيّة تتمثّل في تجاهل هذا التيّار لنقد السّلطة، وبحثه عن موطئ قدم داخلها من الجهة الأخرى. ففي سياق حرب السّلطة على «الإرهاب» و«التّكفير» و«الظلاميّة»، يعتقد البعض أن اللّحظة مؤاتية لهم ليبنوا تحالفًا أو تفاهمًا ما معها، ويتسلّلوا من خلاله إلى مواقع «صنع القرار»، لتتشكّل «خطوة مفصليّة [تدفع] باتجاه حراك مدنيّ ينتقل من هوامش النّخب وآليّات العمل العابرة، إلى الأحياء والمدارس والجامعات والمراكز الشّبابيّة، لتصبح الحداثة المتجسّدة في الفعل الثقافيّ والفنيّ تيّارًا مؤثّرًا في التكوين المعرفيّ والجماليّ والرياديّ للأجيال المقبلة» كما يرد في الورقة. هذا الأمل المتوهّم في السّلطة والتأثير، يجعل التحالف المدنيّ، مثلًا، خجولًا جدًّا في التّعامل مع منع فعاليّة إشهاره الأولى التي كان مخطّطًا لها أن تكون في فضاء عام، ويجعل من اللّيبراليين (بالإضافة إلى أشقّائهم القوميّين واليساريّين الذين يحاولون استثمار اللّحظة نفسها) جزءًا من الدّعاية السطحيّة التي تُديرها السّلطة لتمكين نفسها في مواجهة «العنف» الذي ساهمت هي نفسها، وما تزال تُساهم، في إنتاجه: مجرّد عنصر وظيفي آخر تستخدمه السّلطة (الأقوى بدرجاتٍ لا تُمكّن من المقارنة) ثم تُلقيه حين تستنفد غرضها منه، وهو أمرٌ تكرّر كثيرًا، لكنّ الأمل بالسّلطة مغوٍ دائمًا، ويُعمي الأبصار.
خاتمة: مواجهة السّلطة من أجل تغيير وتنمية الثّقافة، وكلّ شيء آخر
بالتّأكيد، نحن لسنا أمام لحظة تاريخيّة إزاء السّلطة. اللّحظة التّاريخيّة (التي تمثّلت بالانتفاضات العربيّة) مرّت. نحن اليوم أمام لحظة انتهازيّة جديدة تستخدمها السّلطة لإعادة إنتاج نفسها، وتصفية التيّارات الرّئيسيّة التي تُمثّل تهديدًا حقيقيًّا لها: التيّارات الإسلاميّة، وكما استخدمت الإسلاميّين في السّابق لمواجهة التيّارات القوميّة واليساريّة في فترات صعودها منتصف القرن الماضي، فهي تستخدم أعداء الأمس من القوميّين واليساريّين، وأصدقائها اللّيبراليّين، لذات الغرض، وسينتظرهم نفس المصير.
معركة تقدّم الثّقافة، وإنجاز التّنمية، والتّطوّر الاقتصاديّ، والافتكاك من الهيمنة والتبعيّة، وهي كلّها معارك متداخلة ومتكاملة، تتمّ في مواجهة السّلطة، لا بـ«تحالف» وهميّ معها، يفتقد إلى أبسط مقوّمات التّحالف إذ يقوم الطّرف الأقوى بكثير (السّلطة) بتوظيف بقيّة عناصر المشهد، والتحكّم بها.
إن كان ثمّة دور محدّد للثّقافة في التغيير الاقتصادي – الاجتماعيّ – السياسيّ الأشمل، فهو يكمن في تعزيز النّقد، وحريّة الرأي والتّعبير والإبداع والسّؤال، وتحرير المساحات العامّة والمدارس والجامعات، وطرح المواضيع الإشكاليّة للبحث والتّحليل الشّجاع، خصوصًا ما يتعلّق بهيمنة السّلطة وأدوارها، وتقديم كل ذلك للنّقاش العاّم، ومواجهة المؤسّسات المعنيّة بإخضاع الثقافيّ لحساب الدّعاية السّلطويّة و«قيمها» وهويّاتها، وعلى رأسها وزارة الثّقافة والمؤسّسات الأهليّة الملحقة بها (مثل رابطة الكتّاب) التي تسير على ذات القيم والآليّات، وتعمل (كلّها) كمؤسسات شلليّة، تروّج الرداءة، وتسير بالمحسوبيّات، وتبحث عن المكاسب الصّغيرة ويمنع وجودُها بروزَ بدائل أكثر جديّة، حتى على المستوى الإبداعيّ المباشر. أمّا الدّور الأبرز فهو مواجهة السّلطة نفسها إذ تُفكّك المجتمع، وترعى تشوّهاته وتعظّمها، ومواجهة رُعاتها من القوى الإقليميّة والمحليّة التي تُنتج القتل والدّمار، وتثبّت (بالحديد والنار) نظامًا اقتصاديًّا – سياسيًّا يُنتج الظلم، والفقر، والتّمييز، وانعدام المساواة.
التعليقات مغلقة.