الأخلاق والفساد

بقلم : الفضل شلق




عمان ، 4 شباط ، الأردن العربي

الأخلاق مسألة فردية؛ هي أن يعمل المرء حسب ضميره فقط من دون حسابات خارجية. الفساد علاقات اجتماعية؛ هو أن يعمل المرء بما يفيده في علاقاته مع الآخرين. في الأخلاق يتصرّف المرء حسب ما هو مقتنع به، مهما كانت النتائج. في الفساد تُحسب النتائج، وهي الربح دائماً، ولو كان ذلك على حساب القانون والأخلاق.

يمكن أن تؤدي الأخلاق الى أعمال قبيحة أو حسنة. ويمكن أن يؤدي الفساد الى أعمال قبيحة أو حسنة. لا هذه خير مطلق ولا ذاك شر مطلق. تمتنع عن فعل أخلاقي إذا كان ذلك مخالفاً للقانون. وتصر في الفساد على عمل سيّء ولو كان مخالفاً للقانون. الفعل الأخلاقي الذي يخالف القانون تُحاسب عليه. فعل الفساد الموافق للقانون لا يهتم باسبابه ونتائجه أحد.

ذوو الأخلاق لا يستطيعون التصرف إلا حسب الأصول خوفاً من الغرامات. يبدو أن الفقراء مضطرون للتصرّف أخلاقياً لأن النظام الاجتماعي-الاقتصادي (الرأسمالية) لا يترك أمامهم خياراً آخر. الأخلاق تقتصر على الفقراء، إذ ليس بوسعهم ممارسة غيرها. ولا تشمل الأقلية من الطبقات الميسورة العنيدين في اتباع ضميرهم.

أهل الفساد يحميهم النظام. هناك سيل من المحامين المستعدين لتقديم خدماتهم لقاء مقابل. المقابل المادي لا يستطيع أن يدفعه إلا الأغنياء الذين يتوفر لديهم المال. الفرص في النظام الرأسمالي متاحة لذوي المال. فرص الربح كثيرة إذا خالفوا القانون. الربح هو المثال

الأعلى. المطلب الأعلى. الذي يجني مبالغ كبيرة من المال يستطيع القيام بأعمال البر والإحسان من أجل السمعة الحسنة. بالسمعة الحسنة يقترب من الناس. يصير وجهاً اجتماعياً يتقرّب منه رجال الدين. يسخّرون له مرضاة الله. الدين يعظ الفقراء للقبول بما هم عليه، ويمدح الأغنياء في سبيل المزيد من أعمال البر والإحسان. يصير الله مسخراً للأغنياء وحدهم. يدخل في عداد جماهير المصفقين للأغنياء وأهل الثروة. هو واحد منهم. الملك لله. كل شيء على الأرض ملكه، له، خاصته، يفعل به ما يشاء. الأغنياء والرأسماليون يمثلونه على الأرض يشاركونه في الملكية. اشتراكية في الملك يشارك فيها الله، وتقتصر على الرأسمالية العليا.

أصحاب الضمير والأخلاق يُستبعدون من ملكوت السماء. لا يكرّم في احتفاليات البر والإحسان إلا الأغنياء. هم الوحيدون الذين يستحقون بركة الله ومدحيات رجال الدين. لا اكتراث لأصحاب الضمير. أصحاب المال لديهم ما يبذلونه للبر والإحسان. الفقراء الذين لا يملكون شيئاً (وهم أكثر من نصف البشرية) ليس لديهم ما يبذلونه؛ هم محرومون من بذل البر والإحسان، ومن مدح رجال الدين، وربما من بركة الله.

الفساد علاقة اجتماعية، يحتمّها النظام الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي (الرأسمالية). هو في حده الأدنى رشوة. وفي حدود أخرى تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة؛ وهذه ليست مسألة فردية. الأحزاب والطوائف وكل التنظيمات السياسية تفترض تقديم مصلحة الجماعة التي تنتمي إليها على المصلحة العامة. السياسة المفيدة للمجتمع ليست إدارة المجتمع بتجرّد وحسب، بل هي التسوية بين مختلف الأطراف أي التخلي عن بعض المصالح للحفاظ على معظمها. تراكم التسويات هو ما يحفظ إصرار المجتمع. لكن في التسويات تنازلات عما يعتبر الحق، وقبول للآخرين بما لنا من بعض الحق. السياسة التي تحفظ استقرار المجتمع تستدعي الفساد، بمعنى ما، عندما تتنازل. لكن التنازل ضروري من أجل المصلحة العامة. التنازل عن بعض المصلحة العامة فساد. عندما تتنازل كل الأطراف، وهذا ضروري، يكون الفساد عاماً. يُبنى تقدم المجتمع على الفساد.

في الأخلاق تتقدم الاستقامة على التسوية. يتقدم الموقف الفردي على ما هو اجتماعي وسياسي. يحاول صاحب الأخلاق أن يحافظ على نقاوة الممارسة المنسجمة مع ضميره

على حساب كل العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. يصعب المحافظة على الأخلاق في مجتمع سياسي، خاصة إذا كان رأسمالياً، والذي يجعل الربح هو الهدف المنشود لا الاستقامة الفردية.

تقوم الرأسمالية على الربح (والفائدة والريع)، وعلى مصادرة فائض القيمة التي ينتجها آخرون. تنتفي العدالة. لا يأخذ المرء حسب عمله، بل حسب ما يملك من المال الذي يستثمره. من أجل البقاء ولقمة العيش يضطر الفرد الى القبول والإذعان لنظام يستغله. والأكثر من ذلك ربما يضطر الى المداهنة والرياء لاسترضاء أهل الحل والربط، بالأحرى أهل المال والوجاهة؛ ولا تكون الوجاهة إلا حيث المال. تُعلّم الرأسمالية عدم الأخلاق وقلة الاستقامة. تصعب حياة تفاحة جيدة في سلة تحوي تفاحاً فاسداً.

نهوض المجتمعات، حتى تلك المؤسسة على الدين، ليس مرهوناً بالأخلاق بل بالسياسة ومتعلقاتها، أي الفساد. السؤال المطروح أمام كل فرد مستقيم الأخلاق هو كيف الحفاظ على سويته وسط الفساد المحيط به؟

صاحب الاستقامة يعيش مأزقاً دائماً. لا يستطيع الحصول على مسائل العيش إلا إذا عمل معهم. وإذا عمل معهم فهل يفقد الأسس الأخلاقية المبنية عليها استقامته. هل إذا اشتغل معهم يفقد ما لديه؟ هل يكون ذلك على حساب ضميره؟ لذلك يتوجّب عليه افتراض تقسيم مجالات العدالة. يعطي النظام ما يضطر إليه ويحافظ على مجاله الخاص. على أن هناك صعوبة في الحفاظ على المجال الخاص من دون أضرار. يتعرّض صاحب الاستقامة الى التشكيك بشخصه. وربما يتعرّض للاضطهاد. يستبعد من المجتمع. كاللاطائفي الذي يُستبعد من طائفته؛ وينزل عليه الحرم. ينتهي الى العزلة والاعتزال.

يزداد الأمر صعوبة في مجتمعنا، وفي المجتمعات المشابهة. ضرورات النهوض لها أولوية، وضرورات الاستقامة لها أولوية. ربما تقدمت ضرورات النهوض (والفساد) على الاستقامة. الأهم من ذلك هو عدم التمييز في هذه المجتمعات بين السياسة بمعنى النزاع على السلطة والسياسة بمعنى إدارة المجتمع. يمكن للمرء الامتناع عن الولوج في نزاعات السلطة لكنه لا يستطيع الامتناع عن المشاركة في المجتمع وإدارته. هذا واجب أخلاقي.

يصعب في مجتمعنا فهم السياسة إلا من باب السلطة. يعتبرون المشاركة الأخرى في الحياة العامة نوعاً من المثالية، وأحياناً يعتبرونها نوعاً من النفاق.

يزعم الجميع تقريباً أن الفساد معيق للنهوض والتقدم. يخلطون بين الفساد وأمور أخرى ضرورية للتقدم. صار مفهوم الفساد حاجباً لرؤية المجالات التي إذا مورست يحصل التقدم. بالعمل والإنتاج يتقدم المجتمع، لكن لا يُمحى الفساد قط. بل ربما يصير محو الفساد مستحيلاً. ربما شعر الأخلاقيون أنهم بسعيهم الى التقدم والنهوض أنهم يعملون من أجل هؤلاء، وأن الغاية هي الفساد مهما كانت الوسائل أخلاقية.

علينا أن نميّز بين نوعين من الفساد الأخلاقي: الفردي والاجتماعي. أعمال الفساد الفردية تسهل ملاحقة فاعليها ومعاقبتهم. أعمال الفساد الاجتماعية تصعب ملاحقة فاعليها لمعاقبتهم، إما لأنهم يكونون عادة شركات أو كبار موظفين في الشركات، أو تكون الأعمال الفاسدة متبعة القانون؛ وهي الغالبة في أكثر الأحيان. كل ذلك ما يجعل ملاحقة الفساد صعباً إلا بتغيير القوانين والتربية: باختصار، تغيير النظام السياسي الاجتماعي، أو على الأقل تغيير الوعي الاجتماعي. هذا الوعي الآن يعلّم الأفراد الأنانية والقدرة على الاحتيال. من مساوىء الفردية، وهي جوهر الحداثة، أن المصلحة الشخصية تأتي أولاً، وأنّ القانون هو لملاحقة من يشذ عن القانون. والحالات الكثيرة من الشواذ والخروج على القانون يستحيل كشفها. وإذا كُشفت فهناك قوى نافذة تحمي الفاعلين لذلك يجب تطوير القوانين والأجهزة المكلفة بتطبيقها.

محاربة الفساد في نهاية التحليل مسألة قانونية قضائية، تقتضي تطبيق القانون على المخالفين، وإصلاح القانون لسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها المخالفون؛ بالأحرى الذين يخالفون روح القانون. وهي بالدرجة الأولى مسألة تتعلّق بالنظام، وآليات عمله، واختيار الكفاءات من ذوي الاستقامة للرقابة وتطبيق القانون. ليس الفساد مسألة تشكّل لب برنامج سياسي للإصلاح. يكون الإصلاح بالعمل والإنتاج والتربية الأخلاقية. جميع هذه الأمور تتعلّق بالنظام الأخلاقي-الاجتماعي.

أسوأ ما في الحملات ضد الفساد استخدام الصراعات السياسية لإدانة هذا الفريق. الفساد ليس مختصاً بأحد. هو مسألة تطال مجمل النظام الاجتماعي والأخلاقي. في مجتمع بُني

على الفساد لا يمكن محو هذا الفساد جزئياً بتوجيه التهم ضد هذا الفريق أو ذاك. علماً بأن فرسان محاربة الفساد خضعوا لعدد من التعديات عليهم، فجعلتهم يحصرون حملتهم بفريق سياسي دون الأفرقاء السياسيين الآخرين. تتطلّب المسألة الكثير من التفكير، والتحديد، وبناء حملة مكافحة الفساد على دراسات معمّقة وبرامج شمولية، وألا تكون الحملة على الفساد هي ذاتها فاسدة وغير أخلاقية وغوغائية.

حتى الآن، غوغائية أهل الفساد أقوى من غوغائية جمعيات المجتمع المدني (المسمى كذلك). محاربو الفساد يرون الشجرة ولا يرون الغابة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.