الإصغاء / إيلي أنطون شويري
إيلي أنطون شويري ( لبنان ) الخميس 8/2/2018 م …
الإصغاء هو الإنصات بصمت، وانتباه، ودقة، وصبر، وإحترام، إلى ما يقوله الآخر، لخلق إمكانية استقبال وتقبُّلِ أفكاره بوضوح، وفهم طريقة ومعنى تفكيره، ومعرفة كيفية الردّ عليه ومناقشته وقبوله أو رفضه، تَجنُّبا لأي سوء تفاهم، في جوّ أيّ حوار حول أي موضوع. الحوار، بحد ذاته، مبنيّ على تبادل أفكار، لا تسابق فيه ولا تنافس على الكلام، ولا نيّة إهانة، وتحجيم، وفرض رأي، وسيطرة، ولا تحقيق غلبة لفريق ضدّ فريق، بين الأفرقاء المتحاورين. في جوّ جيّد كهذا، لا بدّ أن يُفضِيَ الحوار إلى تفاهم ما، واتفاق ما، حول مسألة ما.
لن نبحث، هنا، عن الإصغاء عند كل من له أذنان سليمتان تسمعان، في تفاصيل العلاقات الإنسانية الشاملة لكل الأعمار ولكل ميادين النشاطات الحياتية، أي بين الأهل والأبناء، على سبيل المثال، وبين المعلمين والطلاب، وبين العسكر أنفسهم، أوبينهم وبين السياسيين، بين رئيس ومرؤوس، أو في تفاصيل عملية تنصّت الإنسان وإصغائه إلى الغناء والموسيقى، أو إلى أصوات الطبيعة والحيوانات حيث يجتهد العالم والشاعر في اكتشاف أسرار الجمال.
يهمّنا، في الحقيقة، أن نحصر اهتمامنا في محاولة استكشاف موضوع الإصغاء في لبنان، حيث لا تنقطع أبدا الدعوات إلى الحوار بين الأفرقاء المتخاصمين على الدوام، وأن نسأل أنفسنا السؤال التالي:
إلى أي مدى يُصغي الناس، شعبا ونُخَبا وسياسيين، إلى بعضهم البعض، في أحاديثهم وفي حواراتهم الوطنية؟
إنه أمر معروف أنّ الإصغاء هو العنصر الضروريّ والأهم لفهم وتفهُّم ما يقوله الآخر، في أي حوار يُراد له أن يكون ناجحا ومثمرا، بين طرفَين أو أكثر، أفرادا وجماعات. الحوار الرصين هو عكس الثرثرة. الحوار له هدف وأسلوب ونيّة، والإصغاء حاجة مُلحّة لا غنى عنها، لإنجاحه. أما الثرثرة فهي للتسلية وإضاعة الوقت، ولا مكان لها في جوّ الحوار.
السَّمَعُ يأخذ معنى سطحيا بالنسبة لمعنى الإصغاء العميق، وهو، بالطبع، شرط أساسي للإصغاء. كلنا نسمع بشكل عفوي، طبيعي، دون الحاجة إلى التفكير كما يتطلب الإصغاء. الإصغاء أصعب بكثير من الكلام، وهو يتطلب مجهودا ذهنيا أكبر من مجهود الكلام، يجمع بين نشاط الإرادة والعقل والقلب، من أجل تحمّل الصمت بصبر، لتلقّي الرسائل الصوتية المُرسلة من الآخر، ولخلق إمكانية التواصُل مع الآخر، بجدية وشفافية وفاعلية وإيجابية.
سوف نحاول إلقاء بعض الأضواء على موضوع الإصغاء في لبنان، بإعطاء بعض الأمثلة من صميم واقعنا، تاركين للقارىء حرية اكتشاف المزيد من الحالات التي تدلّ على ضعف القدرة على الإصغاء في مجتمعنا.
في لبنان، وطن الحزن والهموم والإحباط والمشاكل والفوضى والضجيج والعجيج وسوء التفاهم، كل إنسان عنده شيء يقوله، ويتطلب بإلحاح من الآخرين الإصغاء إليه. في لبنان، معظم الناس (رجالا ونساءًا)، حتى في الجلسات الحميمة، يتكلمون دفعة واحدة وفي الوقت عينه، ولا أحد يصغي إصغاءًا جيدا لأحد. وأحيانا، قبل أن يكمل الإنسان حديثه مع الآخر ليوضّح له أفكاره، يلقى الردّ السريع المعاكس المشاكس، ويتمّ القفز إلى موضوع آخر.
في كل المحلات العامة، والبيوت، وعلى الطرقات، الناس يريدون فقط أن يتكلموا، ولا أحد يريد أن يسمع أو يصغي. وإن أراد أحدهم أن يسمع، فهو يسمع، ولكنه لا يصغي، ولا يتجاوب وينسجم كما يجب، بعفوية وسلاسة ولياقة واحترام، مع مُحَدِّثِهِ. لا أخذ وعطاء، كما يُقال. لا إصغاء. يمكن لحديث بسيط عن الطقس بين شخصين أن يتحول إلى مشادّة وتنافس في معرفة أمور الفلك. والحديث عن السياسة، في غياب الإصغاء إلى الآخر واحترام رأيه، يؤدي إلى تنافر. حتى التحيّة على براءتها وبساطتها، أصبحت آلية، ببغائية، يلقيها الناس على بعضهم البعض بسرعة، ويُكمِلون طريقهم بسرعة، دون انتظار الجواب: أهلا، كيف الحال؟ ما هي أخبارك؟ وتهمّ، من باب اللياقة والإحترام، بأن تقول شيئا وتردّ على التحية الجميلة بمثلها، ولكن، لِمَنْ، وقد أدار الشبحُ ظهرَهُ واختفى؟
وإذا التقيت صدفة بشخص تعرفه من زمان، وبدأت بإخباره، بعد أن يبوح لك باشتياقه الشديد اليك ويسألك عن صحتك، وسبب غيابك وانقطاع أخبارك، وعدم رؤيته لك من زمان، أنك مررت بوعكة صحية معينة، أو بظروف صعبة معينة، وأنك…، يقاطعك ويبدأ بالمزايدة عليك بإخبارك (لا بالمفرد بل بالجمع) عن وعكات صحية أصعب قد مرّ هو بها، وعن أسماء ادوية أخذها، وأسماء أطباء استشارهم، وعن حالات وظروف أصعب مرّت عليه، وينسى وجودك، ويختم الحديث، ويتركك وحدك في حالة حيرة، وذهول، وصمت، وإصغاء.
وأما الكبار في السنّ فهم يشكون دائما من هذا الجيل الطالع الطائش، الذي لا يسمع ولا يصغي ولا يفهم، ولا يقدّر قيمة النصيحة المجانية، بعكس أيام زمان حين كانت “النصيحة بجمل”، وكان الناس يصغون إليها. وهم يُنذِرون ويُحَذِّرون بأننا نعيش آخر الأيام.
في الإعلام، كل إعلامي يغنّي على هواه، ويطرب لصوته الدراماتيكي الشجيّ. المهم، بالنسبة له، أن يُرضيَ كل الأذواق ويُطْرِب كل الآذان، خاصة أذواق وآذان المموِّلين! والناس المستمعون يطربون للصوت والصورة وحيوية الموسيقى وصخبها، قبل، وبعد، وفي نهاية كل خبر وتعليق وموّال، وهذا يكفي.
السياسيون، وهم لا يصغون أبدا لصوت الشعب، ولو افتعلوا ذلك أحيانا لغاية في نفس يعقوب، يتكلمون علنا عن حقوق الشعب، ويتناقل الإعلام ما يقولونه، والشعب يسمع ويرى ويقرأ، ولكنه لا يصغي ولا يبصر ولا يفهم. إنه عرض متواصل لحفلات “طرب” من إخراج السياسيين والإعلاميين، تحت عنوان “ما يطلبه المستمعون”، لها جمهورها الغفير الخاص، المصدِّق، والمصفِّق، والمتحمِّس، والمخدوع.
في حديث السياسة، تعلو أصوات كل الناس، من شعب وإعلاميين وسياسيين، وتكثر المعاكسات والتحدّيات، وتتصارع المتناقضات، وكل الناس على حقّ، ولا أحد على خطأ، وكل الناس يملكون هم وحدهم الفهم الكامل والصحيح لكل ما يجري في الوطن وفي العالم، ولا لزوم لأي نقاش، ولأي بحث، ولأي حوار، ولأية مراجعة ذاتية، ولأي إصغاء. وفي هذا الوقت الضائع، المصائب تتزايد وتتكاثر على شعب الوطن وحده، لا زعماء الوطن، بشكل مخيف.
حتى في الأمور الروحية، الناس (سياسيين وشعبا) يصلّون باستمرار وبكثرة إلى الله، ولا يصمتون لحظة واحدة لكي يصغوا، في جوّ تأمل وتقبّل وتواضع، إلى صوت الله الخفيّ، صوت الضمير الحيّ في قلب كل إنسان. والطريف أنك تسأل أكثر من شخص عمّا قاله الواعظ في موعظته الأسبوعية في دار العبادة، حيث الجوّ مُشبَع بالهدوء والصفاء والصمت والإصغاء الخاشع الكامل، فتلقى، دون أية مبالغة، الجواب عينه: “لست أذكر جيدا، الآن، كل شيء.. ولكنها كانت موعظة جيدة كالمعتاد”. والنتيجة هي واحدة: قليلون جدا هم الذين يحسِّنون تفكيرهم وأخلاقهم وسلوكهم، لأنهم، بكل بساطة، يُصْغُونَ بتواضع وصمت إلى صوت الواعظ وصوت ضميرهم.
في لبنان، وطن المآسي والضجيج والثرثرة وسوء التفاهم، يُؤثِرُ الإنسان الحساس، الواعي، الحكيم، الذي يعرف كيف ومتى يتكلم أو يصغي، الصمتَ والتأمّلَ، تجنبا للمتاعب، وطلبا للسكينة والسلام النفسيّ والروحيّ، في وطن قد تحوّل إلى برج بابل شاهق العلوّ يناطح سحاب السماء، ومسكون بالكبرياء والأنانية وجنون العظمة، حيث الكلام أصبح إدمانا مريضا. الجميع، شعبا ومسؤولين ونخبا من كل الأصناف، يتكلمون بصوت عال، ولا أحد يصغي لأحد، ولا أحد يفهم على أحد، ولا أحد يعترف بوجود أحد، ولا أحد يعترف لأحد بشيء، والكل راض بنفسه وعن نفسه، وغير راضٍ عن الآخرين. الذين يجيدون فنّ الإصغاء والتفهّم والتفاهم، في لبنان، قليلون جدا، ولا مكان لهم في حضرة ملوك الثرثرة الكثر، المتربِّعين على عروش برج بابل اللبنانيّ.
ما هذا الذي يجري، يا ترى، في وطن الحضارة والحرف والإشعاع والنور والرسالة، لبنان؟ لا أحد يصغي لأحد؟ لا أحد يتفاعل تفاعلا خيّرا، صبورا، محبّا، مثمرا، مع أخيه الإنسان، شريك الوطن، ولا حتى مع الخالق؟ وهل يجوز لنا، والحال على ما هي عليه، أن نظلّ نستغرب، بألم بالغ، كيف أنه، رغم كل الهموم والمآسي والأعداء المشتركين، لا تفاهم حقيقيّ نهائيا بين أبناء الشعب اللبناني أفرادا وجماعات ونخبا حول الأمور الأساسية الوجودية كالدستور والقانون وماهية الوطن وماهية أعدائه وأصدقائه، ولا وحدة حقيقية تجمعهم غير الدعوات الدائمة بالكلام الرنّان الفارغ إلى الوحدة والتفاهم، وممارسة أصول اللياقات والمجاملات والتشريفات في مناسبات الأفراح والأتراح والإحتفالات الوطنية، وكلّها باطلة لا تفيد الشعب بشيء، فإنها لا تخلق له عملا وكرامة، ولا تطعمه، ولا تلبسه، ولا تثقّفه، ولا تشفي أمراضه، ولا تسعده، ولا تمنعه من الهجرة، ولا تمنع عنه نزول المصائب تلوَ المصائب على رأسه باستمرار؟
هذا الوضع غريب، عجيب، مضحك، محزن، ومقرف في آن معا، تزداد فيه ومعه حدة الضحك والبكاء والقرف، خاصة حين يتحدثون في الإعلام عن حوار بين نخب الشعب اللبناني الواعية، التي تجيد الكلام المتفذلك في وجه بعضها البعض، أكثر مما تجيد الإصغاء إلى بعضها البعض. ما هذا الحوار الصعب، لا بل شبه المستحيل، الذي لا ينتهي بين الأفرقاء، لمعرفة “النوايا” وإعلانها وحسب؟ أو للتخفيف من إحتقان الشارع وحسب؟ ويقولون: هذا أفضل من لا شيء. وهل هو حوار صادق يا ترى أم أنه تمثيلية مؤقتة يُراد بها تمضية الوقت، على “أمل” خلافات جديدة في الآتي القريب؟ من أوصل الأمور إلى هنا بين أبناء الوطن الواحد؟ ولماذا؟ وحتّام؟
حسنا. إذا كان الحوار هو المدخل الوحيد لحلّ كل المشاكل بين اللبنانيين، وإنه لكذلك دون أدنى شكّ، وإذا كان محتكرو الحوار هم “الأقطاب” أنفسهم الذين يحتكرون الخلافات المتكررة والقرارات في خلق المشاكل وإنهائها، وبدء الحوار وإنهائه، وقرار النزول إلى الشارع، حين يتعكّر مزاجهم، لإشعال حرائق الفتنة وتخريب “البلد”، وإثبات قوتهم ووجودهم، وإذا كانوا حقا، كما يدّعون، يريدون الخير، كلّ الخير، لشعب وطنهم لبنان، لا لأنفسهم، هذه أسئلة يوجهها لهم أبناء الشعب المقهور الواعي:
بادىء ذي بدء، ما قولكم وما رأيكم، أيها “الأقطاب” المتحاورون، بممارسة الإصغاء المتواضع، في حوار جِدّي لا مزاح فيه ولا تذاكيا ولا خبثا ولا باطنية ولا صفقات ولا عمولات ولاتقاسم حصص، حوارٍ يؤدي، مرة واحدة وإلى الأبد، إلى اتفاقكم الدائم من أجل مصلحة الشعب اللبناني “العليا” فقط، لا المؤقت بحسب أمزجتكم المتكبِّرة، المريضة، ومصالحكم الخاصة، حوارٍ يؤدّي إلى تحقيق مطالب الشعب وحاجاته الحيويّة فقط، من أمن وتربية وتعليم وأجور لائقة وحياة كريمة وسلام وضمانات صحية، ومياه نظيفة وهواء نقيّ وغذاء سليم ودواء خال من السموم وبيئة غير مشوّهة، حوارٍ يؤدّي، بكل بساطة، إلى التخفيف من أحمال الشعب الثقيلة ومن أوجاعه وأنينه وصراخه، وإلى استرجاع كرامته؟
ما قولكم وما رأيكم، أيها “الأقطاب” المتحاورون، بممارسة الإصغاء المتواضع، في حوار جدّي، يؤدي، في فورة حميّتكم وغيرتكم على تأمين حقوق الإنسان اللبناني من الولادة حتى الممات، إلى السعي الدؤوب لإعطاء العمال والموظفين والجيش والأساتذة والشعب اللبناني بأسره وبكل أعماره، كل الحقوق والضمانات، ولكن… دون زيادة الضرائب على كاهل الشعب وإرهاقه وإزهاق روحه وإغراقه في الديون والبؤس والقهر، ودون تملُّصِكم وتهرُّبَكم، كالمعتاد، من تحمّل أعباء هذه المسؤولية الجسيمة، أنتم وحلفاؤكم الأثرياء ورجال الأعمال السعداء دائما، بحسن لباقة، وبخبثٍ مبطّن، وبراءةٍ مصطنعة، وصمتٍ ملائكيٍّ يُخْجِلُ الملائكةَ أنفسَهم؟
ما قولكم وما رأيكم، أيها “الأقطاب” المتحاورون، بممارسة الإصغاء المتواضع، في حوار جدّي يؤدّي إلى وقف ومنع تدخل الدول التقليديّ، “التاريخي”، المقدَّس، في شؤون الشعب اللبناني، وفرض مشيئتها عليه، من خلال ساسته (وانتم منهم) وإعلامييه، وانتم جميعكم شديدو الإنتباه والإصغاء فقط لإيحاءات ورغبات وأوامر هذه الدول، ولرنين فلوسها العذب الساحر، لا لصراخ أبناء الوطن الموجوعين، وهنا بيت القصيد وأصل كل العلل؟
ما قولكم وما رأيكم، أيها “الأقطاب” المتحاورون، بممارسة الإصغاء المتواضع، في حوار جدّي يؤدّي إلى تعديل وتحسين إتفاق الطائف غير العادل، والذي فُرِضَ فرضا على اللبنانيين من أبالسة الفتنة والشر، في غفلة من الزمن، وفي لحظاتِ اسشراء الغباءٍ والجنون والخياناتٍ والأطماع والمآسي، بعد إنهاكهم بحروبٍ داخلية عبثيّة؟
ما قولكم وما رأيكم، أيها “الأقطاب” المتحاورون، بممارسة الإصغاء المتواضع، وبدون أية وصاية خارجية، في حوار جدّي يؤدّي إلى إيجاد صيغة حكم جديدة عادلة متوازنة تتعدّى روح الطائفية المُذِلّة للوطن والمقيِّدة لنموّه، وإلى إنتاج قانونٍ إنتخابيٍّ جديدٍ لا يكون سجنا جديدا لإرادة الشعب اللبناني، تحت مُسَمَّيات جديدة براقة، خادعة، ولا تكونون أنتم السجّانين الظالمين؟
ما قولكم وما رأيكم، أيها “الأقطاب” المتحاورون، بممارسة الإصغاء المتواضع، في حوار جدّي، لكي يكون لكم جميعا قرارٌ حرٌّ من مذلّة سطوة وإغراءات مال الخارج، كلما حان وقت انتخاب رئيسٍ للجمهورية، منذ الإستقلال حتى اليوم، قرارٌ حرٌّ وعادلٌ بأن يكون الرئيس العتيد قويّا، يمثل طائفته (كما هي الحال مع سائر زعماء الطوائف الأخرى)، ويمثل الشعب اللبنانيّ وحده، لا حكومات الخارج؟
لماذا وحتّام يطول حوار الطرشان من أجل تحقيق هذا الأمر المُحِقّ والبسيط؟ لماذا تعقيد الأمور بشكل دائم؟
وتطول السبحة إلى ما نهاية. وثمة دائما، من وقت إلى آخر، مشاهد حوارات طرشان جارية بين “الأقطاب”، على مرّ السنين، ومن جيل إلى جيل. إنها حوارات عقيمة، لا يوجد فيها إصغاءٌ حقيقيّ، فعليّ، صادق، لهموم واقتراحات الشريك الآخر في الوطن الواحد، ولا تزيد الشعب اللبناني إلا حيرة واشمئزازا وقرفا، في معمعة صخب وضجيج في برج بابل أقطاب وإعلامِيّي لبنان المتهاوٍي، وفي جوّ بلبلة مريضة لا تنتهي، وكأن لا وجود لأعداء يحيطون بالوطن من كل جانب، ويتغلغلون في كل أرجائه.
إذا كانت العلّة في النفوس لا في النصوص، كما يُردّد الجميع، فلماذا لا يباشر اللبنانيون، شعبا وإعلاميين وسياسيين ونخبا في كل الميادين، بالتعلم (في البيت والمدرسة والجامعة وأماكن العمل) على الإصغاء، وانتقال هذه العدوى الجميلة المفيدة إلى كل أبناء الوطن، وجعل الإصغاء فنّا يتقنونه كما يتقنون، وأيّما إتقان، وبتباهٍ كبير، فنّ الكلام والثرثرة والسفسطة والسخرية والتهكّم والهجاء، وكلُّها فنونٌ تافهة، عبثية، لا تفيد الوطن اللبنانيّ بشيء؟
إن الإصغاء المتواضع، المحبّ، الواعي، للآخر، في حوار هادىء، صادق، ليس فقط فنّا عظيما يتعلمه الإنسان ويتقن ممارسته، إنما هو أيضا الدواء الوحيد الشافي لعلل شعب هذا الوطن المعذب، المقهور، المظلوم، والمُعَرَّض لخطر الزوال على الدوام، على يد دول تمارس الإرهاب، وعلى يد زعمائه المتكبرين، ومفتعلي الخلافات فيما بينهم من أجل المال والسلطة، وزارعي بذور الإنقسام الدائم بين أتباعهم.
إزاء هذه المخاطر الداهمة كل لحظة، وإزاء شعب يكافح ليبقى على قيد الحياة، وليحافظ على ما تبقّى له من كرامة وعنفوان، ويستصرخ بقوة العلاج والشفاء والخلاص، فليبدأ جميع حاملي الألقاب العظيمة في هذا “البلد”، والجالسين سعداء على عروش العظمة في أبراج بابلهم الخاصة المحميّة، من النخب اللبنانية السياسية والروحية والثقافية والمالية، بحوار بنّاءٍ، مُجْدٍ، يقطف الشعب، لا هي وحدها، ثماره الخيّرة سلاما ووئاما ومحبّة وصحّةً وازدهارا وسعادة، خاصة وهي، أي النخب، تعتبر نفسها منارات علم ومعرفة للشعب، وتعتبر نفسها الأذكى والأوعى والأوفر قدرة وحكمة على إدارة دفّة قيادة الوطن.
أجل، فلتبدأ تلك النخب بإعطاء المثال الصّالح لأبناء الشعب في كيفية إدارة حوار راق، صادق، فيما بينها، وفي فنّ الإصغاء، وتعليم هذا الفنّ الرائع لجميع أبناء الشعب الذين ينتظرون، على أحرّ من الجمر، وبصبر عجيب أين منه صبر أيوب، لا كلاما بليغا، منمّقا، جميلا، مُطَمْئِنا، مخدِّرا، كالمعتاد، بل نتائج حسنة، يكون أولها اتفاق النخب المتخاصمة دوما حول مصالحها الشخصية لا مصلحة الوطن، وتخليها عن كبريائها ووساوس إثبات وجودها وتثبيت زعامتها، وعن خلافاتها الحادّة التافهة السخيفة، من خلال التحدّي وإطلاق الكلام المهين في السرّ والعلن لبعضها البعض، ومن خلال استعمال أبناء الشعب وقودا حامية لنار ثأرها وانتقامها من بعضها البعض، وجمرا دائم الإشتعال تحت رماد الهدنة المؤقتة. وليكن إتفاقٌ يدوم، يشفي جراح أبناء الشعب النازفة باستمرار، ويريحهم، ويخلِّصهم من أخطار وكوابيس الشرّ المتكاثرة والمتنامية من كل حدب وصوب في حياتهم اليومية. وأشدّ هذه الأخطار سوءًا على أبناء الشعب كلهم، هو الإنقسام والفتنة والحقد والإقتتال، بسبب التنافر بين أمزجة زعمائهم المتقلِّبَة بحسب تقلب مصالحهم لا مصالح الوطن، وأنانياتهم المتكبّرة، الثابتة ثبات جبال لبنان.
هل من يصغي بتواضع بسيط، ونقاوة قلب، وصفاء نية، وانتباه شديد، وصدق خالص، وصبر جميل، ومحبّة كاملة، إلى صرخات الشعب اللبنانيّ الموجوع، المنقسم على ذاته، المشتاق إلى وحدته ووحدة زعمائه ووحدة وطنه؟
هل من يفهم بوضوح ويعي خطورة الوضع؟
هل من يستجيب بسرعة ودون تأجيل، ويعمل بشجاعة وإخلاص على إنقاذ الشعب من نزاعه الطويل؟
هل هي مجرّد صرخات خرساء نابعة من حرقة القلب يطلقها الشعبُ الموجوع، تدخل في آذانٍ طرشاء، وتملأُ أودية نفوس فارغة، مقفرة، موحشة، لا حياة تسكنها ولا نور ولا روح، تضيع فيها تلك الصرخات، ولا يبقى منها أي أثر حتى ولا ترجيع صدى؟
التعليقات مغلقة.