“ذا بوست”(2017): حرية الصحافة المهنية والأسرار الحكومية الخفية لحرب فيتنام الخائبة و”جائزة ترامب” الافتراضية للأخبار الكاذبة!

م. مهند النابلسي




عمان ، 8 شباط ، 2018 ، الأردن العربي

*يدير هنا المخرج البارع “ستيفن سبيلبيرغ” كل من “ميريل ستريب وتوم هانكس” ومجموعة متميزة من الممثلين في دراما مثيرة فريدة، تتعلق اساسا بالشراكة “الغير محتملة” بين “كاترين جراهام” (كأول ناشرة نسائية لصحيفة امريكية كبيرة ذات تأثير)، وبين كبير المحررين “بين برادلي” (توم هانكس)، ويستعرض لنا قصتهما الشيقة عندما يلهثان في سباق مع الوقت لكي يلحقا بركب صحيفة “النيويورك تايمز”، بغرض نشر وفضح تقارير ضخمة خاصة بالأسرار الحكومية (البنتاغون تحديدا)، التي اخفيت لثلاثة عقود وشملت أربعة رؤساء امريكيين وهي تتعلق اساسا بخفايا وتداعيات حرب فيتنام الخاسرة، حيث نلاحظ في بداية الشريط اعتراف وزير الدفاع “ماكنمارا” أثناء عودته من فيتام في طائرته لأحد كبار مستشاريه: “بالرغم من زيادة الميزانية، ورفع مستويات التجنيد واستخدام احدث الأسلحة والمعدات، ولكن بلا مردود قتالي عملي على ارض الواقع”!

*ثم نلاحظ في المشاهد المتتابعة المتواترة تغلب الناشرة ومدير التحرير على خلافاتهما الشخصية، لأنها تهدد حياتهما المهنية وحريتهما ايضا، فينجحان معا بالمثابرة والاصرار والعمل الجماعي المتواصل، حيث يتمكنان أخيرا من اظهار الحقائق “الصادمة” ونشرها للرأي العام الأمريكي المتعطش آنذاك لمعرفة الحقائق بصدد هذه الحرب الخائبة.

*ينجح الفيلم بتحويل بعض الأسئلة الحرجة والواقعية الى الضؤ في الوقت الملائم، كما يكشف النقاب عن قوة الصحافة ومدى الانتهاكات الرئاسية المضللة (بكشفه تقارير البتاغون عن وقائع حرب فيتنام)، ويحول كل ذلك لمادة سينمائية سردية ترفيهية وشيقة وحافلة بالعبر والحكم، ويمكن بالتأكيد اسقاطها على الكثير من الممارسات التضليلية للدول والحكومات في عصرنا الراهن، وهو يقدم لنا الحقائق الموضوعية الحساسة كما ربما حدثت، مع نكهة جاذبة من الحنين لأجواء الستينات في القرن المنصرم، كما يقدم لنا انماطا (ربما اندثرت) من الصحفيين المثابرين الكادحين من المدرسة القديمة، يعرضون حياتهم ومستقبلهم للمخاطر العديدة، ونراهم يتصلون هاتفيا سرا، ويركضون ويلهثون ويواعدون اشخاصا مشبوهين للظفر بالمعلومة والأوراق والتقارير السرية وصولا للسبق الصحفي…تتفوق هنا “ميريل ستريب” بدورها المحوري اللافت لاحداث اختراق صحفي (ربما بتأثير قومي صاعق)، وكما لو انها تخوض معركة شخصية لاكتشاف ذاتها ونقاط قوتها ومدى شجاعتها للمواجهة، وبالرغم من تقادم الأحداث بمرور 46 عاما على هذه الأحداث، الا ان الفيلم يظهر عصريا بقوته على اظهار فعالية الصحافة الحرة في كشف الحقائق المتوارية والمخفية، لذا يمكن ببساطة اسقاط افكاره الجريئة على عصرنا الراهن المضطرب بصحافته وفضائه “السيبيري” المفتوح يوميا على كم هائل من “الحقائق والوقائع والوهام والاشاعات وحتى الأكاذيب”!

*تكمن براعة المخرج (“الأمريكي- اليهودي” الداعم للأسف لاسرائيل) في قدرته المعروفة على اتاحة المجال لتقديم كم كبير من الأدوار الرائدة والثانوية على حد سواء، والتي ساهمت حينها في صنع الحدث كما تجلى في مسار الفيلم، حتى انه لا ينسى المراسل الشاب المتدرب الذي يهرع راكضا لتوصيل البريد المستعجل، والذي نراه يقف مع كبار الصحفيين لاهثا في “مصعد الثلاثين ثانية” في سباق حميم مع الوقت الثمين، فالكل هنا قد اخذ لحظته

لاتمام المغامرة الصحفية ربما “الغير مسبوقة” في تاريخ الصحافة، ونلاحظ جميعا (ككتاب ونقاد وقراء ومواقع ألكترونية متعددة) أن الحاجة تزداد حقا لمشاهدة هذا الفيلم في الوقت الحالي، وخاصة مع تدفق الكم الكبير الهائل من “القصص والادعاءآت والاشاعات والمبالغات والأكاذيب كما بعض الحقائق” التي تعصف حاليا بادارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” (المضطربة-المتناقضة)، وحيث سخر مؤخرا من الصحافة باعلانه “بتوتر” عن جائزة خاصة “للأخبار الكاذبة”!…وكل هذه التداعيات تؤكد الحاجة الماسة عصريا لكل من الصحافة الحرة والشفافية والحوكمة (التي تكشف مظاهر وبواطن الفساد المستشري عالميا بشكل أخطبوطي عابر للدول والقارات).

*ينجح سبيلبيرغ بالحق بجعل هذه الأيام المتواترة الحاسمة “سهلة المتابعة” في التاريخ الأمريكي العصري، وبشكل مقنع ومتكامل، وهو يصل اخيرا لنتائج ايجابية متفائلة ذات مغزى، عكس النهاية السلبية المتشائمة نوعا ما لفيلم “كل رجال الرئيس” اللافت (الذي استعرض فضيحة ووترجيت وأيام نيكسون الأخيرة في الرئاسة، علما بأن المشاهد الأخيرة في فيلم “ذا بوست” تشير لعملية الاقتحام الشهيرة التي احدثت الفضيحة الكبيرة والتي تضخمت ككرة الثلج حتى اسقطت الداهية نيكسون في حينه)!

*بصراحة فقد ابهرني هذا الشريط بطريقة استعراضه اللاهث الشيق لطريقة عمل طاقم صحيفة البوست، حيث قضى معظم المحررين ليلة كاملة طويلة حتى الصباح الباكر بغرض اصدار ملخص واضح عن تقرير وزارة الدفاع الأصلي (المكون من الآف الصفحات) والذي وصلهم بلا ترقيم، ليتطلب ذلك عملا مثابرا متواترا ومتواصلا من التنسيق الدؤوب العاجل طوال الساعات لاصدار التقرير النهائي وتوصيله للطباعة في الصحيفة المشهورة واطلاقة صباحا للملأ، والذي مثل في حينه خدمة وصدمة كبيرة “للرئاسة والشعب الأمريكي”، وساعد تدريجيا على الدخول بمفاوضات صعبة مع الطرف الفيتنامي لانهاء حرب فيتنام…لقد اعجبت تماما بمنهجية العمل الجماعي للصحفيين كما وردت في الفيلم، وقارنتها ببؤس اساليبنا العربية في العمل الجماعي والتنسيق وتوزيع الأدوار لانجاز المهمات العاجلة والعادية، حيث لا يوجد مجال للمقارنة، كما اعجبت بزوجة

“كبير المحررين هانكس” التي فتحت منزلها لهذا العمل الوطني الرفيع، بل وزودت الجميع بالشطائر المتنوعة والعصائر بلا “تذمر وشكوى وابتزاز”!

*عرض هذا الفيلم في افتتاحية مهرجان فينيسيا الدولي بأغسطس 2017، وتم اختياره من قبل المجلس القومي للمراجعة السينمائية كواحد من افضل عشرة أفلام للعام 2017، ومنحه معظم النقاد أكثر من 8 الى عشرة، ولكني وجدته ضعيفا نسبيا و”مصنوع على عجل” وربما “مسلوق” في بعض طروحاته بغرض الدخول في سباق الاوسكار القادم، وأعتقد أنه لا يستحق اكثر من 6 الى10 في المقياس النقدي الصارم ومقارنة بأفلام المخرج السابقة اللافتة والناجحة والمتنوعة الثيمات، وهو بالتأكيد لم يصل لمستوى فيلم “جسر الجواسيس” (2015) لنفس المخرج ونفس الممثل، وربما تكمن اهميته الحالية بتسليطه الأضواء على اهمية “حرية الصحافة” في عصر سياسي مضطرب عالميا يذكرنا بأيام الحرب الباردة وخاصة تحت ادارة ترامب “الهائجة-المتخبطة” والتي تستقطب النقد والعداء داخليا وخارجيا وبشكل “غير مسبوق”!

*** م. مهند النابلسي ؛ كاتب وباحث وناقد سينمائي

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.