صراع الأمزجة / إيلي أنطون شويري

نتيجة بحث الصور عن مزاج
 إيلي أنطون شويري ( لبنان ) الإثنين 12/2/2018 م …




إنه واقعٌ معلومٌ وبديهيّ أن الإنسان كتلة حواس ومشاعر منذ ولادته، تتحكم بقراراته وخياراته وتصرفاته، وأن العقل لا ينضج ولا يُحْكِمُ سيطرته على غرائز الإنسان ولا يروِّضُها ليوجهها التوجيه الصحيح، إلا بعد جهد طويل، مضنٍ، متواصل، قليلون جدا هم الذين يحققون هذا الإنجاز. معلوم وبديهيّ أيضا أن لكل إنسان ذوقه الخاص به في اللباس، وفي الأكل والشرب، وفي الموسيقى والألوان والعطور، وأن لكل إنسان مزاجه الخاص في اختيار علاقاته مع الناس، ويفتش بشكل عفويّ عن عشرة إنسانية تشبهه، يستطيع، معها، أن ينسجم قدر الإمكان. حتى في مجال السياسة، ثمّة ذوق أو مزاج خاص (في جوّ وإطار بيئة العائلة والطائفة والمذهب والعِرْقِ والدِّين) يفرض على معظم الناس خياراتهم، دون أن يدروا، حتى لو نطقوا وأجادوا النطق بعكس ذلك، أكثر ممّا تفرضها المبادىء الفلسفية والسياسية. المبادىء العقلانية تهمّ فقط، وبشكل ثابت، النخبة الفكرية والأخلاقية والروحية القليلة إلى حدّ الندرة، من الشعب والساسة ورجال الدين. حتى الأحزاب التي تتبنّى مبادىء علمانية وغير طائفية، يعرف كل لبنانيّ أن المنتسبين إليها هم، في غالبيتهم، بالوراثة والتقليد، من طائفة واحدة هي طائفة مؤسّس الحزب.

أمام هذا الواقع الإنساني، نستطيع، خاصة في لبنان، أن نتكلم عن مزاج سياسيّ غير عقلانيّ، هو خليط من مزاج عاطفي وعائلي وديني ومذهبي وطائفي وعِرقيّ، ومبادىء سياسية. يتحكّمُ هذا الخليط بمفهوم خاص ومتنوّع ومتلوّن لشيء إسمه مصلحة شخصيّة أو عامة، وبمواقف “مبدئية” يتخذها الناس بحسب هذا المزاج. هذا المزاج لا يمتّ، نظريا، بأية صلة للمبادىء الأخلاقية و/أو الفلسفية الثابتة، اللاطائفية، التي تُبنى على أساسها الأحزاب العلمانية. هو مستقلّ عنها، يسبق وجودها، وليس من نتاجها. غير أنه، في الواقع، يبقى مرافقا للمبادىء، ويبقى له تأثيره على سلوك مُعتَنِقي هذه المبادىء.

إن الصراع التاريخيّ بين الطوائف اللبنانية لم يتخذ في الواقع شكل الصراع بين أحزاب مبدئية، إلا بالكلام المنمّق والبليغ. في الحقيقة، إن الأحزاب اللبنانية قد حاولت دائما أن تخفيَ، منذ الإستقلال حتى اليوم، تحت قناع الحزب والمبدأ، روح الطائفية والتعصّب، والحذر من الطائفة الأخرى، المُنافِسة لها في حكم الوطن اللبناني، وفي تناتش حصص الحكم من قوة وسيطرة ومال ومراكز ووظائف عالية وعادية، والمنافِسة لها أيضا في استمالة وجذب بعض حكومات الخارج النافذة القوية والثرية، للإستفادة من دعمها وكرَمِها مقابل تنفيذ سياستها في الداخل اللبناني، ودائما على حساب الطائفة والشعب.

إنه صراعُ مصالح وأطماع، حادٌّ جدا، لأمزجةٍ متكبرة أنانية، بين زعماء الطوائف أولا، ثمّ تنتقل عدواه إلى أبناء كلّ طائفة. وهذا الصراع، أحيانا، يضربُ أيضا زعماء طائفة واحدة وأتباعهم. وقد أوصل هذا الصراع الشعب المنقسم على ذاته، والساكت والمتواطىء مع سياسيّي طوائفه بمجرد غضِّه النظر عن سلوكهم السياسي السيّء ورفض محاسبتهم، إلى حالة يُرثى لها من مزاج القلق والقرف والخوف والفوضى والغضب والإنقسام. هذه الحالة الشعورية المأساوية هي وحدها جعلت الشعب كله يتوحّد بصمت، في جوّ الإنقسام المفتعل من معظم زعمائه. ولكنّ الشعب لا يتابع ولا يستغلّ وحدته الصامتة هذه ليثور قلبا واحدا في الشارع، متخطيا أمزجته الضيّقة المتنوعة المتضاربة المتصارعة، ضدّ حكوماته المتعاقبة، العاطلة عن العمل، المعطِّلة هي نفسها لوجودها ونشاطها، الفاشلة في حلّ أزمة النفايات، مثلا، والكهرباء والمياه، واستغلال الموارد الطبيعية برا وبحرا (دون محاولة إبرام صفقات مشبوهة مع شركات أجنبية)، والفاشلة في حلّ كل الأزمات المُفْتَعَلَة الناتجة عن كبرياء زعمائه المريضة، كالخلافات الدائمة في تفسير الدستور وتطبيقه، والمشاركة الحقيقية في الحكم وعدم الإستئثار به، وإيفاء الدين العام المتفاقم بشكل مخيف، وعدم تسييس القضاء والسيطرة عليه من قبل أيّ فريق معيّن يحاول أن يستأثر بالحكم، ومحاسبة سارقي خزينة الدولة المعروفين وردّ مال الشعب إلى الشعب، ومسبّبي أزمة النفايات الذين افتضح أمرهم أخيرا في الإعلام، وقد أُثبتت التهمة عليهم، وصدق حدس الشعب فيهم من زمان، وأما هم، وشركاؤهم في الحكم، لا يرفّ لهم جفن، ولا من يحاسب، ولا من يحزنون.

ما يهمنا هنا والآن، هو إشعال نار الثورة القوية في الشعب ضدّ نفسه، أي ضدّ كسله وخنوعه وخضوعه لظلم زعماء طوائفه، وضدّ عبادته العنيدة لصنم الزعامة، ثورة يمكنها أن تضع حدا لصراع الأمزجة العقيم بين اللبنانيين، بسبب الصراع الموسميّ بين أمزجة زعمائهم، عبر تاريخهم المأساويّ الطويل.

ما يهمّنا هو الحفاظ على المزاج الشعبيّ الثوري العام والعارم. نرجو أن يتنامى ويستمرّ هذا المزاج الذي يوحّد قلوب اللبنانيين ولو لازموا بيوتهم، ولم يجاهروا به، ولم ينزلوا إلى الشارع، باستثناء ما يُسَمَّى ب”الحراك المدنيّ” الذي يضم بعض الناشطين المتحمسين لمطالب الشعب المحقّة، ولمحاربة فساد الحكم، والذي يراقبه ويؤيده من بعيد معظم أبناء الشعب اللبناني الصامتين، والذي يحاول بعض الزعماء والإعلاميين التقليل من شأنه والتشكيك بنواياه وبمصادر تمويله.

نرجو أن تنتقل العدوى، عدوى الثورة، إلى جميع اللبنانيين، فيتنافسون لأول مرة في تاريخهم من أجل تحقيق هدف سام واحد، وهو هدف التحرّر من سلاسل استعباد زعمائهم لهم. ونرجو أن يقاوم الشعب أية تدخلات من أي نوع من الخارج، من خلال زعمائه، تقصد تعكير مزاجه الثوريّ، وإفساد وتفكيك وحدته، بقوة رشوة المال الذي بدأت روائحه تفوح من اوكار “المفاتيح” الإنتخابية هنا وهنالك، كما هو “التقليد” الطاغي المُتّبع في لبنان، من قِبَل بعض هذا الخارج المصاب بعقدة العظمة، وبشهوة السلطة والسيطرة وإحداث الفتنة واتباع سياسة “فرِّقْ تَسُدْ”، ومن قِبَل بعض سياسيّي الداخل المصابين بعقدة مفتعلة ومصطنعة إلى حدّ كبير، هي عقدة الشعور الدائم بالخوف والخطر وقلة الأمان داخل الوطن تجاه سائر الطوائف، وعقدة الحاجة إلى الحماية الدائمة من الخارج، وهم في الحقيقة مصابون بشهوة جامحة للمال والسلطة، وبمرض خبيث يصعب شفاؤه إلا بالإستئصال النهائي أو بالكيّ الموجع، هو مرض خيانة وطنهم.

وما يهمّنا أيضا، وربما بالدرجة الأولى، هو أن يعيَ الشعب حقوقه، وأن يُثبت أكثر فأكثر كل يوم، وهو يصرخ عاليا، ويُسمع صوته المدوّي في البيت والإعلام والشارع، ويحافظ على قدسيّة مزاجه الثوري الواحد، قدرتَهُ على تغيير الأوضاع الشاذة، وقدرتَه على محاسبة المسؤولين عن كل الكوارث الإنسانية والبيئية التي سبّبها له هؤلاء، وقدرته، وهنا الشيء الأهمّ، على أن يعرف، من الآن فصاعدا، كيف يختار قادته، وأن يطالب، بإلحاح وسرعة، بحقه بأن ينتخب هو مباشرة رئيس جمهوريته، لا نوابه المرتهَنين بأكثريتهم للخارج، وهكذا، يكون للوطن اللبناني قائد جديد قويّ هو ابنُ الشعب لا إبنُ الصفقات السياسية المشبوهة والمال، قائد حرّ، مستقلّ، نزيه، غير مرتهن لمال الخارج وغير مستعبد لمشيئته، لا ينصت إلا لصوت الشعب الفقير الذي انتخبه، ولا يعمل إلا بمشيئة الشعب الموحَّد، الحرّ، الواعي، الثائر، الأبيّ.

أخيرا، إلى أن يحين موعد الإنتخابات النيابية، فليتحضّر الشعب لثورة جديدة في صناديق الإقتراع، بغضّ النظر عن ماهية قانون الإنتخاب وتسمياته الجديدة المغرية، ثورة تغيّر وجه لبنان المشوّه، وتخلق للبنان وجها جديدا مشرقا، ودورا يليق بكل عائلاته الروحية، هو دور وطن الرسالة بوحدة شعبه القويّ المقاوم لكل شرّ وبجيشه القويّ. إنها رسالة المحبة والسلام والروح، وحياة الشراكة المُحْيِيَة، لا التعايش الجاف، البارد، الحَذِر، بين جميع أبنائه. إنها رسالة سامية، رائعة، ما زالت طريّة، قيد الإنشاء والنموّ، وتحتاج إلى عناية فائقة دائما لإنعاشها. والمؤلم أنه ثمة دائما ساسة لا روح فيهم، يحتقرون هذه الرسالة، ويحاولون خنقها في مهدها، وإبدالها برسالة التعصّب والبغض والإنقسام والرذيلة، وجعل أرض الوطن اللبناني وقلوب اللبنانيين موطىء قدم ومسكنا لآلهة المال والفتنة، وكل أنواع وأصناف وألوان التجارة والكذب والنفاق والخيانة والبشاعة والبطر والفحش والعهر والرذيلة.

فليكن مزاج اللبنانيين مزاجا ثوريا رسوليًّا يولد من جديد كل يوم، مزاج وحدة وقوة ومقاومة. وليكن صراع الأمزجة في لبنان صراعا بين قلوب واعية، صافية، مُحِبَّة، في سبيل بناء الوطن الواحد الحرّ، المستقل، المنيع. هذا أمرٌ صعبٌ، ومُحْبِطٌ معظم الأحيان، لعدم استجابة الشعب اللبناني (المصطفّ وراء زعماء طوائفه اصطفافًا شبه نهائيّ) لنداءات الوعي والتحرّر الصادقة، اليتيمة، أجل، ولكنّه أمرٌ غيرُ مستحيل.

إنه من واجب النُّخَبِ الوطنيّة الجيّدة في كل الحقول أن تقود، بكل أمل وعزم وصبر وفرح، ثورة التحرّر هذه، ثورة الوعي والمحبة. فهل تفعل؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.