أحمد جرار… شهداؤنا والولادة من جديد / د. فايز رشيد
د. فايز رشيد ( الجمعة ) 16/2/2018 م …
بداية، فإن عمليات المقاومة للشعوب المحتلة أراضيها والمغتصبة إرادتها مشرّعة بقرارين واضحين من الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرار الأول رقم (3034) الصادر بتاريخ 18 ديسمبر 1972 وينص على «الحق الراسخ للشعوب التي لا تزال رازحة تحت نير الأنظمة الاستعمارية أو العنصرية والأشكال الأخرى للسيطرة، في تقرير مصيرها وتحرير أرضها». والقرار الثاني رقم (3314) الصادر في 24 فبراير 1974 ، ومن نصّه، «حق الشعوب المحتلة في مقاومة محتليها بكافة الوسائل والسبل، بما في ذلك الحق في استخدام الكفاح المسلّح». اضطررنا للتطرق للموضوع السابق، لأنه للأسف يجري التصوير إعلاميا وسياسيا بأن المقاومة المشروعة للشعوب أصبحت «إرهابا»!
هذه القضية حوّلتها الولايات المتحدة وإسرائيل إلى أيديولوجيا معتنقة، وسمتها «مكافحة الإرهاب». من أجل ذلك عقد مؤتمرا جوناثان (شقيق نتنياهو الذي قتل في عينتيبي)، الأول عقد في نيويورك في عام 1979، والثاني في القدس المحتلة عام 1984، حضرهما استراتيجيون، وإعلاميون ومختصون في الدعاية ومفكرون وغيرهم، وكان الهدف منه، إقناع العالم بأن مقاومة الفلسطينيين ليست سوى «إرهاب». سُبق المؤتمران بخطة أيديولوجية إعلامية محكمة من خلال نشر كتب عن أهمية مكافحة الإرهاب، ولعل أبرزها، كتاب «الشبكة الإرهابية تعمل» للأمريكية كلير ستيرلنغ.
تقف الشابات والشباب الفلسطينيون الذاهبون لمقاومة المحتلين الصهاينة، وليس في أيادي البعض منهم سوى حجر أو سكين، فيقوم الجنود بقتلهم بدون سابق إنذار، وقد أفتى لهم الحاخامات بجواز قتل الفلسطينيين حتى لمجرد الشك فيهم. فلسطين مثل نبض القلب، تسمع خفقاته في كل ثانية، قلب يخفق بالمقاومة، وعلى مدى قرن زمني، لم يكلّ ولم يملّ، ولن يتوقف عن الخفقان حتى تحرير أرضنا ونيل حقوقنا وبناء دولتنا وعاصمتها القدس. الفرق بين القلب الفلسطيني والقلب البشري العادي، أن الأول هو نبض الأرض، التي لا تنتهي، وستظل خالدة بخفقانها أبد الدهر. فالموت للمحتل، لمغتصب الأرض، للقتلة الفاشيين.. هكذا أجابهم أحمد نصر جرار عندما أطلقوا الرصاص عليه، وعندما حاولوا تزوير نهايته من خلال إظهاره مستسلما، لكن الفيديوهات التي صُوّرت أظهرت قتاله العنيد ضد من جاءوا إلى المكان الذي كان يتخفى فيه! الشهادة في فلسطين تتوارث من الجد إلى الابن إلى الحفيد. هذا هو شعبنا المعطاء، والشهيد أحمد نصر جرار ورث الشهادة عن والده نصر جرار، الذي استشهد عام 2002. لعل الميزة الأخرى في شعبنا، أن بين قادته من الشهداء المئات على مدى تاريخ قضيتنا.
إن من أسباب وصف ثورتنا الفلسطينية بأنّها «ثورة المستحيل» افتقار أرضنا للاتساع والعمق الجغرافيين اللذين يوفران ملاذا آمناً للثوار في الجبال والغابات والكهوف، كما في بلدان أخرى شهدت حروب التحرير الشعبية، وحروب العصابات، ورغم ذلك لم تتوقف المحاولات يوماً. أحمد جرار أعاد نمط استشهاد باسل الأعرج، ومن قبله الشهيد محمد عاصي في عام 2013، الذي اغتيل عندما كان يتحصن في كهف بين قريتي كفر نعمة وبلعين، والقائمة لم تتوقف منذ إعدام السلطات البريطانية لمحمد جمجوم، فؤاد حجازي وعطا الزير عام 1930. المسيرة لم ولن تتوقف ما دام محتلٌ واحدٌ موجود على أرضنا. شهداؤنا يجترحون المعجزات كالشهيدين البطلين غسان وعدي أبو جمل، اللذين دخلا إلى معهد «هارنوف»، المحصّن أمنيا وقاما بعمليتهما البطولية الرائعة، التي بنوعيتها هزّت كل الكيان: حكومة ومستوطنين غرباء عن أرضنا وتاريخنا وحضارتنا. الشهيدان لم يكونا الأولّين ولن يكونا الأخيرين… سبقهما شهداء كثيرون، منهم عبدالرحمن الشلودي، معتز حجازي، يوسف رموني، الذي اعدمه المستوطنون في الحافلة التي يقودها، خير الدين حمدان من قرية كفركنا في منطقة 48، الذي قتله الجيش (الذي يتحدث الغرب عن طهارة سلاحه)، وإبراهيم العكاري وغيرهم الكثير.
يدّعون أن القدس العاصمة الموحدّة الأبدية لدولتهم! ولقد سنّ الكنيست الصهيوني قرارا بتوحيدها، ولو أخذنا مقاومة أهالي القدس للاحتلال، فإنها تفوق الوصف فقد تحولت حتى مرحلة قريبة إلى ظاهرة مقاومة جديدة، وشكل مبتكر من أساليبها: عجل سيارة، حجر، سكين، معول. إنها أيضا دليل قناعة تشكلت ولا تزال لدى معظم الفلسطينيين، بأن المقاومة هي الأسلوب الوحيد لردع العدو واقتحامات قطعانه من المستوطنين للقدس وللاقصى ومحاولة هدمه، وإقامة الهيكل المزعوم محله، وأن ردع خطواته لا يتم من خلال المفاوضات والتوسل وبيانات الاستنكار والشجب، وإنما من خلال القوة.
العمليات هي رد الفعل الطبيعي على التنكيل الوحشي بشعبنا، أهلنا يواجهون اعتداءات متواصلة إجرامية من قوات الاحتلال وجموع المستوطنين عليهم، كما يجري تهويد للقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، يتم قتل العديدين من أبناء شعبنا بدم بارد، مذابح دائمة ترتكب بحق شعبنا، إجرام متواصل وسن المزيد من القوانين العنصرية ضد الفلسطينيين في 48 وفي الضفة العربية. غزة ما زالت محاصرة منذ سنوات طويلة، دعوات إسرائيلية لترحيل أهالي منطقة 48 إلى الضفة والقطاع، عنصرية كريهة تمارس ضدهم، اغتيالات، اعتقالات متواصلة حتى للشيوخ والنساء والأطفال منهم، سرقة أراضينا ومصادرتها في عمليات الاستيطان التي لم ولن تتوقف، تكسيرعظام شبابنا، تهجيرهم من وطنهم فرادى وجماعات بشكل مستمر منذ عقود طويلة من دون توقف. مجازر كثيرة ارتكبت بحق شعبنا منها، دير ياسين، كفرقاسم، الطنطورة، مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل وغيرها. وراء كل مجزرة، تحاكم إسرائيل (إعلاميا) مرتكبيها بغرامات مالية ( قدرها قرش واحد مثل الحكم على الضابط شيدمي) أو تتهمه بالجنون. منذ أشهر، صادق الكنيست على قرار يمنع العفو عن الأسرى الفلسطينيين، أو تخفيف الأحكام عنهم. كما يجري اعتقال الكثيرين من ابناء شعبنا وتوقيفهم، مددا طويلة بموجب قانون وحشي من مخلفات الاحتلال البريطاني وهو «القانون الإداري». كل هذا غيض من فيض جرائم وموبقات ووحشية الاحتلال والمستوطنين ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في كل المناطق الفلسطينية المحتلة، عام 48 وبعد عام 67… وحتى اللحظة. أبعد كل ذلك، يستغربون قيام البعض من الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال؟ ماذا ينتظر جنود الاحتلال والمستوطنون المنفلتون من عقالهم، من شعبنا؟ أينتظرون لافتات نرفعها ترحب باحتلالهم وقمعهم؟ أيريدون أن نرمي قوات احتلالهم ومستوطنيهم بالورود؟ غريب والله أمر هؤلاء الصهاينة.
ما أصعب الكتابة عمّن مضوا شهداء وما زلت تعتبرهم أحياء! لعله العقل يرفض التصديق، فأنت تحس بأنهم موجودون، ولعلّهم بألقهم يفرضون حضورهم عليك وعلى الآخرين، ولعلها النهايات التي ترفض تصديقها، ولعله الاختلاط بين ما هو واقع، وما تود أن تراه باعتباره متخّيلاً… كل ذلك يحتل ركناً كبيراً في الوعي. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار. النصر لشعبنا وأمتنا. الخزي والهزيمة للعدو. شهيدنا الفلسطيني يمضي… يزرع ضوءه في عتمة الليل، مضيئا لآخرين يستكملون طريق الحرية. شهداء خرجوا ويخرجون من دمائهم… يحاولون الوفاء لعهد الأرض، يمتشقون أجسادهم.. يخترقون الأسوار.. يجتازونها رغم الصعاب.. يزرعون التضحية وردا لاجيال فلسطينية أخرى ستأتي. هكذا الفلسطيني ينزرع في قضيته تاريخا.. حاضرا ومستقبلا، فهو باستشهاده يؤسس لولادة جديدة.
التعليقات مغلقة.