حسين مروّة الأب والرفيق والحبيب / ريم الخطيب

ريم الخطيب  ( لبنان ) الإثنين 19/2/2018 م …
* الصورة للمناضل الشيوعي الراحل الشهيد حسين مروّة




كان بيت بحجم وطن، تشعر حين تدخله للوهلة الأولى أنك في صفحة تاريخ دسمة لا تعرف من أين تبدأ فيها.
الجدران كانت تحمل صوراً و معانٍ، كأنها الصف الأول من مظاهرة شيوعية. من الغرفة المجاورة “صوت الشعب” يصرخ متعالياً على أصواتنا. جلست هناء مروة وأنا في غرفة لا تتعدى ثلاثة أمتار وألف فكرة، فهنا قد سبق وإجتمع الرفاق وخطتوا وضحكوا وتناولوا الكتب طعاماً. وهنا جلس من أعطى للفكرة قيمة يوماً، هنا جلس قبل كل الضحكات والأفكار المناضل الشهيد حسين مروة.
أرادت هناء يومها أن تحدثني عن الجانب الخفي من المناضل، الجانب الذي يُخفى ربما في الجبهات والاجتماعات أو على المنابر. أرادت أن أستحضر رائحة حسين الأب الذي عاد بتسعة أولاد من العراق مع فكر ماركسي، وضحكة لا متناهية ليستقل في منزل في بيروت سمي يوما “ببيت الأمة”. تقول هناء أن أسرتها قد طورت مفهوم البيت الذي نعرفه كمطبخ وصالون ووسادة نغفو عليها ليلاً، ليصبح البيت ملجأ العائلة ونزلاً لشباب الجنوب وكباره. كان منزلهم يحيا بمئتي ليرة وتدبير امرأة، فيما الليل لم تهمه هذه التفاصيل حين كان يجمعهم حسين حوله ليمزح ويعيد الحيوية للحياة، حتى أنه في كثير من الأحيان كانت تنتهي الليالي بحسين يرقص ويغني ليعود ويستقبل الجدِّ مع إستقبال الشمس. لم يستغل حسين مروة في حياته إلّا الوقت، فكانت هناء تعود من جامعتها لتستقبلها إجتماعات أبيها الفكرية والثقافية والا٦دبية. حين كانت تنتهي، كان يعود لأحضان مكتبه يكتب مقالاً أو فكرةً أو ربما يقرأ كتاباً.
نكمل نحن النقاش مع غصات هناء التي لم يفصل بينها سوى دموع خفيفة لتخبرنا عن الرسائل التي وصلتها منه أثناء سفرها إلى الاتحاد السوفياتي لتتابع تحصيلها العملي، “لم يساعدني في سفري، لكنه ساعد كثراً” تقول هناء ضاحكة. في الوقت الذي لم يكن يُسمحُ للفتاة بأن تدخل المدارس، كان حسين مروة حريصاً على طموح هناء، حتى ولو كانت تبعد بلاداً وأنهاراً وسنيناً.
يقول محمد دكروب، الرفيق المقرب والصديق الأعز لحسين مروة، بعد إستشهاده “ما زلت أشعر بحرارة يده في كفي الممتلئ شحماً”. ففي لقائهما الأول في محل عمل دكروب أصر حسين على أن يسلم عليه ويصافحه ويده شحماً.
ثم تكمل هناء حديثها عن أصدقاء أبيها الذين لم يقتصروا على أي فئة محددة أو عمر محدد، فكان يزوره الرفاق جميعاً، من جورج حاوي ومهدي عامل ومحمد دكروب، الى ليندا مطر وسيرين رعد وجورية. حتى أن طلابه كثيراً ما كانوا يترددوا الى منزله بعد إنتهاء الدوام. تصر هناء أنه “لم يكن مثالياً بل واقعياً الى أبعد الحدود”، كان رجلاً مناضلاً، وله شخصيته الخاصة التي فرضت إحتراماً على كبار المشايخ ورجال الدين، الذي إعتنق عدد كبير منهم الشيوعية بعد جلسات مع مروة لم تتسم إلُا بالاحترام وتخاطب العقل. زوجته كانت سافرة لكنه كان يطلب منها أن تضع “اشارباً” صغيراً على رأسها حين تزور الأقارب أو في حضرة المشايخ. هذه الزوجة التي لم ينسها بأي رسالة شكر قدمها للحزب، و لم يتوان عن ذكر فضلها وولائها له في كل مراحل حياته.
تقول إبنته هناء أنه كان رومنسيٌّا من الدرجة الأولى، وتصف رسائله التي وجدتها في حقائب أمها بال “مش طبيعية”. فقد كان يحرص دائماً على راحتها وسعادتها وتقديرها كمناضلة قبل زوجة، وكرفيقة قبل كل شيء.
“لم يطلب منا مرة أن نقرأ مقالاً له أو كتاباً” وفي نظر هناء كان هذا أكبر خطأ إقترفه لأنه افسد عليهم فرصة أن يصبحوا مثله، لذا تقول هناء مبتسمة “لا لا ما عرف يربينا”.
أكملنا وصوره على الجدران كانت تطالبنا بالحديث عن الفاجعة، وصوت الراديو كان يعلو بين الحين والآخر ويقول “الآن”. أخذت هناء نفساً عميقاً وحدثتني عن الفاجعة، عن النهار الذي إنتصر فيه الحزب الشيوعي على حركة أمل في معركة في الوتوات، وأحب شهيدنا أن يشرب “كاس النصر”، فصعدت هناء الى منزلها تاركة إبنها كريم يدرس في بيت جده، وأهلها مستلقون بعد الغداء، وقد نبهتهم ألا يفتحوا الباب أو يغادروا المنزل، لكن أهم ما تركَتهُ ذاك اليوم كان موعداً مع أبيها على الرابعة لاكمال الكتاب الذي سبق ووضع له حسين رؤوس أقلام وأفكار. بعد وقت تواصل كريم مع أمه ليخبرها بأن رصاصة قد أصابت الحائط تحت زجاج المكتب، فطلبت منه أن ينتقل إلى الكنبة ويكمل درسه. لم يستغرق الوقت طويلاً حتى صعد كريم إلى البيت ليدخل الحمام لأنه خاف أن يزعج جدّه و جدّته، و بعد مشادة كلامية دامت خمس دقائق بين كريم وهناء قاطعتهم جارتهم، والتي تنتمي إلى عائلة ماركسية، لتخبرها أن “عمو أبو نزار واقع على الأرض و نزلو دم”. في البداية ظنت هناء أن أباها قد إصطدم بالخزانة وسقط أرضاً مما تسبب بالدماء أو ربما هذا ما تمنته. حين عادت هناء إلى بيت أهلها وجدت أباها مستلقياً على ركبتي أمها وسط بقعة من الدماء، وأمها كجلمود نحته الصمت. أخبرتها أمها بأنه قد دقَّ الباب، وصوت الناطور ناداها من خلف الباب “أم نزيه إفتحي”، و حين فتحت الأم وجدت رجلين إحداهما مسلح والآخر مدني، أوهماها أنهما يريدان “أبو نزار بموضوع مهم”، حتى أن الرجل المسلح وضع سلاحه جانباً ووقف خارجاً ليدخل المدني إلى غرفة النوم ويوقظ حسين مروة بهدوء وحنية، ثم أوقفه وأوصله إلى جانب الخزانة. فظنت الأم أن حبيب صادق وهو أحد الأصدقاء المقربين لحسين مروة، يريد أن يوصل له رسالة. قد طلب منها الرجل أن تغادر الغرفة مراراً ولكنها رفضت بحجة أن زوجها وحبيب لا يخفيان عنها شيئاً، فسحب المجرم سلاحه وأطلق النار على حسين بسلاح كاتم للصوت. دخلت الرصاصة أذنه وخرجت من رأسه، وإستقرت في حائط الغرفة (و لا زالت حتى اليوم) ثم رمى المجرمُ الشهيدَ على زوجته و قال لها “إسْتلَقْي”.
لم تتوان هناء عن مناداة أولادها لرؤية جدهم المناضل المفكر جثة هامدة، أرادت كما تقول أن تزرع الحقد في قلوبهم. لم تبكِ هناء ولا أمها بكت، حتى أتى الليل وبقيت هناء وراء مكتبها تكتب للنداء وتنحب .
لن تقول هناء للمجرم شيئاً في حال قابلَتْه اليوم، لأنه أداة جرم، والمخيف هو المخطط. لكنني رحلت عنها وعن ذاك البيت العابق برائحة النضال الزاكية، وروح الفكر الخالدة. رحلت ورحلت عن مسامعي “صوت الشعب عم يسمعك عم يفهمك..” و مضيت أفكر إلى متى نترك كتبنا تموت قبل الولادة؟ والى متى نقابل الأداة في الطرقات ونبتسم لهم ونحن نعلم أنهم إحتمال “مجرم” جديد ل “حسين مروة” جديد؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.