مــوطــنــي… مــوطــنــي … وحنين لا يداوى… / غسان صابور

 

غسان صابور ( سورية ) الأحد 3/5/2015 م …

كنت عائدا لبيتي البارحة مساء حوالي الساعة الثامنة مساء, ولما وصلت قرب فندق رخيص, بلا أية نجمة, تواصل إلى سمعي من إحدى النوافذ, بصوت خافت يسمع كأنه آت من بعيد.. نشيد موطني, والذي سمعته مسجلا بكنيسة اللاتين في مدينة اللاذقية من مدة سنة بعد أن أرسله لي صديق عتيق مقيم مثلي بمدينة ليون بفرنسا… لم أتابع سيري, ودخلت إلى الفندق, وسألت المسؤول عن الاستقبال : إن كان لديه زبائن سوريين. فأجابني نعم.. واعطاني رقم الغرفة. فصعدت إلى الطابق الأول. وكانت هناك عائلة لاجئة سورية. أم وأربعة أولاد فتاتان وصبيان. أعمارهم من ستة سنوات حتى سبعة عشر عام. والأب باق في سوريا. لأنه بانتظار حصوله على تقاعده بعد أقل من سنة. وكان الأولاد هم الذين يسمعون اغنية موطني. وكلهم لاجئون سوريون, مثل عشرات العائلات السورية التي تصل بأشكال متفرقة مختلفة, نظامية أو غير نظامية… علما أن السلطات الفرنسية الفرنسية كانت شحيحة مترددة جدا بفتح الأبواب للاجئين السوريين, خلافا للإعلانات الدعائية ذات المظاهر الإنسانية التي يطبل ويزمر فيها الإعلام الرسمي بهذا المجال… وفرنسا تبقى في الدرجة الخامسة أو السادسة باستقبال اللاجئين السوريين, خلال السنتين الأخيرتين.. ورغم تــأزم الأحوال وخطورتها على الأرض خلال الأشهر والأيام الأخيرة… وهذه العائلة موجودة هنا من شهرين… بانتظار جواب نهائي لقبول لجوئها. ومن المنتظر أن تحصل على بطاقة إقامة تفتح لها مجالات واسعة من المساعدات, مدتها مبدأيا حسب التحقيق الذي تجريه السلطات المختصة معها, من سنة أو عشرة سنوات. حسب قصتهم العائلية وحسب البلد أو القرية السورية التي أتوا منها, والأخطار الحقيقية التي أحاطت بهم. واضطرتهم إلى مغادرة البلد, بعد أن باعوا كل ما يملكون, حتى تمكنوا من السفر بهذا العدد. مع صعوبات الفيزا.. وغلاء أسعار بطاقات السفر.. وعن أي طريق.. وخاصة نــوعــيــتــهــا…

طلبت الاستماع إلى النشيد مع الأولاد من مسجلة حملوها معهم. ولم أطلب منهم أية تفاصيل عن كيفية وصولهم. واكتفيت بإعطائهم بطاقتي التي تحمل عنواني وأرقام هواتفي. وعرضت عليهم إن كانوا يحتاجون لأي شـيء, بعد أن أخذت اسـم الزائرة الاجتماعية التي تهتم بهم, حتى أتصل بها مستفسرا عن نتائج ما يلزمهم من مساعدات, ووصول الأجوبة الإدارية التي ينتظرونها, حتى أرافقهم للترجمة أو غيرها… وسوف أترك لزوجتي بقية الاهتمام الاجتماعي والعلاقاتي مع حاجاتهم…

موطني… موطني… يا جراحنا المتعبة.. أصبح أهل بلدي مشردين.. من كان يصدق أن آلامه وجراحه وهمومه ومشردوه.. سوف تثير عندي بهذا البلد الفرنسي الذي قصدته باختياري, طلبا للآوكسيجين.. وهربا مما تنبأت أنـه لا بد يوما أن يحدث, كما يجري اليوم.. من نكبات وأمراض وخراب وتفتت وتفسخ وانهيار… وأن النوستالجيا التي ظننت انني شفيت منها منذ أكثر من نصف قــرن.. سوف يعيدها إلي نشيد تعلمته أيام فتوتي باللاذقية من أيام قديمة بعيدة.. ولما سمعته للمرة الثانية في العام الماضي.. بكيت وبكيت.. لا من هجرتي.. ولكن لما رأيت وسمعت جيراني بقلب كنيسة اللاتين باللاذقية ينشدون موطني موطني, بدلا من صلاتهم.. تشنجت عروقي.. وبكيت بألم جرح حقيقي على هذا البلد الذي تغتاله أشباح سوداء قادمة من كل غابات العالم…

ولكنني هذه المرة أخفيت ألمي وشجعت هذه العائلة السورية اللاجئة, خافيا مشاعري حتى الشارع…

مدينة ليون, وغيرها من المدن الفرنسية, كما العديد من المدن الأوروبية, وخاصة الاسكندنافية, ورغم أزمات البطالة والآزمات الاقتصادية الظاهرة, ما زالت تستقبل يوميا مئات اللاجئين السوريين, اختيارا أو اضطرارا… حيث توزعهم المؤسسات الاجتماعية المسؤولة, على فنادق محجوزة لهذا الخصوص, أو مساكن شعبية, غير مأهولة, أو تهتم بهم مؤسسات كنسية مسيحية حسب قدراتها المحدودة, بلا أي تمييز طائفي على الإطلاق.. بانتظار أن تهتم بهم مؤسسات الدولة الرسمية بشكل نهائي, وجميع العاملين هنا بمجالات اللاجئين, تبقى أولى اهتماماتهم بالأولاد وإيجاد حلول لإيجاد المدارس الضرورية والمناسبة لهم…قبل كل شيء.

هؤلاء اللاجئون الذي يجلبون انتباهي واهتمامي غالبا, لا يشبهون عشرات أو مئات اللاجئين ” الــكــافــيــار ” الذين وصلوا بفيزا رسمية مفتوحة, دون حاجة لسكن, لأنهم يملكون فيللات مفروشة من أزمنة بعيدة.. وحساباتهم بالبنوك الأوروبية تحمل غالبا ستة أو سبعة أصفار بعد الرقم اليميني الأول.. هؤلاء لم يتغير أي شـيء بحياتهم.. ما عدا انتظار الخادمات الفيليبينيات أو السيريلانكيات!!!… وعنهم يوما سوف أخصص عدة مقالات.. أو مسرحية كاملة… وكلي قناعة أن هؤلاء لا يعرفون كلمات نشيد “موطني موطني”… ولا يثير الوطن عندهم أي اهتمام… سوى أسعار الدولار أو الأورو لتقييم ما تبقى من ممتلكاتهم هناك… أو انتظار الفرص المناسبة للعودة .. لمتابعة تجاراتهم, مهما تغيرت الأوضاع والأنظمة.. لأن طبيعتهم الحربائية التجارية والرأسمالية المعتادة, تنخرط مع جميع الأنظمة مهما كان لونها… حتى الأسود المعتم الأبدي!!!…..

***********

علـى الـــهـــامـــش :

ــ احتفل البارحة يوم أول ايار 2015 بكل العالم (الــحــر) بعيد العمال العالمي… ما عدا ــ طبعا ــ ببلاد النفط العربانية.. حيث تمنع كل هذه التظاهرات العمالية وشعاراتها. وحيث لا توجد أية نقابة تطالب عن حقوق العمال الأجانب الذين يعيشون ظروفا وشروط عمل لا تليق بالبشر. على علم وسمع ونظر العالم كله. ولكن لا جمعيات حقوق الإنسان تهتم بهم ولا حتى حكوماتهم. وذلك رغم موت العديد منهم بشروط عمل خطرة, تودي بحياتهم, كما يعيشون (ببراكات) تنكية لا تليق حتى بالحيوانات. دون أن تتدخل أية من المؤسسات التي تراقب شروط العمالة الأجنبية. لأن هذه البلدان والحكومات التي تديرها لا تأبه أبدا لكل ما يتعلق بحقوق العمال الأجانب الذين يعملون في مشاريع البترول أو بمشاريع البناء, معرضين لكل الأخطار, وبأجور متدنية.. بعيدة كل البعد عن الرواتب الباهظة التي تدفعها هذه الممالك والأمارات والمشيخات البترولية العربانية للموظفين الإنكليز أو الأمريكان…

ولكن بدأت الشكاوي, نظرا لتعدد الأخطار وطوارئ العمل التي تصيب هذه العمالة الفقيرة بهذه البلدان التي أشير إليها.. تصل إلى بعض الصحف والنقابات الأوروبية التي بدأت تحقق بالأمر, محاولة نقل هذه الظروف التي تعيشها هذه العمالة الفقيرة إلى مسؤولي مكاتب العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة…

ولكنني أتساءل أن كانت هذه المؤسسات الإعلامية, أو هذه الجمعيات الإنسانية, سوف تحاول التدخل للدفاع عن العمال الأجانب ــ أخيرا ــ حقا بدوافع إنسانية فقط.. أم ورقة إضافية ــ خدمة لحكوماتها وشركاتها التجارية ــ لمفاوضات بترولية جديدة؟؟؟!!!……………

بـــالانـــتـــظـــار…

للقارئات والقراء الأحبة الأكارم.. هـــنـــاك وهـــنـــا.. وبكل مكان في العالم.. كل مودتي ومحبتي وصداقتي واحترامي ووفائي وولائي.. وأصدق تحية طيبة عاطرة مهذبة…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.