الساسة وواجباتهم / إيلي أنطون شويري
إيلي أنطون شويري ( لبنان ) السبت 3/3/2018 م …
ما يدفع الساسة الى إعادة ترشيح أنفسهم للإنتخابات النيابية هو، في الدرجة الأولى، طموحهم وحبّهم للمغامرة والشهرة والعظمة والمال والسلطة. خدمة الشعب هي في آخر سلّم اهتماماتهم، في حال قدروا على إقناعه مجدّدا (بالكلام المعسول وبالمال) بإعادة انتخابهم ونجحوا في سعيهم، كما نجحوا في الماضي.
الساسة، خاصة في مرحلة التحضير للإنتخابات، يفعلون أي شيء لنيل رضى الشعب عليهم وتأييده لهم لكي يصلوا الى هدفهم، فيتقنون فنّ التملّق والرشوة بالكلام اللطيف والمساعدات المالية السخية (من الدول المعروفة المموّلة لهم)، والوعود المستحيلة، وفنّ تصنّع مسلك التواضع، والمحبة، والفهم، والصدق، وعمل الخير، وفنّ تقبيل الخدود والأيدي، وطلب رضى الشعب وبركته حتى السجود له والتوسّل إليه. أجل، يفعلون أي شيء إلا تقديم برنامج واضح وواقعيّ عن مشاريعهم حين يَصِلون إلى المجلس النيابي.
هذه هي مهزلة الديمقراطية التي تتكرر كل أربع سنوات في وطننا. الساسة لا يحاسبون أنفسهم أبدا عما فعلوه في الحكم، ولا يقدِّمون أيّ تقرير لإنجازاتهم كي يحاسبهم الشعب. والشعب الذي يقضي وقته بالتذمّر والشكوى كل يوم، لا يسألهم أبدا ماذا فعلتم، ويعيد انتخابهم من جديد، في حفلة تكاذب جديدة.
لم يواجه الشعب، يوما، الساسة، بلائحة مطالبه الحَيَوِيّة ليلاحقهم على أساسها ويحاسبهم، ويحكم عليهم بحسب فشلهم أو نجاحهم في تحقيق المطالب، ويحدّد موقفه منهم في الإنتخابات المقبلة. هذا واجب على الشعب فعله وحقّ له. وهو مقصّر في تأدية واجبه وفي المطالبة بحقّة. وأيضا، لم يعطِ الشعب، يوما، الساسة، لائحة كاملة بمطالبه وبواجباتهم تجاهه ليدرسوها، ويستنيروا بها، ويلتزموا بها، ويحاسبهم على أساسها.
وإذا كان الإعلام هو لسان الشعب وفكره، فهو، بمعظمه، في الحقيقة، موجَّه من مراكز التمويل عينها في الخارح، ويخضع، دون أي خجل، تماما كحلفائه الساسة، لتوجيهات هذه المراكز، ويخدم مصالحها لا مصالح الشعب اللبناني “العليا”. وقد بدأ سفراء وأشباح هذه المراكز، بكل حرية ودون أي اعتراض من الدولة، على زجّ أنوفهم، كالمعتاد، في شؤون الشعب اللبناني، يجوبون أرجاء الوطن اللبناني بحثا عن عشاق المال المعروفين من موجّهي الرأيِ العام وزعماء القرار الوطني في الإنتخابات اللبنانية القادمة. وقد وجهوا دعوة ودّية جدا لبعضهم لزيارة جنّات نعيمهم حيث تجري من تحت هذه الجنات أنهار المال. كل هذه النشاطات العلنية هدفها واضح وضوح الشمس، ألا وهو إضعاف المقاومة اللبنانية في معركة الإنتخابات النيابية بعد نجاحاتها الباهرة في كل المعارك التي خاضتها ضدّ العدو الصهيوني وإرهابيّيه في لبنان وسوريا.
إننا دائما نفترض ونعتقد، ونحن نفكر بطريقة مثاليّة نسعى الى تحقيقها في الواقع، بأننا شعب واع وحيّ وذكيّ بأكثريته، له مبادىء ثابتة وقوية يعرف بموجبها وبوحيها كيف ولماذا ومن يختار ليمثله في الحكم، ويعرف كيف ومتى يراقبه ويحاسبه. ولكنّ الواقع يأتي مختلفا كليا عن افتراضنا واعتقادنا المِثاليَّيْن.
قليلون جدا هم الذين يحسنون، بكل وعي وتجرّد واقتناع ودون رشوة، إختيار ممثليهم الصالحين، النادرين، في الحكم، ولا يتعدّى هذا الإختيار في معظم الأحيان صندوق الإقتراع، إذ إن هؤلاء الصالحين النادرين، المتحرّرين من غرائز التعصّب على أنواعها، ومن أي ارتهان لقوى السياسة والمال في الداخل والخارج، لا ينجحون في الوصول إلى الندوة النيابية.
وكثيرون جدا هم الذين لا يحسنون الإختيار، وفي ظنّهم أنهم يحسنونه، ولكنهم يوصلون الى الحكم من يشاؤون لانهم أكثرية، والأكثرية، في الديمقراطية، هي التي تقرِّر. وهل الأكثرية يا ترى هي دائما على حق وصواب في اختيارها؟ لا، حتى في الأنظمة الديمقراطية المتطورة. فهي، أي الأكثرية، مرهونة دائما لغرائزها وعواطفها أكثر مما هي مرهونة لعقلها، وتقع بسهولة تحت تأثير وسيطرة مراكز المال المعروفة، التي تجنِّدُ الإعلام والساسة من أجل مآرب السيطرة والإستعباد، كما يحصل في ما يُسَمَّى بالديمقراطيات الكبرى. ونحن، شعبا وساسة، نقلِّد هذه الديمقراطيات بكل ما تنتجه في هذا المجال.
إن وَعْيَنا للديمقراطية وممارستَنا لها، شعبا وساسة، ناقصان جدا. الواقع التعيس المستمرّ الذي نعيشه في هذا الوطن، منذ الإستقلال حتى اليوم، أبلغ دليل على ذلك. من ثمارهم تعرفونهم:
يكفي أن نذكر هنا، مثلا، أزمة الحكم المزمنة، الملازمة لوضعنا السياسيّ حتى الساعة، والتي تكاد دائما تعرِّض الوطن عبر تاريخه للتفتيت والزوال، ألا وهي صعوبة الحوارات الصادقة الدائمة بين ممثلي أبناء الوطن الواحد،
وعدم القدرة على إجراء إنتخابات نيابية أو انتخاب رئيس للجمهورية دون تدخل الخارج بكل قواه المالية والمعنوية والإعلامية لتغليب فريق على فريق آخر،
وعدم قدرة مجلس الوزراء على الإتفاق على آلية سليمة ثابتة لممارسة الحكم.
يمكننا أن نضيف إلى ذلك كل المشاكل الإقتصادية والإجتماعية والنفسية والبيئية والصحية والأمنية التي يعاني منها الشعب اللبناني بسبب ساسة لا يعرفون معنى الواجب ولا يهمّهم أمره، ولا يتفقون أبدا من أجل خدمته، بل هم يتفقون فقط من أجل نتف ريشه ومصّ دمائه.
إن الديمقراطية التي نتغنى بها، ما معناها، وما نفعها، إن كانت على هذا المنوال؟ وهل نستمرّ في خداع أنفسنا، الى ما لانهاية، بأننا بخير، وبأننا لا نشكو من أية علّة أو أي نقص أو عيب، وبأننا في حال هي أفضل بكثير من غيرنا، وندّعي أننا شعبٌ راقٍ، وقويّ، ولنا ماضٍ عريق، ونحن لسنا في الحقيقة راضين لا عن ماضينا ولا عن حاضرنا ولا عما يخبئه لنا المستقبل، ونحن خائفون حتى العظم من المجهول؟
ماذا عندنا في واقعنا “الديمقراطي”؟
عندنا، من جهة، شعب يفرح بأنه مارس حقّ انتخاب ممثليه في الحكم لكي يخدموه بالمشاريع العمرانية ويحسّنوا معيشته وحياته، ويحموا مصالحه الحيوية، ويدافعوا عن الوطن ويحفظوا كرامته، ويجعلوه يطمئنّ إلى مستقبله ومستقبل أبنائه.
وعندنا، من جهة أخرى، ممثلون عن الشعب يقضون أربع سنوات في الحكم في حالة غياب تام عن الشعب، وفي حالة تفتيش دائم عن أمجادهم الشخصية، وعن تجديد ولايتهم وحصانتهم، وزيادة رواتبهم، وعن أبواب جديدة للإثراء السريع المشروع وغير المشروع. وهم دائما منهمكون في سفر استجمام وسفر عمل شخصي وتشاور مع حكومات الخارج، وفي زيارات سرّية للسفارات في الداخل. وهم يقيمون حفلات ارستقراطية مُكلِفة، تجمع كل الناس من ذوي المال والسلطة، باستثناء أبناء الشعب الذي انتخبهم. وهم يجهدون أنفسهم لإتقان بعض الكلمات والجمل والتعابير البليغة، منها عربية ومنها أجنبية، للدلالة على عمق ثقافتهم، يقولونها في أحاديثهم وإطلالاتهم الإعلامية من وقت إلى آخر، بحسب المناسبات. وفوق ذلك كله، ومع ذلك كلّه، فهم كلهم أمل، وأمل وطيد لا يتزعزع، بأن الشعب يحبّهم كثيرا ويؤيدهم بقوة، وهو سوف يعيد انتخابهم من جديد.
فَلْنَعُدْ الى مثاليتنا في التفكير والتصوّر، أو بالأحرى، إلى عالم حلمنا الجميل. ما عسانا نجد، نحن أبناء الشعب، من واجبات على الساسة أن يعوها ويتبنّوها ويعملوا بها، نعلنها لهم بوضوح قبل أن ننتخبهم؟
في الحقيقة، إن السياسيّ الكبير بأخلاقه وتفكيره، والنادر الوجود، لا يحتاج إلى من يعطيه دروسا في الأخلاق والوطنية. والسياسيّ الصغير بطبعه وتربيته، لن يدخل في رأسه أي شيء حسن وصالح.
ولكن، لا بأس من تذكير من لهم أذنان سامعتان، وهم قلة، ببعض واجباتهم الأساسية، وأيضا مدّعي الطرش، وهم كثرة:
خدمة الشعب هي الواجب الأوحد والأهم من خلال تلبية حاجاته المعروفة من ضمان سلامه و أمنه وأمانه، وبناء جيش قويّ جدا بعديده وعدته، وقضاء عادل حرّ غير مرهون لمزاج ومصلحة الساسة وحلفائهم الأغنياء، وضمان بيئة نظيفة وغذاء سليم ومياه غير ملوثة، ولباس ودواء واستشفاء وتعليم وسكن وعمل، وشيخوخة، وإعلام مسؤول حرّ، ومواصلات سهلة، واتصالات غير مكلفة، وبكلمة واحدة، ضمان حياة كريمة، شريفة، حرّة، مستقلّة، سعيدة، للشعب اللبناني بكل أعماره وطوائفه. واجب الساسة أن يبذلوا كل جهد ممكن لكي يؤمِّنوا كلّ ذلك قدر الإمكان.
واجب الساسة أن يعطوا كل وقتهم لا بعضه من أجل خدمة الشعب في كل المجالات والحقول. واجبهم أن يقضوا، بشكل متواصل، وقتا كافيا مع الشعب، ينصتون إلى شكواه ومطالبه وهمومه، وأن يفضِّلوا رفقته المتواضعة والتمتع بالجلوس معه إلى موائده البسيطة والبقاء بقربه، على رفقة ذوي النفوذ والغنى والتمتع بمآدبهم الفاخرة و”مَكرُماتهم” السرية والعلنية لغايات هي دائما مشبوهة، لا خير للشعب منها.
واجب الساسة أن يكونوا دائما متواضعين، صادقين مع أنفسهم ومع الشعب، مخلصين له وحده لا لحكومات الخارج، غير ناكرين لجميله وهو من صَنَعَهُمْ، فلا وعود كاذبة له، ولا مدائح فارغة، ولا خداع، ولا استغفال، ولا تجاهل، ولا استصغار، ولا خيانة له مع حكومات الخارج الثرية الخبيثة، ولا تدجيل عليه ولا تكبّر، ولا مؤامرات ضدّه، ولا زرع فتن بين صفوفه وتفرقته، ولا صفقات بإسمه وعلى حساب كرامته ووجوده ووحدته وسعادته.
وأما الشعب، فلا شيء يُثْبِتُ بأنه يُحسن الإختيار بأكثريته، والبرهان الساطع على فشله الدائم في اختيار ممثليه وفي إعادة انتخابهم، هو إنتاجه الدائم، أبا عن جدّ، لمجالس نيابية فاشلة، منذ الإستقلال حتى اليوم، في إدارة شؤون الوطن إدارة جيدة، سليمة، باستمرار. إن تراكمات هذا الفشل الذريع والمريع على مرّ السنين، قد أوصل الشعب البناني إلى حالة التشرذم والضياع والقلق والتخبط والقهر التي يعيشها اليوم. إنها حالة قد تعوّدها الشعب، على ما يبدو، وهو في الوقت عينه يرفضها، ولكنه، بأكثريته الساحقة، لا يحاول أو بالأحرى لا يريد أن يغيّرها بتغيير ممثليه في الحكم، لأسباب نفسية وعائلية وطائفية تافهة، غير أنها تكبّل عقله وإرادته.
وأما الأقلية الواعية المتحرِّرة من أية عصبية، ومن أية ارتباطات سياسية ومالية مشبوهة بقوى إقليمية وعالمية قد أثبتت أنها لا تضمر الخير للوطن، إن وُجِدَت، فهي تبقى مرفوضة في بيئة إنسانية ودينية وسياسية متعصّبة، متحجرة الفكر والقلب ومشلولة الإرادة، وتبقى مُحْبَطَة وعاجزة ومقهورة بسبب وضع لا يتغيّر أبدا، هو دائما أقرب الى ديكتاتورية التسلط والتعصّب والعنصرية والكبت والجهل والكبرياء والباطنية والخبث والإذلال وانعدام الأخلاق، منه إلى جوّ الديمقراطية الصادق، الحرّ، العادل، المريح للشعب.
ما العمل يا ترى؟
في جوّ غياب روح الواجب الحقيقية الصادقة عند معظم ممثلي الشعب اللبناني في الحكم، فإنّ وعيَ حقائق الواقعِ المحزن، الذي نعيشه، والإقرارَ بها، هما السبيل الوحيد إلى تخطي الواقع هذا، وتخطي ذواتنا بقوة الإرادة الشجاعة والوعي، وهما بداية الطريق المؤدي إلى الخلاص من حياة الذلّ.
إن تجديد الأمل بغد أفضل واجب.
إن عدم اليأس من الحاضر واجب.
إن خلق الوعي في نفوس الشعب، في عملية بناء شاقة وطويلة، هو من واجب النخبة الفكرية والروحية الصادقة القليلة في الوطن.
إن حوار نُخَب اللبنانيين الجيدة الواعية حول مشروع جديد وأسلوب جديد في تكوين وممارسة السلطة، واجب لا ينبغي تأجيله.
إن واجب هذه النخب هو واجب مقدَّس، وملحّ جدا، خاصة اليوم، والإنتخابات النيابية على الأبواب. إنه، بكل بساطة، واجب توعية الشعب على حسن اختيار ممثليه في المجلس النيابيّ الجديد، رغم كل ثغرات وفذلكات قانون الإنتخاب الجديد، والتركيز على وجوه جديدة مستقلة تحترم الدستور وتعمل ضمن القانون ولا تكسره، لها سجلّ نظيف واضح، معروف، في مجال خدمة الناس ومساعدة الفقراء والمحتاجين والمؤسسات الدينية والتربوية والخيرية والإجتماعية، دون مقابل ودون مِنَّة، ودون تطبيل وتزمير. واجب التوعية أيضا ينبغي أن يركِّز على عدم انتخاب ساسة معروفين باحتقار الشعب وإهماله، وتنكّرهم، دون أي وخز ضمير ودون أي حياء، لواجباتهم الإنسانية والوطنية، قد أُعْطوا أكثر من فرصة واحدة، حتى الآن، في الحكم، لخدمة الشعب والقضايا الوطنية، ولكنهم فشلوا. أجل، ينبغي على الشعب أن يعي خطر إعادة إنتخاب النواب الفاشلين أنفسهم على مستقبله. عليه أن يرفضهم بكل إحترام ومحبة وفرح، وأن يعطي الفرصة لآخرين.
في نهاية الأمر، على النُّخَبِ الجيدة الواعية أن تعلن حالة طوارىء في لبنان من أجل تلاقي جميع ذوي الإرادات الحسنة، للإسهام في شفاء الوطن الجريح، المريض، المتروك بين حيّ وميت على قارعة الطريق، وإخراجه من العناية الفائقة، وتخليصه، مرّة واحدة وإلى الأبد، من أيدي أطباء خبثاء، فاشلين، لا يريدون له الشفاء لأنه مصدر رزق وفير لهم، إن بقيَ هكذا مريضا في حالة نزاع دائم، لا هو يتماثل للشفاء، ولا هو يموت.
إن الشعب المقهور، الموجوع، اليائس، القرفان، المتعطِّش إلى خلاص على يد قائد حكيم، قويّ، متواضع، محبّ، صادق، نزيه، زاهد، يوحّده ويقود مسيرته العرجاء التي تَخْبِطُ خَبْطَ عشواء في دياجير ظلمة جهل الساسة وأنانيتهم وكبريائهم وغرورهم وأطماعهم وقساوة قلوبهم وقلة وفائهم، أجل، إنّ الشعب يَئِنُّ ويصرخ كل لحظة:
أين أنت أيها السامريّ الصالح؟
أين أنتِ يا نُخَبَ لبنان الجيدة، الموَحَّدَة؟
أين أنتم أيها الرعاة الصالحون؟
التعليقات مغلقة.