النصر الذي غيّر العالم ! / د.زهير أبو فارس
د.زهير ابو فارس ( الأردن ) الجمعة 8/5/2015 م …
حديث اليوم حول الذكرى السبعين للنصر في الحرب العالمية الثانية أو الحرب الوطنية العظمى، بالمفهوم الروسي، والتي خسر فيها الاتحاد السوفيتي 25-30 مليون انسان، وشنتها ألمانيا الهتلرية دون سابق انذار أو اعلان للحرب، بعد أن مهدت لها باحتلال اوروبا أولاً.
ولم تكن هذه الحرب الوحشية («خطة بربروسا») كغيرها من الحروب، لا من حيث القوات المستخدمة، ولا من حيث الدمار والمآسي التي خلّفتها على كافة الأطراف المشاركة، بل تحولت الى جحيم حقيقي بالنسبة لأوروبا والشعوب السوفيتية بشكل خاص، اختلط فيها الألم والمعاناة بالبطولات الأسطورية التي قلّ نظيرها.
لقد فوجئ الاتحاد السوفيتي بهذا الهجوم الألماني المباغت وغير المتوقع، والذي لم يشهد التاريخ القديم والحديث مثيلاً له، خاصة بوجود معاهدة عدم الاعتداء بين البلدين (معاهدة ريبنتروب – مولوتوف 23 آب 1939)، ، حيث دفع الألمان وحلفاؤهم في عدوانهم على الأراضي السوفيتية حوالي 5 ملايين عسكري، بقوام 190 فرقة، و4 آلاف دبابة، و47 ألف مدفع وهاون، و4500 طائرة و200 سفينة حربية، وقصفت الطائرات الألمانية في اليوم الأول من الحرب المطارات، ومواقع حشد القوات، ومحطات سكك الحديد، والمدن الكبرى، وغيرها من الأهداف العسكرية والاقتصادية الهامة في الجمهوريات السوفيتية : ليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا، وبيلاروسيا، وأوكرانيا ومولدافيا، وعلى امتداد الحدود من بحر البلطيق الى البحر الأسود.
وخلال حرب السنوات الأربع الرهيبة، استطاع الاتحاد السوفيتي، وعبر محطات هامة من الصمود والانتصار، في بريست، وكورسك، وسمولينسك، وحول موسكو، ولينينغراد، وستالينغراد، وغيرها، تغيير موازين القوى لصالحه؛ ما مكّنه من دحر الغزاة من كامل ترابه الوطني، اضافة الى تحرير اوروبا، وصولاً الى برلين، ورفع العلم السوفيتي فوق قبة البرلمان الألماني (الرايخستاغ).
والمعروف أن الاتحاد السوفيتي حاول مراراً، ودون جدوى، اقناع فرنسا وبريطانيا بتكوين حلف بينهم ضد الخطر النازي القادم، وقبل الحرب مباشرة، لكن نفورهم من فكرة «التحالف الكبير» ضد ألمانيا النازية حال دون ذلك. كما أن الحلفاء لم يدخلوا الحرب الا متأخرين، عندما أيقنوا أنها حُسِمت عملياً، وبالمفهوم الاستراتيجي، وان المانيا النازية على وشك الاستسلام. هذه هي الحقائق التاريخية الراسخة التي تعرفها أوروبا والعالم، والتي يعدّها الروس وشعوب الاتحاد السوفيتي السابق ثوابت لا يقبلون المساس بها او مجرد التفكير بالتشكيك في صحتها.
من هنا، تأتي حساسيتهم حول ما يشعرون أنه محاولات من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية لتغيير هذه الحقائق والتقليل من دور الاتحاد السوفيتي – القوة الأهم في حسم الحرب ودحر النازية وتحرير أوروبا والعالم من أخطارها، وهذا ما اعترف به السفير الأمريكي الأسبق في موسكو مؤخراً. وهذا تماماً ما قصده الرئيس الروسي بوتين قبل أيام بقوله: «إن المحاولات الوقحة لاعادة كتابة التاريخ من أجل تحقيق مصالح سياسية آنية غير مقبولة، بما في ذلك محاولات رد الاعتبار للنازيين وعملائهم». كما وصف بوتين هذه المحاولات بغير الاخلاقية والخطيرة للغاية، وتدفع العالم نحو نزاعات جديدة ومزيد من مظاهر القوة والعنف. ويبدو أن روسيا تريد اعادة الذاكرة الى العالم، والى أوروبا والولايات المتحدة تحديداً، من خلال اجراء أضخم استعراض عسكري في تاريخها في الساحة الحمراء في التاسع من مايو الحالي، في الذكرى السبعين للنصر على النازية، وبحضور عشرات القادة والشخصيات السياسية العالمية، على الرغم من مقاطعة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية لهذا الحدث، الذي يحمل العديد من المعاني والرسائل التاريخية.
ويعتقد الروس «أن الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا، والتي لم تحرك ساكناً تجاه بروز النازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، بل وحاولت توجيهها واستخدامها ضد الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، كان الفشل حليفها، عندما انقلب السحر على الساحر، حيث واجهت أوروبا أكبر المحن والمآسي والدمار في تاريخها، وبقيت امريكا كما هي دائماً، خلف المحيط بعيدة عن الدمار، أي أنها تورط حلفاءها وتحصل على النصيب الاكبر من الغنائم..(!)
وقد أثبتت الاحداث في منطقتنا صحة هذه الرؤية من خلال ما يجري في افغانستان، والعراق، وليبيا، وغيرها من المناطق، عندما توظف الدول العظمى قوى معينة لخدمة مصالحها، سرعان ما تنقلب عليها، وتخرج عن طوق السيطرة، لتنشر الفوضى والحروب، وما يرافقها من دمار ودماء لشعوب المنطقة، التي ستعاني منها ومن آثارها لعقود طويلة مقبلة.
إن الاحتفال بالذكرى السبعين للنصر على النازية تعبير عن انتصار قيم الحرية والسلام على التسلط والظلم والعبودية والحروب. وهي أيضاً، وفي الوقت ذاته، تذكير للبشرية بأن الجشع، وسياسات الهيمنة، وتنامي قوة وسلطة الاحتكارات، وغياب العدالة، وممارسات القوة، والحصار، والعدوان، كانت، وستبقى، الاسباب الحقيقية للحروب والارهاب، مما يستوجب توحيد وتضافر جهود القوى الخيرة لتوفير المناخ الملائم لبناء عالم أكثر عدلاً وأمناً واستقراراً، واحترام حقوق ومصالح الشعوب والامم، والانتقال من سياسات المواجهة والعداء، الى التعاون، لحل المشاكل الحقيقية التي تهدد البشرية وحضارتها.
وأخيراً، سيبقى النصر، الذي غيّر العالم، قيمة انسانية، وانجازاً عظيماً، لا أحد يملك حق العبث به والاساءة الى ذكرى وأرواح الضحايا والأبطال الذين صنعوه.
التعليقات مغلقة.