استراتيجية أمريكية قديمة أم جديدة؟ / د.فايز رشيد

 

د.فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 14/5/2015 م …

بداية، من الضرورة التأكيد على أن هذا الكم الهائل من المفكرين الاستراتيجيين، الذين يستعين بهم ساكن البيت الأبيض، رغم تعدد وجهات نظرهم في ما يتعلق بالسياسة الأمريكية في العالم وفي الشرق الأوسط، يشكلون قاسما مشتركا إن في تحديد الأهداف الإستراتيجية في المنطقة، أو في اقتراح النهح لتحقيق تلك الأهداف.

يتفاوتون بالطبع في اجتهاداتهم، لكنهم يجمعون على القواسم المشتركة، التي وُضع أساسها منذ بدء ظهور الولايات المتحدة كقوة كبرى عالمية. أيضا فإن الاستراتيجية الأمريكية بعيدة عن الجمود.. غير أنها تظل ف الدائرة المرسومة ي نفسها مسبقا.

لقد تنبأ بريجينسكي (أحد عمالقة الفكر الاستراتيجي على صعيد العالم) بانهيار الاتحاد السوفييتي! في كتابه الصادر منذ زمن بعنوان «أمريكا بين عصرين».

للأسف، صدقت نبوءة بريجينسكي الذي توقع أيضا، أن يكون الصراع مستقبلا في أوراسيا (الدول المحاذية للحدود الأوروبية – الآسيوية). لم يكن هو الأول الذي أكد على مستقبل للصراع كهذا، بل سبقه المفكر الاستراتيجي البريطاني هالفورد ماكندر، صاحب نظرية القلب أو النظرية المركزية- وهي الربط ما بين الجغرافيا والسياسة – الجيوسياسة، والمفكر نيكولاس سبيكمان. بريجينسكي في كتابيه «رقعة الشطرنج» و»خطة لعب» توقع أيضا صعود امبراطورية جديدة بديلة للاتحاد السوفييتي هي الصين. ومن اقتراحاته لتطويق الامبراطورية الجديدة: إحاطتها بحزام إسلامي يكون قادرا على التمدد. وفقا للكاتب الصحافي سليم مطر في مقالته: «قال لي الحكيم الأمريكي» التي يدوّن فيها اعترافات مفكر استراتيجي أمريكي (لم يذكر اسمه) يقول بلسان المفكر: «لقد استعنّا بكل تجاربنا السابقة، وبالأخص تجربة إنشاء ميليشيات في أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، تحت اسم Stay-Behind، التي نفذتها أمريكا في العالم والتي أطلق عليها اسم «الراية الخداعة « التي تعني قيام أمريكا بعمليات إرهابية ضد مصالحها، كمبرر لشن الحروب على أي دولة في أي منطقة من العالم.

يؤكد المفكر أيضا على السعي لهيمنة الإعلام الأمريكي على الصعيد العالمي. «فشل الإعلام الأمريكي … لا يجوز»، وفقا لرأيه.. يقول ذلك تأكيدا لما اعتبره ريغان: «أن الفشل الأمريكي في فيتنام كان بسبب الفشل في استعمال الإعلام».

من قبل، قال الزعيم البريطاني الشهير ونستون تشرشل عن نهج الولايات المتحدة ما يلي: «الأمريكيون ينتهجون الخطوة الصحيحة بعد تجريب كل الخطوات والأساليب الخاطئة». من الملاحظ خلال العقود الاخيرة أن الإدارات الأمريكية بدأت تولي مؤسسات الفكر والدراسات الاستراتيجية أهمية كبرى، هذا إلى جانب الحلول العسكرية – الأمنية بالطبع. من أبرز اللاعبين للأدوار الكبيرة في تحديد السياسة الأمريكية في منطقتنا، الصهيوني الأمريكي مارتن إنديك مدير «مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط»، و كذلك الصهيونية تمارا كوفمان مسؤولة «برنامج الإصلاح في العالم العربي». المركز تبنى شعارين في ما يتعلق بمنطقتنا: «إعادة التوازن في الشرق الأوسط» و»نحو استراتيجية بناءة للاحتواء في المنطقة». بناء عليه اقترحا خطوطا للاستراتيجية التي سنتطرق إليها تاليا. كيسنجر بدوره يدخل إلى المرتكزات الاستراتيجية الأمريكية، بتوقعاته التي سجّلها في كتابه «النظام العالمي»، الذي نشرت صحيفة «صنداي تايمز» مؤخرا مقتطفات منه. يقول عن أحداث المنطقة: إن ما يجري في الشرق الأوسط هو صراعات عنيفة، أكثر عنفا واتساعا من الحروب الدينية في أوروبا في القرن السابع عشر. ويستطرد..» فالدين بات يحمل السلاح». كيسنجر تنبأ أيضا في حديث أجراه مع صحيفة «ديلي سكيب» الأمريكية بأن «إسرائيل ستحتل نصف المنطقة العربية.. وأن الحرب العالمية الثالثة على الأبواب». إن الخطوط الاستراتيجية الأمريكية في ما يتعلق بالشرق الأوسط جرى تحديدها في عام 1947 بقرار اتخذه الكونغرس الأمريكي في عهد الرئيس ترومان (بعد أفول نجم بريطانيا) وعرف «بقرار فاندنبرغ»، وهو يدعو إلى انتهاج سياسية أمريكية معادية للشيوعية في الشرق الأوسط، على أساس الاتفاقات الجماعية (مع دول المنطقة) حيث أمكن ذلك، والعمل الانفرادي حين تدعو الحاجة. إعطاء الولايات المتحدة حق استخدام القوة حيثما تعتبر ذلك ضرورياً، حتى إن تنافض ذلك مع القانون الدولي المعاصر وقرارات الأمم المتحدة. أيضاً تسييد مبدأ الاحتواء والمبدأ الذي يرتكز على مفهوم توراتي وهو (من ليس معنا فهو ضدنا).

واشنطن غطت كل تدخلاتها في العالم بعناوين مثل «الاستجابة» لنداء المبدأ، «حق الشعوب في تقرير مصيرها»، تنفيذ مبادئ الرئيس ويدرو ويلسون الأربعة عشرة، التي أعلنها بعد الحرب العالمية الأولى وجعل منها أسساً للسياسة الخارجية الأمريكية. (هشام شرابي، المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأمريكا)

بعد إنشاء إسرائيل وبمساعدة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية، جعلت أمريكا من هذا الإنشاء ركناً استراتيجياً لسياساتها الخارجية في المنطقة، والمحافظة على الأمن الإسرائيلي أولاً وأخيراً. حاول جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي في ولايتي الرئيس أيزنهاور، تجسيد الخطوط الاستراتيجية الأمريكية، من خلال الجمع بين مفهومي «الإمبريالية» و»الأخلاقية»، من خلال تعبير «الإمبريالية الأخلاقية»، لذلك فإن «الحرب الباردة» هي «كفاح بين (قوى الخير- أمريكا والغرب) و(قوى الشر- الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية)». لقد اعتبر دالاس الشرق الأوسط ذا أهمية فائقة في «الحرب الباردة». ذلك تماشى مع اعتبار الرئيس أيرنهاور (الذي كان قد شغل منصب القائد الأعلى لقوات حلف الأطلسي إبّان الحرب العالمية الثانية) الشرق الأوسط المنطقة الأهم في العالم.

استعراض ما سبق هَدَفَ إلى إثبات المسائل التالية: أولاً: «أن الاستراتيجية الأمريكية في ما يتعلق بالمنطقة هي ثابتة. ما يتحول فيها هو أنماط التعامل، وفقاً لطبيعة الحدث وظروفه. هذه المسألة هي أقرب إلى التكتيك السياسي المتحرك أكثر منه تغييراً للاستراتيجية. ثانياً: إن الصانع الحقيقي للاستراتيجية هو رأس المال المتمثل في المجمع الصناعي العسكري، فالإدارات الأمريكية المتعاقبة هي واجهات تمثيلية لاستراتيجية المجمع. ثالثاً: إن ما بدا أنه شعارات جديدة في السياسات الأمريكية: الضربات الاستباقية وشعار «من ليس معنا فهو ضدنا» هي مبادئ أساسية في الاستراتيجية الأمريكية جرى رسم ملامحها ووضع أسسها في الأربعينيات من القرن الزمني الماضي . رابعاً: إن ما يبدو حالياً من استراتيجية أمريكية جديدة هي توجهات يمكن تغييرها سريعاً…كمثل على ذلك نقول: خطاب أوباما في جامعة القاهرة الذي وعد فيه باتباع اساليب جديدة قائمة على التفاوض والاحترام في التعامل مع العالمين العربي والإسلامي، وكان ذلك بُعيد تسلمه للرئاسة في ولايته الأولى، ضرب أباما بوعوده عرض الحائط، وكرّر تجربة حقبة بوش الابن بكل ما فيها من صقورية. كذلك وعوده حول الاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية. من كل ذلك يمكن الاستنتاج، أن السياسة الخارجية لواشنطن في منطقتنا تقوم على: تكريس التبعية لواشنطن. إيجاد حاضنة تشكل بيئة خصبة لاضطرابات سياسية في دول المنطقة، بحيث يكون تحت السيطرة وليس خارجها.. اضطراب على أسس طائفية – مذهبية – إثنية. السيطرة على موارد المنطقة، خاصة البترول، حماية الأمن الإسرائيلي ومتطلبات وجوده، منع دول المنطقة من امتلاك السلاح النووي وما يهدد الوجود الإسرائيلي، الاستعانة بقوى تكون بديلة عن التدخل الأمريكي المباشر (بإرسال جنود أمريكيين) في أحداث المنطقة. نعم، تتمحور السياسة الأمريكية الآن في تفتيت وتجزئة الدول العربية وهذا ما يجري تنفيذه. جملة القول: إننا أمام أهداف إستراتيجية أمريكية تشكل حاضنة لما يدور في المنطقة من أحداث ساخنة، جرى وضع بنودها منذ أكثر من ستة عقود.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.