الشيوعيون العرب في مرحلة ما بعد السوفيات / محمد سيد رصاص
محمد سيد رصاص* ( سورية ) الخميس 14/5/2015 م …
في يوم 7 نيسان 1992 ظهر على التلفزيون السوري جميع الأمناء العامين لأحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» وألقوا كلمات لمناسبة تأسيس حزب البعث. كان الاتحاد السوفياتي يومها لم يمر على تفككه أكثر من مئة يوم. قال خالد بكداش في كلمته العبارة التالية مشيراً إلى الشيوعيين السوفيات: «سيعودون وسيعود الاتحاد السوفياتي».
في أوساط حزب بكداش سادت مقولة: «المؤامرة المشتركة بين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والموساد بالتواطؤ مع مسؤولين يهود تسلقوا أعلى هرم السلطة بالقرب من غورباتشوف»، لتفسير سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي.
كانت مقولة «سيعودون» من أجل اعطاء أمل للحزبيين والمناصرين، فيما كانت مقولة «المؤامرة» من أجل القول إن «هناك في تجربة 1917-1991 السوفياتية لا توجد أخطاء لا في النظرية ولا في التطبيق»، حيث أتى هذا من شخص كان يقول أثناء أزمة الخلاف في الحزب الشيوعي السوري بأننا «نحن الشيوعيين لا يمكن أن نكون من دعاة الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي وعن حزب لينين، بل نحن دعاة الانسجام معهما» (من كلمة خالد بكداش في المجلس الوطني العام للحزب الشيوعي السوري، تشرين ثاني 1971، في كتاب «قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري»، دار ابن خلدون، بيروت 1972، ص202).
خالد بكداش الذي وصفه باتريك سيل بأنه «إذا قورن به أكرم الحوراني لبدا كالهاوي أمام المحترف» («الصراع على سورية»، دار الأنوار، بيروت1 968، ص214)، كان محتاجاً إلى منظومة متكاملة من المقولات لتسويغ انهيار فاتيكانه الخاص وهو قد كان كاردينالاً مهماً عند «البابوات» المتلاحقين منذ ستالين في الكرملين. «المؤامرة» تقوم بتبييض صفحة سنوات التجربة السوفياتية، ومن ارتبط بها واعتبر موسكو كعبته وفاتيكانه، ومقولة «سيعودون» تعطي أملاً وترياقاً ضد سم الهزيمة والانهيار. المثير للانتباه التشابه بين بكداش في تفسير الانهيار السوفياتي وبين شخصين، هما حسن البنا (مؤسس جماعة الاخوان المسلمين عام 1928) وتقي الدين النبهاني (مؤسس حزب التحرير الاسلامي عام 1952). هذان وجدا في انقلاب جماعة «الاتحاد والترقي» على السلطان عبدالحميد 1908-1909 وفي الغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الاسلامية عام 1924 أيضاً «مؤامرة» قام بها يهود من المتحولين للاسلام، أي الدونمة، مثل أنور باشا الرجل القوي في الاتحاديين ومصطفى كمال. في الفكر الاسلامي عند السنة والشيعة تنسب «الفتنة» إلى يهود، عند السنة إلى عبدالله بن سبأ وعند الشيعة إلى كعب الأحبار.
لم يكن كل الشيوعيين العرب على خطى بكداش في تفسير الانهيار السوفياتي. البعض منهم قال بأن الماركسية – اللينينية، وهي اختراع ستاليني منذ 1925 لم يقل بها لينين أبداً، «صحيحة ولكن هناك أخطاء في التطبيق». آخرون قالوا بأن «ستالين انحرف عن لينين، وأكمل بريجنيف ذلك بعد أن منع مراجعات المؤتمر العشرين ضد الستالينية من أن تكتمل بعد أن بدأت مع خروتشوف عام 1956». على العكس من المقولة الأخيرة وجدت مقولة، وهي عند بعض المنحدرين من حزب بكداش، بأن «الانحراف قد بدأ مع خروتشوف ثم أكمله غورباتشوف مع البيريسترويكا». قلة من الشيوعيين العرب قالوا بأن التجربة السوفياتية هي انحراف عن مخطط كارل ماركس في «البيان الشيوعي» حيث لم يكن بالامكان بناء اشتراكية في بلد لم ينجز مرحلته الرأسمالية بعد وأن المناشفة كانوا أقرب لماركس من البلاشفة حيث لم يستطع خلفاء لينين انجاز مهمات أبعد من «رأسمالية الدولة»، وأن هذا انتهى في «اقتصاد السوق»، مثل كل التجارب العالمية المختلفة لرأسمالية الدولة، وهو ما أدركه الشيوعيون الصينيون منذ أواخر الثمانينيات لما بدأوا بقيادة التحول الرأسمالي الصيني لتفادي أن يجري ببكين ما جرى في موسكو، وقد كان ما حصل في ساحة «تيان أن مين» ضد الطلاب والمثقفين في 3-4 حزيران 1989 موجهاً أساساً ضد أمين عام الحزب الشيوعي زهاو زيانغ الذي رأى فيه الزعيم الصيني دينغ سياو بينغ طبعة صينية من غورباتشوف قبل أن يعزله في نهاية ذلك الشهر.
المقولات الخمس المذكورة أعلاه لم تقد أصحابها للخروج من تحت خيمة الماركسية. من دون المقولة الخامسة بقيت المقولات الأربع الأخرى في إطار فكر الماركسية السوفياتية وهي تبريرية بالمجمل ولا تحمل مراجعة حقيقية لا لفكر الماركسية السوفياتية ولا للتجربة السوفياتية بين عامي 1917 و1991. لم يكن هذا مساعداً على أن ينهض الشيوعيون العرب من جديد وأن يتفادوا تداعيات الزلزال السوفياتي بعد أن كانوا منذ العشرينيات يركبون في مقصورات القطار السوفياتي.
بالتوازي حصلت عملية ذهاب عند شيوعيين عرب كثيرين إلى مواقع غير ماركسية: بدأ هذا في عام 1989 عند شيوعي لبناني مثل كريم مروة قال «بنظرية ثورية جديدة تأخذ بعضاً من الماركسية والقومية والاسلام» (انظر كتاب «حوارات»، دار الفارابي، بيروت 1990). في نيسان 1998 وافقت قيادة الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) على مشروع قدمه الدكتور جمال الأتاسي لتحويل «التجمع الوطني الديمقراطي» بأحزابه الخمسة إلى «حركة سياسية واحدة بألوان إيديولوجية مختلفة»، قبل أن يقود خروج رياض الترك من السجن يوم 30 أيار 1998 إلى تعضيد قوة المعارضة داخل الحزب الشيوعي (المكتب السياسي) لهذا المشروع وإلى دفنه. أولئك القياديون نفسهم الذين وافقوا على مشروع 1998، التقوا مع رياض الترك في أعوام 2003- 2004-2005 على مقولة أن الماركسية «هي مصدر من مصادر متعددة»، ولكن كان التحول والذهاب بعيداً عن الماركسية يعود لأسباب سياسية على الأقل عند الأستاذ الترك الذي أصبح يراهن على «رياح غربية ستهب على دمشق» عقب سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي، وهو ما تجسد في 28 أيلول 2003 في مقابلته مع جريدة «النهار» لما قدم «نظرية الصفر الاستعماري». كان طرح تغيير اسم الحزب مترافقاً مع هذا التحول السياسي، وقد أدى العاملان المذكوران إلى قيادة من ذهب في مؤتمر 28 – 30 نيسان 2005 لتأسيس «حزب الشعب الديمقراطي» نحو موقع جديد من الناحية الفكرية – السياسية – الأيديولوجية هو غير الماركسية. في تونس وفلسطين جرى أيضاً تغيير لاسم الحزب الشيوعي وقد كان هذا، مثل تجربة رياض الترك ومن معه، عنواناً للانتقال بعيداً عن الماركسية. عند شيوعيين عرب أفراد جرى طرح لمقولات مثل «موت الإيديولوجيات» و»الحزب هو برنامج سياسي فقط» و»نهاية الأحزاب» لم تقل بها قيادات الأحزاب من المتمرسين بالعمل السياسي بل اقتصرت على مثقفين كانوا في الأحزاب الشيوعية العربية، وهي مقولات لم تحصل أبداً في البلدان المتقدمة.
كمجمل عام: يمكن القول بأن المراجعات الشيوعية العربية، بعد ما يقرب من ربع قرن على الانهيار السوفياتي، ليست على مستوى الحدث. هذا إذا لم تكن بمعظمها مراجعات هروبية عند من بقي في الماركسية. هذا يدل على ضعف فكري – سياسي، ليس بمستوى المراجعات الحقيقية كالتي قام بها إدوارد برنشتين عام 1898 عندما خرج من «الماركسية الأرثوذوكسية» وأسس الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي، أو التي قام بها لينين عامي 1914 و1915 عقب «انهيار الأممية الثانية» وقادته إلى مقولته حول «الامبريالية» عام 1916 أو مراجعات سيد قطب المتجاوزة لحسن البنا في كتابه «معالم في الطريق» عام 1964. بالمقابل تدل عمليات الانزياح عن الماركسية على مدى هشاشة الرباط الفكري – السياسي في تلك الأحزاب منذ نشوئها، حيث يبدو أن ذلك الرباط كان متعلقاً بعامل خارجي هو قوة الكرملين، وليس بعامل ذاتي، لذلك عندما انهار ذلك العامل الخارجي رأينا تلك الانزياحات التي هي انهيار أيضاً، فيما من يتفادى المراجعة الحقيقية لا يقوم بأكثر من عملية هروب إلى الأمام وإثارة غبار أمام أي مراجعة ورؤية حقيقية.
* كاتب سوري
التعليقات مغلقة.