النشرة الإقتصادية / الطاهر المعز

 

الطاهر المعز ( تونس ) الخميس 14/5/2015 م …

  تقديم:

كثر الحديث عن ما سمي “الإقتصاد الإسلامي” (أو التمويل الإسلامي) أثناء الأزمة المالية، التي نشأت على إثر انفجار فقاعة الرهن العقاري، والتي تسببت في أزمة تاريخية (مالية ثم اقتصادية) تضاهي أزمة 1929 وأشد خطرا من أزمة أسواق المال الآسيوية، أواخر عقد تسعينات القرن العشرين (1997-1998)، ونتج عن أزمة 2008-2009 كساد عالمي وارتفاع مستوى التضخم وإفلاس مصارف كبرى، خصوصا في الولايات المتحدة، أنقذتها الحكومة الفدرالية بضخ المال العام في خزائنها، وخلال البحث عن بدائل للنظام المصرفي الحالي، تعززت فكرة “الصكوك الإسلامية”، ورحبت الأوساط المصرفية والمالية في الولايات المتحدة وأوروبا بدمج الطاقات والموارد “الإسلامية” في النظام الرأسمالي العالمي، بهدف ضخ سيولة افتقدتها مصارف لندن وباريس خلال الأزمة، واعتبر المروجون للصيرفة الإسلامية ان الفرصة سانحة لعرض “المصارف الإسلامية” والصكوك كنموذج لإنقاذ رأس المال المعولم من أزمته، لأن المصارف “الإسلامية” تستثمر في مشاريع حقيقية (أي في الإقتصاد الحقيقي) ولا تعتمد رسميا على المضاربة في أسواق المال، ولكن المصارف “الإسلامية” والصكوك لا تختلف كثيرا عن بقية المصارف في تسييرها وفي علاقاتها مع الزبائن، باستثناء انتقاء المشاريع التي تستثمر فيها بحذر شديد، كي لا تتعرض للخسائر (ومع ذلك فقد تورطت في الأزمة العقارية لأنها تعمل داخل النظام المالي العالمي)، ولذلك لم تستطع الإنتشار مثل المصارف العادية، وساعدتها الأزمة على دخول اسواق أوروبا (بريطانيا وبلجيكا ولسكمبورغ وسويسرا…) وارتفع نمو “الصكوك الإسلامية”، خصوصا في ماليزيا والخليج، وازداد الإهتمام بها بعد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في عدد من البلدان العربية (المغرب وتونس وليبيا ومصر واليمن) بمساندة حكومات قطر وتركيا، وبمباركة الولايات المتحدة، وكأن “الصيرفة الإسلامية” هي الحل السحري للمشاكل والمطالب التي انتفض من أجل تحقيقها الشعب في تونس ومصر بشكل خاص، وطغى هذا النقاش على بقية المسائل الهامة، منها:

 كيف يمكن تحقيق الإستقلال الإقتصادي في ظل العولمة، وفي ظل العلاقات غير المتكافئة بين “الشمال والجنوب”؟

كيف يمكن للإقتصاد المحلي تلبية حاجات المواطنين بأسعار (تكلفة) قادرة على منافسة البضائع المستوردة؟

ما هي القطاعات الإقتصادية التي يمكن أن تحقق فوائد للمجتمع، مع استيعاب أكبر عدد من العاطلين؟

ما نوع المشاريع التي يمكن إنجازها في المناطق المحرومة مثل الصعيد المصري أو مناطق غرب تونس، من شمالها إلى جنوبها؟

كيف يمكن تمويل هذه المشاريع، وهل يكفي الإقتراض الداخلي لجمع المال الكافي؟

هل يمكن تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، وما هي المدة اللازمة لذلك؟

هل يمكن الإستثمار من أجل التنمية، مع تخصيص نسبة مائوية هامة من إجمالي الناتج المحلي لتسديد الديون (مع الفوائد وخدمة الدين)؟

هل يمكن إنجاح حملة وطنية وعالمية من أجل إلغاء الديون؟

كيف يمكن تطبيق الديمقراطية القاعدية، بهدف مساهمة المنتجين في اتخاذ القرار وتعيين الأولويات وفي عملية الإنتاج ومراقبتها وتسييرها؟

 هناك أسئلة كثيرة وجب البحث بشكل جدي عن إجابات لها، لكي لا تستحوذ القوى الرجعية (أكانت رجعية دينية أو علمانية) على انتفاضات الشعوب، كما فعلت كل مرة…

 تثير “الصكوك الإسلامية” العديد من علامات الاستفهام، باعتبارها أداة لخصخصة ما تبقى من القطاع العام، ونقل ملكية الممتلكات العمومية الثابتة والمنقولة، بالبيع أو الرهن (ما يسمى حق المتعة في لغة الصيرفة “الإسلامية”)، وقد تكون “الصكوك” شكلا منقحا من شركات توظيف الأموال، فيما تقدمها تيارات الإسلام السياسي (خصوصا في مصر) بمثابة “الحل المُناسب للخروج من الأزمه الاقتصادية”، بتمويل مشاريع التنمية المختلفة، من خلال الأموال الموظفة خارج دائرة المصارف العادية، في ظل عجز الدولة على تمويل بعض المشاريع وصعوبة الإقتراض من السوق المالية التقليدية

  محاولة تعريف الصكوك “الإسلامية”:

 “الصكوك الإسلامية” هي تسمية أخرى لعملية تملك الأصول أو السندات، أي تملك (مُشاركة في لغة الصيرفة “الإسلامية”) حملة الصكوك (أي السندات) لجزء من مشاريع صناعية أو زراعية أو خدمية، ولهم حق التصرف فيها بالبيع، وهذه المشاريع خاضعة لإمكانية الربح والخسارة بمعنى أن حامل الصك يحصل على ربح عندما يربح المشروع الذي شارك فيه، كما يتحمل الخسارة بما في ذلك خسارة رأسماله ذاته إذا خسر المشروع الذي شارك فيه، فهي لا تختلف في شئ عن صناديق الاستثمار عالية المخاطر التي ابتكرتها البنوك الغربية منذ ما يقرب من قرنين من الزمن، أو ملكية أسهم الشركات في أي بورصة، أو أنماط المُشاركة الموجودة، من آلاف السنين، في الحضارات التجارية القديمة، وتعمل بعض البلدان بهذا النظام المُسمي بـ”الصكوك الإسلامية”، خاصة ماليزيا التي تستحوذ وحدها على ‏60%‏ من إجمالي الصكوك الإسلامية المُصدرة في العالم والتي يقدر إجمالي قيمتها بـ ‏200‏ مليار دولار (سنة 2012) بالإضافة إلى عدد من الدول العربية (الخليج) قبل أن تهتم البلدان الأوروبية بهذا “المنتوج المصرفي” الذي يوفر لها سيولة هامة تراكمت في الخليج خلال فترة الطفرة النفطية

“الصكوك الإسلامية” هي عبارة عن أسهم تصدر بفئات متساوية ويمثل كل صك حصة شائعة في صافي أصول الشركة المُساهمة، مثل السندات التقليدية والتي تصدر بفئات متساوية، ومن أسس الصكوك “الإسلامية”، مبدأ “المُشاركة في الربح والخسارة”، أي ان حاملي “الصكوك” يشتركون في الربح والخسارة، فيستفيدون من حصة من الربح، بحسب ما يملكون من الصكوك، وليس بنسبة مُحددة مسبقا، كما في المصارف “التقليدية”، ويتحملون أيضًا الخسائر بنسبة ما يملكه كل منهم، ويتم إصدار وتداول الصكوك وفق شروط تضبط تحمل حامل الصك أعباء منها المصاريف الإستثمارية والإدارية أو هبوط في القيمة… يمكن وصف الصكوك “الإسلامية” بأنها نوع من أنواع الشهادات الإئتمانية، متساوية القيمة، لا تقبل التجزئة، أو هي نوع من العقود التي تثبت  ملكية أصل معين (قيمة عينية) أو مشروع أو نشاط استثماري محدد، ويمكن تداولها بين الناس في السوق مثل باقي السندات… منطقيا، تؤجر المصارف “الإسلامية” أو تمتلك محلات وتوظف موظفين وتتحمل مصاريف ثابتة أو متغيرة، وهي مصاريف يتحملها الزبون في نهاية الأمر، ووجب اقتطاعها من الأصول والصكوك وباقي “المنتوجات المالية”، أكان اسمها إسلامية أم لا، ولكن الحيلة تكمن في تغيير تسمية الأشياء، مثل “مرابحة” و”مشاركة”…(انظر لاحقا)

 ملاحظات حول المصطلحات ومدلولاتها:

 يمكن تعريف المصارف (كل المصارف) بأنها وسيط مالي بين المدخرين والمستثمرين، فالمستثمر يبحث عن أموال تمكنه من إنجاز مشاريعه (أي قروض)، والمدخر يبحث عن أرباح (فوائد) على ودائعه من الأموال الزائدة عن حاجته، وتنطلق أدوات الإستثمار المالي “الإسلامي” من صيغ معروفة مثل “المشاركة” و”المرابحة”، وتغير مثلا عبارة الفوائد ب”العوائد” (وهي فائدة ثابتة وليست متغيرة)، وتتغير نسبة الفائدة بحسب قوة أو ضعف الطلب على القروض، وما الحديث عن تحريم “الفائدة” سوى نوع من الخداع اللغوي للمؤمنين البسطاء الذين يودعون أموالهم في مصارف تستثمرها في الخارج، وتستغل ندرة السيولة في بعض مناطق العالم، لتقرضها أو تودعها بعوائد مرتفعة (لأن سعر الفائدة مرتبط بتوفر أو ندرة السيولة النقدية المتيسرة)، وهي تمارس عملها مثل بقية المصارف التجارية، منذ ولادتها سنة 1963…

 تأسس مصرف “البركة” الإسلامي التابع لمجموعة “البركة” المصرفية في البحرين في شهر شباط سنة 1984، وشكل مختبرا للمصارف “الإسلامية”، وكان قد أطلق لاحقا، قبل خمس أو ست سنوات قروضا (بفائدة طبعا) للأفراد (خصوصا موظفي الدولة) لأغراض التعليم والعلاج والسفر وغيرها من الإحتياجات الشخصية، لمدة سبع سنوات، وقروضا أخرى لمدة تتراوح بين 15 و 20 سنة لتمويل شراء السيارات والسلع والأثاث أو قروضا عقارية، وذلك بهدف اجتذاب فئة من المستهلكين دوي الدخل المتوسط، وتوسيع قاعدة المصرف، وتعد البحرين من رواد “الصيرفة الإسلامية” 

 المرابحة: يشتري المصرف سلعة بطلب من الزبون، ويسدد المصرف ثمنها حاضرا، ليبيعها للزبون بثمن الشراء مع زيادة معلوم متفق عليه (ربح)، باتفاق الطرفين، مع تأجيل تسديد الثمن، وقد شرع الإمام الشافعي ذلك، إذا كان البيع والشراء مبنيا على “الخيار والقبول”، ولكنه في الواقع بيع بالمؤجل بفائدة

المشاركة: يتفق المصرف مع زبون أو زبائن على المشاركة في رأس مال شركة، ويتقاسمان الربح والخسارة، كل حسب درجة مساهمته، ولكن المصرف يدرس بدقة نوع المشاريع التي يساهم فيها، وعادة ما ينسحب شيئا فشيئا، مع استرجاع رأس المال، إضافة إلى الفوائد، ولا تشارك المصارف “الإسلامية” في مشروع، قبل التأكد من أنه يمثل صفقة مربحة، ما يحد من كم المشاريع التي تستثمر فيها

 الإجارة: هو عقد يؤجر بمقتضاه المصرف أملاكا له إلى زبون لفترة محدودة بقيمة محددة سلفا، أو (في صيغة أخرى) يلتزم الزبون بشراء ما يستأجره، عند حلول نهاية العقد 

 الربا: وهو مبني على إرجاع قرض أو ثمن سلعة، بعد مرور فترة من الزمن، مقابل زيادة معلومة مسبقا في قيمة الثمن… يحرم الإسلام (من الناحية النظرية فحسب) الربا، بمعنى “حظر استخدام المال كسلعة، وجني المال من المتاجرة بالمال”، ويعوض ذلك بالشراكة، أي عندما يقرض البنك مالا لزبون، فإن البنك يصبح شريكا في المشروع 

 المضاربة: تستخدم في حالة المشاركة بين من يقدم رأس المال ومن يقدم العمل، لاستثمار رأس المال، مقابل حصة من الربح معلومة مسبقا، لكل من الطرفين (النصف أو الربع أو الثلث…)، لكنهما يتقاسمان المخاطر أيضا

 النماء: أي الزيادة التي تحصل من استثمار رأس المال سواء كان رأسمالا ثابتا أو منقولا، ولكي ينمو رأس المال (وهو هدف الإستثمار) لا بد من تحقيق ربح، وهو ربح “حلال” في نظر فقهاء “المالكية” (نسبة إلى مالك بن أنس)

 في كل هذه الحالات المذكورة تستثمر المصارف “الإسلامية” في مشاريع حقيقية، ملموسة، أي أن كل ديون تقابلها ممتلكات موجودة لا تقل قيمتها عن قيمة تلك الديون، ولا يمكن البيع بالخسارة أي بأقل من ثمن الشراء، كما لا يمكن المراهنة على انخفاض سعر سلعة معينة في المستقبل وشراءها قبل الحصول عليها فعلا (مثلما يحصل في سوق المواد الأولية كالنفط، والمنتوجات الزراعية، كالحبوب…) ويدرس المصرف بعناية نوعية المشاريع التي يستثمر فيها أمواله، لذلك لم تتوسع ولم تنتشر هذه المصارف، ولكنها غير مهددة، على مدى قصير أو متوسط، باإفلاس، مثلما حدث مع المصارف الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها

 التجربة الماليزية:

 قدم الإخوان المسلمون، أثناء فترة حكمهم في مصر، نظام الصكوك الإسلامية كحل لتمويل عجز الميزانية، ولتمويل مشاريع اقتصادية، ومشاركة حاملي الصكوك في الربح والخسارة، لكن في حال عجز الدولة عن تسديد الأموال التي حصلت عليها مقابل الصكوك، يحق لحملة الصكوك تملك الأصول السيادية، وهي ملك للشعب والأجيال القادمة ولا حق لأي كان بالتفريط فيها، ولكن مختلف تيارات الإسلام السياسي تستدل بتجربة “ماليزيا” التي اعتمدت هذه التجربة “بنجاح”، وتستحوذ على ما لا يقل عن 60% من إجمالي قيمة الصكوك “الإسلامية” في العالم، وكانت حكومة “مهاتير محمد” (رئيس وزراء ماليزيا من 1981 إلى 2003) قد رهنت مطار العاصمة “كوالالمبور” مقابل إصدار صكوك بنحو 100 مليار دولار لمدة 10 سنوات وعند توقيع العقد، تم توقيع عقد ثاني لشراء الدولة المطار مرة أخرى ¬ في نفس اللحظة وبنفس قيمة البيع ¬ لإعادته إلى ملكية الدولة ويتمتع حملة الصكوك، خلال السنوات العشر بعائدات تشغيل المطار، وإذا تحققت خسائر في أي من هذه السنوات يتحملها حملة الصكوك، وفي نهاية المدة تقوم الدولة بسداد قيمة هذه الصكوك لأصحابها وبنفس قيمتها بعد أن تكون قد استخدمت هذه الحصيلة في بناء مشاريع أخرى طيلة تلك المدة والاستفادة من فروق التضخم فى الأسعار العالمية، وهكذا نفذت حكومة “ماليزيا” مشاريع عملاقة خلال مدة قصيرة مما صنع ما يُسميه البعض بـ “المعجزة الماليزية”، وهي تجربة فريدة، لا يمكن تكرارها، واهتمت حكومة ماليزيا (برئاسة مهاتير محمد) بتحسين جودة التعليم، وخصصت الأراضى الزراعية للعاطلين، وبدأت تصنيع الشرائح الإلكترونية ومشاريع أخرى تستخدم أعدادا هامة من العمال، وفي نفس الوقت خصخصت الحكومة قطاعات الماء والكهرباء والخدمات، وقدمت القروض للقطاع الخاص ومنحت المستثمرين إعفاءات من الضرائب، وسمحت للمستثمرين الأجانب بالإقتراض من المصارف المحلية (أي أنهم يستثمرون في ماليزيا دون أن تتوفر لديهم الأموال الكافية)، فكافأتها الدول الرأسمالية المتطورة بمنحها تسهيلات لتسويق إنتاجها من المنسوجات والشرائح الإلكترونية وغيرها، وفي حال عجزت الحكومة عن تسديد قيمة 100 مليار دولار بعد عشر سنوات من تاريخ توقيع العقد مع حملة الصكوك، كان يحق لهؤلاء تملك المطار نهائيا، وهنا يكمن الخطر، فالعملية إذن تتمثل في رهن ممتلكات الدولة (الشعب) مقابل قروض، يتوجب تسديدها بعد مدة معينة، لاسترجاع الملكية المرهونة، وإلا ضاعت نهائيا، وخلال مدة الرهن (10 سنوات) يضاعف المستثمرون من استغلالهم للعمال ويغيرون قواعد وشروط العمل الخ   

 فوارق بين اقتصاد مصر وماليزيا:

كانت الحكومة الماليزية تمتلك خطة متكاملة للتصنيع ورؤية مستقبلية لتحويل البلاد من بلد زراعي يصدر المواد الخام، ويعتمد على زراعة المطاط، إلى بلد رأسمالي صناعي يصدر سلعا مصنعة محليا، وقادر على منافسة إنتاج تايوان واليابان وكوريا الجنوبية، وكانت الدولة هي المحرك للإنفاق والإستثمار فساعدت الشركات الصغيرة والمتوسطة بواسطة المال العام (الذي حرم منه العمال والفلاحون الفقراء) من خلال القروض والحوافز لفترة عشرين سنة، بين 1996 و2005، وينشط معظمها في مجالات الإنتاج والتصنيع ويشغل أعدادا كبيرة من العمال، ذوي الرواتب المتدنية، ومعظمهم هاجروا من الريف إلى المدينة، وكانوا ضحية تحول اهتمام الدولة من الزراعة إلى الصناعة، وهو ما يحصل في الصين حاليا، ولئن تحولت الدولة إلى “وكيل” للقطاع الخاص فإنها وضعت شروطا للحصول على المساعدات، منها التركيز على بعض الصناعات التصديرية ذات القيمة المضافة العالية، كما استثمرت الحكومة في إنشاء تجمعات صناعية متخصصة في مجالات البحث والتطوير، وتصنيع المعدات، والتغليف، ‏والتجارة الإلكترونية وغيرها، ما ساعد على تأسيس شركات كبرى في هذه القطاعات، وما ساعد على تأسيس مجمعات تصنيع التقنيات المتطور ة (حواسيب وأجهزة اتصالات)، التي بلغت قيمة صادراتها أكثر من 60 ‏مليار دولار سنوياً، وأصبح قطاع الإتصالات والمعلومات والبرامج الإلكترونية والحواسيب يساهم بنحو 30% من إجمالي الناتج المحلي (2013)… من جهة أخرى، تأثرت البلاد بالأزمة الآسيوية (1997-1998) وعرفت عددا من الأزمات السياسية والإضطرابات مع اتهامات بفساد الحكومة (بين 2003 و 2007)، ويحكم البلاد نفس الحزب منذ 1957، ما ضيق هامش الحرية والديمقراطية في البلاد التي عرفت فيها المعارضة مجازر رهيبة سنة 1965، وقتل الجيش (بمساعدة بريطانيا، ثم الولايات المتحدة) مئات آلاف المعارضين بتهمة الإنتماء أو التعاطف مع الأفكار الشيوعية

 أما في مصر فلا تملك الدولة خطة أو رؤية مستقبلية، منذ الفترة الناصرية، وجمعت بين عجز الموازنة وارتفاع الديون الخارجية والداخلية وارتفاع نسبة البطالة والفقر والأمية، وخصخصت الدولة معظم مؤسسات القطاع العام وأعادت الأراضي المؤممة إلى أبناء وأحفاد الإقطاعيين، وفقدت ما كانت تملكه من هامش لاتخاد القرار منذ وقعت اتفاقيات الإستسلام في “كامب دفيد”، ولم يكن للحكومات المتعاقبة مشروع وطني مستقبلي، منذ رحيل جمال عبد الناصر، لذلك لا تصح مقارنة الوضع في مصر بالوضع في ماليزيا، من هذه الناحية، وأدى توقيع اتفاقيات “كامب دفيد” إلى وضع مصر تحت السيطرة الأمريكية والصهيونية (انتداب؟) ما أفقدها استقلالية القرار، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي في منطقة تريد الإمبريالية السيطرة الكاملة عليها من خلال قوة اقليمية وحيدة هي الكيان الصهيوني، الوكيل الرسمي وصاحب الإمتياز في المنطقة، ولكي تصبح مصر قوة اقتصادية، وجب أن تتحرر سياسيا وتسترجع سيادتها على شبه جزيرة سيناء… لقد فرطت مختلف الحكومات التي تعاقبت في مصر منذ 1970 في إرث “طلعت حرب” وفي إرث “جمال عبد الناصر”، في قطاعات الصناعة والزراعة، وأصبحت البلاد تستمد إيراداتها من القروض ومن تحويلات العمال المصريين المغتربين ومن السياحة والخدمات، فانهارت القطاعات الإنتاجية وارتفعت ديون البلاد الخارجية وارتفعت نسبة البطالة ونسبة الفقر إلى 40% من السكان وارتفعت نسبة الأمية إلى أعلى مستوياتها (قرابة عشرين مليون أمي)، وأصبح الإقتصاد الموازي (غير الرسمي) يمثل نصف إجمالي الناتج المحلي الخ   

 البرنامج الإقتصادي لأحزاب الإسلام السياسي:

 أدى تطبيق وصفات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى “انتفاضات الخبز” في عدد من بلدان العالم، والبلدان العربية، ومنها “انتفاضة يناير 1977” في مصر و1981 في المغرب و1983-1984 في تونس ثم في الأردن والسودان والجزائر (1988)، وكان ارتفاع نسبة البطالة والفقر سببا رئيسيا في اندلاع انتفاضات 2010-2011 التي لم تساهم أحزاب الإسلام السياسي فيها، بل عارضتها وطلبت من منتسبيها عدم المشاركة فيها، ولكن قوى الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون) كانوا يمتلكون مقومات تفتقدها الأحزاب السياسية الأخرى منها التنظيم المحكم والإنضباط العسكري والمال الوفير (مال نفط وغاز الخليج) واستغلال المساجد لترويج خطابها، وهي فضاء عمومي يموله كافة المواطنين ولا يستفيد منه سوى نظام الحكم والإسلام السياسي، والأهم من كل ذلك أن الإمبريالية الأمريكية والإتحاد الأوروبي كانا على اتصال دائم بأحزاب الإسلام السياسي واستخدمتها أمريكا كورقة ضغط على أنظمة مصر وتونس، عند حدوث بعض الخلافات، وشكلت بديلا لهذه الأنظمة، دون المساس بالمصالح الإمبريالية، بسبب تبني أحزاب الإسلام السياسي لقواعد الإقتصاد الليبرالي، وعدم التشكيك أو إعادة النظر في نمط التنمية السائد، والمعتمد على الإستغلال وعدم المساواة في توزيع الثروة (“وخلقناكم طبقات”)، ولذلك حازت هذه الأحزاب ثقة الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، وبما أنها كانت جاهزة بعد انتفاضتي تونس ومصر، خلافا لأحزاب اليسار والتيارات القومية، فقد تمكنت من حكم البلدين (إضافة إلى المغرب واليمن في وقت لاحق)، وأظهرت هذه الأحزاب المنتمية لتيار الإخوان المسلمين أنها لا تملك برنامجا مغايرا لما طبقته حكومات “الحبيب بورقيبة” و”زين العابدين بن علي” في تونس، و”أنور السادات” أو “حسني مبارك” في مصر، بل ان السادات سمح ل”بنك الريان” بالنصب على الفقراء ومتوسطي الدخل من المؤمنين، باسم الإدخار “الحلال”، وأظهرت قيادات احزاب الإسلام السياسي (خلال حكم تونس ومصر) نهما شديدا ولهفة على المال والمناصب، واستحوذت على المال العام، على حساب الفقراء والعاملين والعاطلين وذوي الشهداء، وأغرقوا البلدين بالديون من المؤسسات المالية العالمية ورهنوا مصير الإجيال القادمة… خلاصة الأمر، واصلت هذه الأحزاب سياسة التداين والخصخصة (باسم “تحرير الإقتصاد”) ورهن ثروات البلاد للمستثمرين الأجانب، مع رفض الإستجابة لمطالب العمال والأجراء وقمع احتجاجات العمال والشباب ومهاجمة النقابات والزج بالفنانين والصحافيين في السجون، وتأسيس أو تشجيع أو التغاضي عن مليشيات مسلحة نفذت اغتيالات بحق المعارضين، كما رفضت أحزاب الإسلام السياسي تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني، بل أظهر “راشد الغنوشي” و”محمد مرسي” أنهما أكثر تطبيعا من بن علي ومبارك…

في المجال الإقتصادي، تميزت تصريحات وممارسة زعماء الإسلام السياسي بالتركيز على اقتصاد السوق والإرتهان لمؤسسات “بريتن وودز”، وطمأنة المضاربين في البورصة والمستثمرين الأجانب والمحليين (يوجد عدد هام من رجال الأعمال وأرباب العمل في قيادة هذه الأحزاب “الدينية”)، وواصلت حكومات المغرب وتونس ومصر، في ظل “الإسلام السياسي”، سياسة “الإنفتاح الإقتصادي” التي أدت إلى زيادة الإرتباط بالسوق العالمية والإرتهان للإستثمارات الأجنبية (التي لم تأت)، وارتفاع مستوى الديون الخارجية وارتفاع العجز التجاري وانخفاض مستوى احتياطي العملة وتراجع الطلب الداخلي بسبب ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وتراجع الإستثمار، وإغراق السوق المحلية بالسلع الأجنبية الرخيصة، ولم تعمل هذه الحكومات على استرجاع الأموال المنهوبة والمهربة خارج البلاد، ومحاسبة الفاسدين وسارقي المال العام وناهبي ثروات البلاد، ولم تعمل على إرساء العدالة الجبائية، ولما انسحبت (أو أطردت) من الحكم تركت البلدان التي حكمتها أسوا حالا مما كانت عليه قبل 2011…                 

  الصكوك بين المتخيل والواقع:

قدرت قيمة السوق المالية “الإسلامية” بنحو 700 مليار دولار قبل الأزمة المالية العالمية وقدرت نسبة نموها بنحو 10% إلى 15% سنويا بين 2003 و 2007 وهذا سر اهتمام المصارف التجارية الأوروبية بما سمي “الصيرفة الإسلامية”، خصوصا خلال أوقات الشدة وشح السيولة، بينما تتراكم أموال الطفرة النفطية لدى شيوخ الخليج، وقد يصل حجم إصدار الصكوك إلى نحو خمسة تريليونات دولار سنة 2015، ولئن بدأت الصكوك الإسلامية كإصدارات لمؤسسات ودول إسلامية إلا إنها تجاوزت نطاق هذه الدول لتصبح مُنتجا ماليا عالميا، وبعد سنوات أصبح نصيب الدول الإسلامية منها أقل بكثير من نصيب الدول الغربية والذي وصل إلى 80% من إصدارات الصكوك الإسلامية، ويعتمد مبأ الصكوك على مشاركة حاملي الصكوك في أصول المشاريع الكبرى وما تنتجه من أرباح (ألا يسمى ذلك فائدة؟)، وتنقسم “الصكوك الإسلامية” إلى “صكوك إجارة أو سلم أو صكوك المُرابحة أو المُزارعة أو الاستصناع وغير ذلك من الأسماء والنعوت التي تفتقت عنها قريحة “الفقه الإسلامي” المعاصر، وجميع هذه الأنواع من الصكوك مطروحة للمضاربة في أسواق الأوراق المالية (البورصة)، وأباح بعض فقهاء الإسلام المعاصرين “البيع بالتأجيل مع زيادة الثمن”، ولا يعتبرون ذلك “ربا”، حسب رأيهم إذا كان الأجل محددا في العقد بين الطرفين، وادعى فقهاء الصيرفة الإسلامية ان “الصكوك الإسلامية تساعد في تحسين ربحية المؤسسات المالية والشركات ومراكزها المالية، وتسهم في الحصول على السيولة اللازمة لتوسيع قاعدة المشاريع وتطويرها”، ولكن قيمة هذه الصكوك تمثل حصة في سلع أو خدمات تباع وتشترى، أي خاضعة لقانون العرض والطلب (أحد أهم ركائز الإقتصاد الرأسمالي)، ولذلك فإن قيمتها قابلة للزيادة كما للنقصان والخسارة الكاملة، بسبب تغير عوامل السوق التي تؤثر على معدل الفائدة (العوائد)، بحكم ارتباط هذه الصكوك ارتباطا وثيقا بالسوق الرأسمالية، ولا تمثل بأي حال من الأحوال بديلا عنها

 إن الهدف الحقيقي من إصدار “الصكوك الإسلامية”، كما طرحته حكومة الإخوان المسلمين في مصر، هو اجتذاب أموال المواطنين ومُدخراتهم، تحت غطاء ديني، وإطلاق صفة الصكوك الإسلامية عليها بدلا من “شهادة استثمار” فهي تحمل اسم “صك إسلامي”، وسبق أن عرف المصريون، خلال حكم “الرئيس المؤمن” (أنور السادات) شركات توظيف الأموال التي تسترت بالدين ونهبت أموال الناس، وهو نفس الدور الذي تؤديه الصكوك المسماة “إسلامية”، باستخدام نفس الأساليب والأهداف المعلنة، تحت غطاء مرجعية دينية غامضة ومطاطة، قد تفضي إلى خصخصة أصول الدولة والقطاع العام (ومنها قناة السويس) وسيطرة عدد من رجال الأعمال والمسئولين عليها، ناهيك عن المستثمرين الأجانب من دول وشركات ورجال أعمال (بحسب  مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية –   الأهرام)

 خاتمة:

 يقدر عدد المسلمين في العالم بأكثر من 1,3 مليار نسمة، أي 1,3 مليار مستهلك، ما جعلهم محل اهتمام المستثمرين والمصارف، لأنهم مثل جميع سكان هذا العالم، لهم حاجات ومتطلبات لا بد من تلبيتها، منها الضروري ومنها الكمالي، ويحاول الملايين منهم التوفيق بين تلبية هذا الإحتياجات وعدم مخالفة “الشريعة”، هذا بالنسبة للأفراد، أما بالنسبة للمجتمعات فإن دول “منظمة البلدان الإسلامية” تعد 57 دولة، بعضها غارق في الثراء وله فائض من السيولة وبعضها فقير معدم يبحث عن السبل الكفيلة بمعالجة المشاكل الإقتصادية، ودعم برامج التنمية ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة الخ لكن التجارب أظهرت أن لا الدول التي تدعي الحكم باسم الإسلام (الوهابي المحافظ) مثل السعودية وقطر، ولا أحزاب الإسلام السياسي المنحدرين من تنظيم “الإخوان المسلمون”، مثل تركيا والأحزاب التي حكمت المغرب وتونس وليبيا واليمن ومصر، حادت عن المبادئ الرأسمالية الليبرالية، رغم اختلاف الوضع بين الإقتصاد الريعي في السعودية وقطر، والوضع في بقية البلدان العربية التي حكمها الإسلام السياسي، واتفق جميعهم على الولاء للإمبريالية الأمريكية ولمؤسسات “بريتن وودز”، واتضح ان “الصيرفة الإسلامية” (أو الإقتصاد المسمى إسلامي) لا يهدف حل مشاكل المواطنين والبلدان، بل يهدف أساسا إلى إنقاذ النظام الراسمالي وإصلاحه من الداخل، دون المساس بجوهر الإستغلال والإستعباد والإضطهاد، لأنه جزء لا يتجزأ منه، ومن جهة أخرى، يكفي أن يدافع آل سعود وآلا خليفة وآل نهيان وآل ثاني وآل الصباح عن أي فكرة أو مبدأ حتى يصبح (عن حق) مشبوها، لما عرف عن شيوخ الخليج من عمالة وتقديس لإملاءات ورغبات الإمبريالية الأمريكية، ما يجعلنا نخجل من انتمائنا لنفس اللسان والثقافة والتاريخ والجغرافيا، وهذا سبب آخر يفرض علينا التثبت والتمحيص في ماهية “الإقتصاد الإسلامي” الذي قدمه فقهاء هذه الدويلات كحل سحري للإقتصاد وللأزمة العالمية، بالإضافة إلى ذلك، أقرت سوق نيويورك المالية “دو جونز” مؤشرات “الإستثمار الإسلامي” منذ 1990 وتأسست في بريطانيا سلطة الخدمات المالية “الإسلامية” منذ 2004 وأصدر مركز أبحاث الكونغرس الأمريكي (خدمة أبحاث الكونغرس) سنة 2009 (في أوج الأزمة) تقريرا يدعو إلى الإستفادة من “التمويل الإسلامي” لحل الأزمة آنذاك

 في مرحلة “الدعوة” (سبعينات وثمانينات القرن العشرين) ادعى الوهابيون وزعماء “الإسلام السياسي” انهم يرفضون الرأسمالية والإشتراكية، وأنهم يدعون إلى إرساء نظام سياسي واقتصادي “إسلامي”، يحقق العدالة الإجتماعية ويضمن حسن سير الإقتصاد، اعتمادا على مفاهيم وقيم أخلاقية، لا علاقة لها بالربح والمضاربة والإحتكار، وبينت التجارب أن مشاكل المجتمع لا يمكن حلها (إن توفرت النية) بالزكاة وبالإحسان

 لم يخرج “الإسلام السياسي” و”الإسلام المالي أو الإقتصادي” عن دوره في مساعدة الرأسمالية المتأزمة على الخروج من أزماتها، وسد الثغرات التي أدت إلى الطوفان، ولعب الإسلام السياسي والإقتصادي دور الأداة الطيعة في خدمة الإمبريالية سواء في أفغانستان أو استخدام “الوهابيين” (في السعودية وقطر) أموال النفط لإنقاذ الرأسمالية أو لإنهاك الإتحاد السوفياتي السابق، وتفتيت البلدان العربية وممارسة التطبيع، دون مقابل، وانتفى بذلك شعار “الإسلام هو الحل” الذي طرحه الأخوان المسلمون في مصر، لأن برنامجهم لا يختلف في شيء عن برامج وممارسات من سبقهم، من حيث تنظيم دور الدولة وعلاقتها بالمواطنين كأفراد، وبالمجتمع، اعتمادا على الآية “ورفعنا بعضكم فوق بعض طبقات”، وتقديس الأثرياء وأصحاب المال والجاه، لعلهم يشغلون العاطلين والفقراء، وينفقون شيئا من أموالهم المكنوزة، في شكل زكاة، لزيادة الإنتاج والإستهلاك، ولم يخرج الإسلام السياسي عن النمط السياسي والإقتصادي السائد في عهد من سبقه، بل كان راشد الغنوشي ومحمد مرسي أكثر تملقا لللإمبريالية والصهيونية وأرباب العمل والأثرياء، وأشد قمعا وحتقارا للعمال والفقراء في تونس ومصر  

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.