معين بسيسو، (غزّة، 1926-1984)..(ماياكوفسكي فلسطين) / عز الدين المناصرة




معين بسيسو، (غزّة، 1926-1984)..(ماياكوفسكي فلسطين)الصورة : معين بسيسو …

عز الدين المناصرة ( فلسطبن ) الجمعة 13/4/2018 م …

** (من لم تودّع بنيها بابتسامتها.. إلى الزنازينِ، لم تَحْبَلْ ولم تَلِدِ)
مقدمة:
– لابد من منهجية موضوعية جديدة، بعيدة، عن روحية تصفية الحسابات والانتقام السياسي عند قراءة شخصية مهمّة مثل معين بسيسو: الشاعر والمسرحي، والباحث، وكاتب المقالة، والمناضل السياسي. أمّا أن نلخّص الأمر تلخيصاً تلفيقيّاً بأنّ معين بسيسو: (مجرد مثقف شيوعي كتب قصائد شعاراتية مباشرة، وكان موالياً مثل، محمود درويش، للرئيس ياسر عرفات)، فهذه هي الروحية الانتقامية في النقد الأدبي الحديث، التي لا نرغب في تكريسها لمعالجة شخصية كهذه أو غيرها، مهما كان انتماؤها الإديولوجي، سواء أكانت هذه الشخصية: عروبية قومية أو يسارية أو إسلامية أو وطنية أو ليبرالية أو غيرها:
أولاً: عند تقويم شاعر، لابُدَّ أن يكون الحكم مُستنداً إلى قراءة منهجية لنصوص الشاعر، وليس لحكم السماعي الشفاهي، (المنجز النصّي)، الذي نقتنصه من مقالة عابرة في صحيفة أو مجلة أو ثرثرة في سهرةٍ أو مقهى. وهذا، أي قراءة النصوص، هو ما يتهرّب منه بعض النقاد. وبطبيعة الحال، ليس مطلوباً منّي، هنا، أن أقرأ النصوص، لأن المحاضرة، مخصصة للجانب التذكاري، فقط.
ثانياً: ثِّمة خلطٌ واضح في النقد الأدبي الحديث بين السيرة الذاتية، وبين النصوص. لهذا، فإن نصوص الشعرء الفلسطينيين ليست نصوصاً مقدّسة، بل يُفترض أن تخضع مثل غيرها لمبضع التشريح النقدي، بل يجب أن تحاسب مثل غيرها حساباً عسيراً، لأنّ ذلك سيكون لمصلحة تجديد الشعر الفلسطيني. ولا يجوز أن يظلّ أي شاعر فلسطيني في دائرة التقديس بأشكاله المتنوعة، مهما كانت أهمية هذا الشاعر أو ذاك. فإذا قبلنا هذا المبدأ، طبقّناه أيضاً على الشعر العربي الحديث، فكل الشعراء لهم ايديولوجياتهم السياسية، التي دافعوا عنها انطلاقاً من قناعاتهم. فلماذا تمَّ سلخ الشعر الفلسطيني الحديث من قبل النقاد عن حركة الحداثة الشعرية العربية؟؟!!، ولماذا تمّ حصر شعراء الحداثة الفلسطينيين في إطار (الفلسطنة) السياسية؟. هل تصفية الحسابات الحالية مع الشعر الفلسطيني (وَحْدَهُ)، هي تصفية نقدية أدبية صافية، أم أنّ المسألة تتعلق بصراع البعض مع فكرة الهوية الفلسطينية، وتخوفهم من دولة فلسطينية قادمة؟!!. وهل قرأ النقاد، النصوص الشعرية الفلسطينية أصلاً، قراءة جديّة من منظور الحداثة؟؟. كذلك، يبقى السؤال الجوهري: هل (الحداثة) هي نقيض (الوطنية)!!.
ثالثاً: لماذا النكران والجحود لدور الشعر الفلسطيني، الذي نقل الحداثة الشعرية العربية من مستوى النخبة الثقافية إلى الشارع منذ عام 1967. أليس هذا، هو ما حقق الاعتراف الجماهيري بالشعر الحديث، بدلاً من عزلته النخبوية!!!.
رابعاً: لماذا اختصار الحداثة الشعرية في (شاعر أوحد)، سواء في فلسطين أو في العراق أو في سوريا أو في لبنان.. أو غيرها، أليست هذه اللعبة لعبة إعلامية سياسية؟!!!.
خامساً: إن (مبدأ التجاور)، هو مبدأ موضوعي حين يتعلق الأمر بأجيال شعرية. رغم أن كلّ شعراء النصف الثاني من القرن العشرين، هم أبناء جيل واحد وحركة واحدة في النهاية: من نزار قباني، حتى آخر شاعر شاب.
والحق يقال: إن العالم في ظل النظام العالمي الجديد، يرغب في قتل النكهة الروحية للشعر، باستبدالها بحداثة صناعية. ويرغب في إبعاد الفنون عن المفهوم الجماهيري باتجاه النخبة. ويرغب في العزلة وتدمير الجماعي لمصلحة الفردي، لكي يتحول العالم إلى فسيفساء يسهل ترويضها والهيمنة عليها عند الضرورة. ولا نستطيع أن نعزل كل هذا عن الميل الواضح للاعتراف بشرعية دولة إسرائيل، بعيداً عن مفهوم الحق والعدالة الفلسطينية، التي آمن بها عدد من رموز حركة الحداثة الشعرية العربية في المرحلة السابقة. فالدعوة للحداثة، ارتبطت بالدعوة للسلام السياسي. ومن حق الشاعر أن يختار (النهج الجديد)، أو أن يبقى مستمراً في (نهج المقاومة الروحية). وهناك أيضاً (منظور ثالث)، يرى أن الحداثة لا تستورد، وأن السلام الحالي، سلام مصطنع لا مستقبل له، ومع ذلك، فلنترك دعاة السلام يجربون حظّهم، لكنني مؤمنٌ بأن اتفاق أوسلو، هو أسوأ اتفاق في القرن العشرين!. ثمّ، هل كان (شعراء الماضي القريب)، ينتمون لإيديولوجيات سياسية، في حين لا ينتمي الشعراء الشباب لأية أيديولوجية؟؟، أم أن الصراع الحقيقي، هو بين (قديم مهزوم)، أي فكرة التحرر الوطني والقومي، وبين (جديد منتصر)، أي أفكار النظام العالمي الجديد؟؟!!. ثمّ هل نربط ميكانياً بين الشعر والسياسية؟؟.
سادساً: مما لا شك فيه أن (أجمل) ما في الماضي القريب، سيبقى متجاوراً مع (أجمل) ما في الحاضر. وليس الجدل القائم جدلاً بين (ديناصورات) منقرضة، وبين (رخويات)، لم تستطع السباحة في البحر حتى الآن، بل هو جدل بين فكرتين.
– هذه ملاحظات سريعة، لا بدّ منها لوضع شخصية معين بسيسو وجيله في إطار تاريخي وموضوعي، وذاتي وعاطفي طبيعي:
– في يناير 1984 رحل ما أسميه: (مايكوفسكي فلسطين) معين بسيسو، منهك القلب في زمن فلسطيني صعب: (فأنت إنْ سكتَّ مُتْ / وأنت إنْ نطقتَ مُتْ / قُلها ومُتْ).
كان معين بسيسو يستحق لقب (شاعر مقاومة) منذ الخمسينات، أي قبل أن يروّج الإعلام العربي الرسمي والشعبي لهذا المصطلح بعد عام 1967. وظلّ معين يلهث وراء هذا اللقب، لكنّ النقد الأدبي الحديث والإعلام الرسمعي معاً، رفضا منحه هذا اللقب، حتى اعترفت به الثورة الفلسطينية المعاصرة في السبعينات شاعراً ثورياً، لكنها رفضت أن تمنحه اللقب، وهي مفارقة تاريخية!!. وبقي مصطلح (شعراء المقاومة) الملتبس، ملتصقاً بالشعراء: محمود درويش – سميح القاسم – توفيق زيّاد.. فقط. أما أسباب ذلك فهي سياسية، وليست شعرية. أمّا سبب كل هذا التأخر في الاعتراف بمعين بسيسو (شاعر مقاومة) هو أنه دشّن نفسه (شاعراً شيوعياً فلسطينياً)، عندما انتمى في الخمسينات للحزب الشيوعي (الفلسطيني في قطاع غزة)، ولكلمة (الفلسطيني) هنا دلالة خاصة، لأن هذا الحزب الشيوعي الفلسطيني، كان مختلفاً في كثير من مواقفه أو بعضها مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، الذي كان يضم إلى وقت قريب نخبة من المثقفين الفلسطينيين، (والذي يعترف بشرعية!! دولة إسرائيل مع ضرورة إقامة دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل). وظلّ معين، شاعراً محظوراً، طيلة الخمسينات والستينات، لأنه شيوعي فلسطيني. وحين كانت موجة العداء للشيوعية، تعمّ الوطن العربي بأسره، ظل معين يجاهر بشيوعيته ويفخر بها، مما أكسبه مزيداً من الأعداء والأعدقاء، والأصدقاء. ولعلّ بعض النقاد قد ربط ميكانياً بين أديولوجيته الشيوعية، وخشونة شعره، مما ظلمه شاعراً. قد يقال: إن معين بسيسو، استفاد إعلامياً في أوساط الأحزاب الشيوعية العربية، وفي الاتحاد السوفيتي، وفي أوساط القيادة السياسية للثورة الفلسطينية، لكن هذه الاستفادة لم تكن بحجم الخسارة. لقد كان معين مناضلاً شيوعياً في قطاع غزة، مما جعل السلطات المصرية تودعه السجن عدة سنوات. وشارك مع جماهير غزة في مظاهراتها ضد مشاريع التوطين، كما كان معين دائم الحديث عن مراراته في السجون المصرية، ثم كتب عن هذه التجربة المرّة في كتابه الممتع (دفاتر فلسطينية)، وإذا كان أهلنا في قطاع غزة يتفقون ويختلفون حول قناعته الشيوعية، إلاّ أنهم يجتمعون حول شجاعته ووطنيته، وظلّ على إخلاصه للاتحاد السوفيتي حتى رحيله، حيث كتب كتابه (الاتحاد السوفيتي لي). لقد شارك معين بسيسو مع فدوى طوقان في بدايات حركة الشعر العربي الحديث. وكانت نماذجه في الشعر العالمي، هي: ماياكوفسكي، ونيرودا، وناظم حكمت. وقد قرأ الشعر العالمي عبر اللغة الإنجليزية، لأن معين كان قد تخرج عام 1952 في قسم الصحافة في الجامعة الأمريكية في القاهرة. ونشر معين قصائد جماهيرية، مثل (أنا إنْ سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في السلاح) و(قصيدة الأم)، و(نعم لن نموت ولكننا) و(الجواسيس الصغار/ سلّموني للجواسيس الكبار)، وقصيدة (القصيدة)، لكنه أيضاً، نشر مجموعات شعرية صافية بكاملها، مثل مجموعاته: (فلسطين في القلب/ الأشجار تموت واقفة / القتلى والمقاتلون السكارى)، وغيرها في الستينات وأوائل السبعينات. فهل قرأ النقاد هذه المجموعات من منظور بنيوي مثلاً؟؟!!. وترك لنا مجلداً من أشعاره يضعه مع كثير من الشعراء العرب في نفس المستوى. ويبقى السؤال: لماذا قرأوا معين بسيسو (الشاعر) على طريقة (…ولا تقربوا الصلاة…)، فالشاعر يعترف، بل ويفخر بجماهيريته الشعرية في بعض قصائده، ولكنه أيضاً قدّم لنا قصائد ذاتية صافية، فلماذا نختصر الأمر بأنه (شاعر جماهيري مباشر) فقط!!!. وقد ترك لنا ميراثاً مسرحياً شعرياً مهماً نشره في مجلد، فلماذا يتم تجاهله عند الحديث عن التأليف المسرحي الشعري؟!. كما ترك لنا ميراثاً ضخماً في مجال المقالة النثرية والبحث، فلماذا لا نقرأ معين بسيسو (الكاتب والباحث)؟!: كنا نخاطبه بنفس (لهجته الغزّاوية) المحببة الأصيلة، التي لم يتخلّ عنها حتى الرمق الأخير. كنا نمازحه وكأنه شاب في العشرين. وكان هو يحرص على مظاهر الشباب: الأناقة والقمصان الملوّنة والحذاء اللامع… وانشغال القلب بقصص الحب الحقيقية والوهمية. كان يطرب عندما نمتدح شبابه المتجدد. ومن باب الحرص على مظهر الشباب، كانت تتسربُ المبالغة المحببة في أحاديثه، فتتحول إلى قصص طريفة تكون حديث الخبثاء الطيبين في مجالس النميمة البيضاء. بعد خروجه من السجون المصرية بصفته شيوعياً فلسطينياً، أقام في قطاع غزة، وبقي فيه حتى عام 1966، حيث عاش في محطات كثيرة حتى عام 1984، منها: دمشق – القاهرة – بيروت – تونس. ففي دمشق، عمل في صحيفة (الثورة) السورية، وكان يكتب المسلسلات الإذاعية لإذاعة دمشق، كما كتب مسلسلا إذاعياً للإذاعة الأردنية عام 1971، بعنوان (نهر الأردن). وانتقل إلى القاهرة عام 1969، حيث عمل محرراً في القسم الأدبي في صحيفة الأهرام، عندما كان محمد حسنين هيكل رئيساً لتحريرها. وفي السنوات الأولى من السبعينات، انتقل إلى بيروت، حيث كان يكتب مقالاً أسبوعياً في مجلة (الأسبوع العربي). ومنذ العام 1974، انضم إلى الإعلام الفلسطيني الموحد. ونشر قصائده في مجلة (فلسطين الثورة)، وإذاعها في اذاعة صوت الثورة في بيروت، ووزّع قصائده عن طريق وكالة (وفا) للأنباء الفلسطينية، بتشجيع من الشهيد ماجد أبو شرار (مسؤول الإعلام الفلسطيني الموحد) آنذاك، وظلّ عضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين. كان معين بسيسو، مقرباً من القيادة السياسية لحركة فتح (ياسر عرفات- أبو إياد- ماجد أبو شرار) بشكل خاص، وكرّمه ياسر عرفات مع محمود درويش،  بمنحهما (درع الثورة للفنون والآداب) في السبعينات. وظلّ معين، صوت الثورة الجهوري ضد أعداء الثورة، كما امتدح في قصائده ومقالاته الشخصية، القائد العام ياسر عرفات. ولكن معين – في كل ما كتب – ظلّ يخاطب التاريخ، فكأنه كان يفكر بالتاريخ عند كتابته لأي مقال أو قصيدة، كما ظلّ معين مرناً في علاقاته الداخلية في الثورة. تولى رئيس تحرير (مجلة اللوتس)، الناطقة بلسان اتحاد الكتاب آسيا وإفريقيا، بترشيح من الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وكان مقرها بيروت، ثم انتقلت معه إلى تونس، وشارك معين في هيئة تحرير (جريدة المعركة) في حصار بيروت عام 1982، (التي كانت بدون رئيس تحرير)، عندما كنت مديراً منتخباً لتحرير هذه الجريدة. وغادر بيروت في اليوم الأول للخروج على ظهر سفينة – إلى قبرص، ثم إلى القاهرة. ثم أقام في تونس، حتى وفاته بنوبة قلبية أثناء زيارته الأخيرة للعاصمة البريطانية عام 1984. في عام 1965، نشرتُ مقالة طويلة في مجلة (الآداب) اللبنانية عن ديوان معين (فلسطين في القلب). كان معين، آنذاك يعيش في غزة، وكنت في القاهرة، ثم جاءتني رسالة منه تتضمن مديحاً لمقالتي عن ديوانه ودعوة لزيارة قطاع غزة – وذهبت بالفعل إلى إدارة الحاكم المصري في القاهرة، إلا أن إدارة الحاكم رفضت منحي تأشيرة الدخول إلى غزة، ولعلّي أتذكر أن صديقي (عبدالرحمن غنيم)، الطالب في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية آنذاك، (وصاحب دار الجليل للنشر في دمشق حالياً)، هو الذي ساهم في تعرفي بمعين بسيسو بريدياً. فقد كان عبدالرحمن غنيم (البعثي)، صديقاً مشتركاً لي ولمعين. وقد أثمرت هذه الصداقة المشتركة عن تعريف القرّاء في الضفة الغربية والأردن، بمعين بسيسو الشاعر، فقد أرسلتُ عام 1966، برسالة لمعين، تتضمن مجموعة من الأسئلة ليجيب عنها، وقد أجاب عنها باستفاضة مطلوبة، وقمت بنشر هذا (الحوار بالمراسلة) في (مجلة الأفق الجديد)، التي كانت تصدر في القدس الشرقية، عندما كنت مراسلها ومدير مكتبها في القاهرة، فلاقت المقابلة صدى إيجابياً في الضفة الفلسطينية والأردن. ثم استمرت المراسات والسلامات المتبادلة طيلة عام 1966. وكنت قد سمعتُ باسم معين لأول مرة عام 1959، عندما كنت طالباً بالمدرسة في الخليل. ثم التقيت معين بيسسو لأول مرة عام 1969 في القاهرة. وكان اللقاء حميماً في (القسم الأدبي لجريدة الأهرام)، حيث عمل معين محرّراً في هذا القسم. وما زلت أذكر تفاصيل ذلك اللقاء، فقد تعانقنا بحرارة، كأننا نعرف بعضنا منذ سنوات طويلة، كان معين يقوم بترجمة مقالات عن الرواية الإسرائيلية المعاصرة، نشرتها مجلة (جويش كرونيكل) البريطانية، وقد أصدر هذه المقالات في كتاب لاحق. تحدثنا في أمور كثيرة وامتدح هو – ديمقراطية محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام، ووصفه لي بأنه عقلية تنويرية. وأصبح مكان اللقاء، إما في الأهرام، أو في مقاهي القاهرة. دعاني ذات مرة في مطلع 1970 لحضور عرض مسرحيته (ثورة الزنج)، التي عرضت في أحد مسارح القاهرة، ولم أكن قد قرأت النص، واكتشفت فيما بعد أن النقد المسرحي، لم ينصف معين بسيسو المسرحي. لقد كان مسرحه ناجحاً بكل المقاييس النقدية. كان معين في تلك الايام، يحكي عن صداقاته وعداواته بحرارة فائقة. وكم فرح كطفل عطش للاعتراف، عندما ردّدت عليه بعض أبياته الشعرية (من لم تودّع بنيها بابتسامتها… إلى الزناوين، لم تحبل ولم تَلِدِ). وقد ظلّ معين يحمل مرارة في صدره وفي شعره، لكنه ظلّ حتى في السبعينات، يعتبر القصيدة مثل المنشور السياسي يجب أن تصل إلى الجماهير. لهذا لم يحدث أن وقع تحت تأثير (موضات  بيروت الشعرية)، رغم أنه كان يعيش في بيروت. كان يترك مسألة الحوار مع أنصار الحداثة اللبنانية، لي، كما قال ذات مرة، حيث كانت تربطني علاقة طيبة مع هؤلاء الشعراء. ولم يحدث أن اختلفت مع معين بسيسو باستثناء مرّة واحدة. وذلك عندما طلبت من (أدونيس) ان يكتب لمجلة فلسطين الثورة عام 1976، فرحب أدونيس بهذا الطلب. عندئذ قال لي رئيس التحرير: (خلّصْ حالك مع معين، لأن القيامة ستقوم!)، وكان معين يكتب مقالاً أسبوعياً لفلسطين الثورة. وقامت القيامة فعلاً، عندما عرف بالخبر، مع هذا استطعتُ أن اقنع معين بأن مقالات أدونيس كانت مكسباً للثورة في ذلك الظرف المحدد. والحقيقة أن معين لم يقتنع، بل تظاهر بالاقتناع، لأنه كان يذكرني لاحقاً – ولو من باب المزاح – بخطيئتي هذه!!!. بعد عام 1973، كنت ألتقي معين باستمرار في بيروت، أو في جمهورية الفاكهاني، والجامعة العربية، وصبرا وشاتيلا. وكان يتردد باستمرار على مكتب مجلة “فلسطين الثورة”، وبشكل خاص على مكتب ماجد أبو شرار. كان يسلمني مقاله الأسبوعي للمجلة أو قصائده الجديدة لنشرها. ويوصيني هامساً في أذني – بضرورة خروج القصيدة بشكل لائق، وكنت أفعل ذلك عن قناعة تامة بأهمية معين الشاعر. وكان – عادة – ما يقرأ قصيدته أمام ماجد قبل نشرها، أو يذيع في مكاتب الثورة أن هناك قصيدة تكتب، وكنا نمازحه أحياناً حول قصائده، مثلاً: في عام 1975 أجرى معي الصحافي طلال رحمة، والصحافي سليم بركات، مقابلة نُشرتْ في مجلة “الحوادث” اللبنانية، تحدثت فيها عن الشعر الفلسطيني، وقيّمت شعر معين تقويماً ايجابياً عالياً. ففرح معين كثيراً، وعندما زار “فلسطين الثورة”، قال الشباب له مازحين: “لعل عزالدين المناصرة هو شاعر المقاومة الفلسطينية الأول، منذ الآن”، مشيرين إلى تقييمي الإيجابي لمعين في “الحوادث”، فصمت معين قليلاً: ثم قال: (طبعاً، بعد معين بسيسو)، فقال الشباب يخاطبونني: ألم نقل لك ذلك، لقد ارتفعت أسهمك بعد المقابلة. كنت في الحقيقة حريصاً على تقدير واحترام (معين) بسبب تجربته الثورية وتراثه الشعري العريق، ولعل تأخر تقييم معين كشاعر مقاومة، يعود إلى أن الرجل مثل كل شعراء الثورة الفلسطينية في المنفى، قد دخل الحياة اليومية للثورة بمتناقضاتها الإيجابية والسلبية، حيث كان العمل الفلسطيني في بيروت يطالبنا بشروط مثالية، قد تكون صعبة على إنسان يخطئ ويصيب، خصوصاً عندما لا يكون صاحب القرار في الثورة. وقد بقيت على اتصال بمعين طيلة السنوات التالية، وأذكر أنه كان ودوداً جداً تجاهي بعد ان رحلتُ إلى صوفيا، وقد شاركت في مهرجان الشقيف الشعري في  يناير 1981، قابلني بالترحاب الشديد، وكانت الصدفة أن أكون شريكه في أمسية الجامعة الأمريكية في بيروت مع سعدي يوسف وإلياس لحود، والشاعر الإسباني كارلوس الباريث. قرأ معين قصيدته “العام السادس عشر”، وقرأت قصيدتي “كيف رقصت أم علي النصراوية”. وكان قد حرص على قراءة قصيدته الجديدة بشكل خاص: لي ولمحمود درويش في زاوية من زوايا فندق البوريفاج قبل إلقائها في الأمسية، وكان يسميها “القصيدة”. وخلال فترة إقامتي في صوفيا، أرسل لي معين ذات مرة برقية يقول فيها، أنه سيحضر إلى صوفيا، وفعلا ذهبت مع “جوليانا” الفتاة البلغارية التي عينها اتحاد البلغار لتكون مترجمة لمعين. ذهبنا لاستقباله في المطار في الموعد الذي حدده في البرقية، لكن معين لم يحضر. وقد حزنت الفتاة حزناً كبيراً، فقد كانت تعد دبلوم تخرجها عن الشعر الفلسطيني، وكانت تتوق لمقابلة معين. وكان معين معروفاً لدى شعراء الاتحاد السوفييتي وأقرب الأصدقاء له، هو أناتولي سوفرونوف، وتعرف معين أيضاً على ايفتوشتكو، وعلى عدد من المثقفين السوفييت، وترجمت أشعاره إلى الروسية، وكتبت عنه وعن شعره مقالات في الصحافة الروسية. وكان معين قد بدأ بكتابة المخطوط “الاتحاد السوفيتي لي”، ولا أعرف إذا ما كا قد استكمله أم لا. وكان معين مرشحاً أو أقرب المرشحين لنيل (جائزة لينين للآداب، وكان هذا الأمر قابلاً للتحقق، لكنه فوجئ بأن عرفات قد رشّح شاعراً آخر، حصل على الجائزة. وسبق لمعين أن حصل على جائزة اللوتس. في بيروت وقبل الحصار بشهور كنّا نتزاور في “اتحاد الكتاب” أو في مكتبه في الروشة، المطل على البحر، حيث مقر “اللوتس”، التي كان معين، رئيس تحرير الطبعة العربية فيها. أو نلتقي في مكتبي في “مجلة شؤون فلسطينية” في مركز الأبحاث الفلسطيني، وكان حريصاً على أن يصحب معه في زياراته (الشاعر الباكستاني  المناضل فايز أحمد فايز). ودعاني مرات عديدة للكتابة في “اللوتس” ولم افعل من باب الكسل، بل دعاني للعمل معه في “اللوتس” كمدير تحرير، لكنني لم أستطع – وحرص على تعريفي بالوفد الروسي، برئاسة (سوفرونوف)، الذي كان في زيارة لبيروت، وحرص على تعريفهم بشعري، وطلب من سوفرونوف أن يقوموا بترجمة وإصدار مجموعة شعرية مختارة من شعري، ورحب سوفرونوف والوفد المرافق له، لكن ذلك لم يحدث. وقد كنت أمازحه حين يكون حاضراً. ويسألني الشباب: لماذا لم تترجم أشعارك إلى الروسية، فأقول لهم بحضور معين: نحن تحت رحمة معين، فهو صاحب القرار في الاتحاد السوفييتي. ازدهر معين بسيسو خلال حصار بيروت، فهو شاعر المفاصل التاريخية، وكان محرضاً رائعاً بحماسه المعروف، خصوصاً في كتاباته في جريدة “المعركة”، بل وعاد شاباً متحمساً كأنه يقود تظاهرة في غزة. وكنا نحرص على تشجيعه واحترامه، ولم يكن هو بحاجة لذلك، فقد كان مواظبا على حضور جلسات تحرير جريدة “المعركة” كل يوم. وكان معين مبادراً ايجابياً من الطراز الأول، وكتب إضافة إلى مقالاته المنشورة باسمه الصريح، مقالات بأسماء مستعارة في “المعركة” (باسم)، وذلك منعاً لتكرار الاسم أكثر من مرة. وشوشني معين كالعادة أن اهتم بإخراج مقاله بشكل لائق باعتباري مديراً لتحرير(المعركة)، وكنت قد اتخذت قراراً مع الزملاء أن ينشر اسم الكاتب في أسفل المقالة، سواء أكان الكاتب كبيراً أو ناشئاً، وطبقت ذلك على الجميع بمن فيهم معين ودرويش وأنا ورشاد أبو شاور وسعدي ويوسف وحيدر حيدر… الخ، فقلت لمعين: إن القارئ، هو الذي يحدد أهمية الكاتب أو أهمية المقال، ومن واجبي أن أهتم بمقالك، مثلما أهتم بأي مقال، فوافقني والتزم هو بذلك طيلة صدور “المعركة”، بل ودافع عن وجهة نظري. وخلال الحصار نشر قصيدته المشتركة الضعيفة مع درويش “رسالة إلى جندي إسرائيلي”، وكان الرأي الجماعي، فيها سلبياً، لكنني احتفظت بموقف الصمت، لكن معين ظل يلاحقني كطفل بريء لمعرفة وجهة نظري في القصيدة: فأبلغته وجهة نظري، وأنا أضحك، فغضب وثار وقال لي: الجماهير معجبة بالقصيدة. فقلت له: من قال لك ذلك، ويمكنك أن تسأل رشاد عن رأي المقاتلين، فهو قد عاد قبل قليل من خطوط القتال. حينئذ التفت لرشاد، فقال له رشاد ضاحكاً مقلداً لهجة معين الغزاوية: (الحقيقة – القصيدة يا أبو توفيق لم تعجب المقاتلين)، فثار مرة أخرى، ثم هدأ وقال: أنتم أحرار في رأيكم. وعاد معين يضحك: ما دامت “القصيدة”، لم تعجبكم، فلماذا لا نشرب القهوة، على الأقل، أين قهوتكم، فقلت له: حبيب قلبي أبو توفيق، القهوة جاهزة. وظل معين يحضر جلسات هيئة التحرير بحماس وشجاعة، حتى بعد أن ضرب مقر الجريدة بقذيفة وغيرناه إلى مكان آخر. زرناه عدة مرات في بيته المطل على البحر، وكنا دائما نجد معه فايز أحمد فايز، الذي عاش الحصار معنا، رغم أنه كان قادراً على الخروج. ولاحظت الاهتمام الإنساني الرائع من قبل معين به. وكان معين يهتم بشؤون عائلته، إضافة لوالديه الكهلين، مما جعله يتحمل مسؤولية نقلهم من مكان لآخر، بعد ضرب بيته من قبل السفن الإسرائيلية الراسية في البحر. وكان يعجبني فيه حماسته وشجاعته. وفي اليوم الأول للخروج من بيروت، كنا في الملعب البلدي نودع الدفعة الأولى من المقاتلين، وكان (معين) قد قرر السفر معهم، حيث وصل إلى قبرص على ظهر السفينة، ثم القاهرة، ثم ارتحل مع عائلته إلى تونس. ورحلتُ على ظهر سفينة أخرى إلى ميناء طرطوس السوري، وكان على ظهر السفينة: (أبو إياد – أبو موسى – سعد صايل – أبو ماهر اليماني – ونادية لطفي). أية غربة قاتلة تنتظرنا، لقد افتقدنا معين وجلساته الشيقة ونكاته وقصصه ومبالغاته الجميلة: في أكتوبر 1982، ذهبتُ ويحيى يخلف إلى برلين الديمقراطية، لإجراء مباحثات مع الكتاب الألمان. وفوجئنا في مطعم الفندق، بمعين يجر من ورائه، سوفرونوف، وفايز أحمد فايز، والكاتب الإفريقي الكسي لاغوما. تعانقنا، حكينا عن غربتنا الجديدة، قضينا أياماً جميلة في أحضان برلين. وكان معين قد قدم إلى برلين لحضور اجتماع مجلة اللوتس. كنا لا نكف عن ممازحته صباح مساء، ولا نتوقف عن إطراء شبابه، وهذا يفرحه. واقترح أصدقاء لنا أن أقوم بمغازلة مترجمة معين الألمانية الجميلة، لكنني خفت أن تنقطع العلاقات مع أبي توفيق، فأصبح في نظره شاعراً من الدرجة الثانية!!. في تلك الرحلة الألمانية رتّبنا مقلباً له أنا ويحيى، حيث قمتُ باستفزازه قائلاً: (دائماً تزعم لنا يا أبا توفيق، أنك صاحب القرار الأول والأخير في مجلة اللوتس، وها نحن نراك تسير وراء الكسي لاغوما، لماذا لا تحاول الاستيلاء على منصبه)، وفوجئت به يجيبني: (يا خو… صبركو علي… ما… أنا بحفر… لو!!)، وذهبت هذه الجملة مثلاً. ومنذ ديسمبر 1983، حيث أقمتُ في تونس، بقيت على صلة بمعين: سهرات، وحزن، ومناقشات أوتيل سلوى، المعتقل الجديد للفلسطينيين. وفي آب 1983 كنت أجلس في مقهى مع توفيق فياض، والمغنى الأمريكي دين ريد، حين أقبل وصافحني بحرارة واتفقنا على اللقاء، لنفترق. وفي الخامس من أيلول 1983، غادرت تونس نهائياً للعمل كأستاذ في جامعة قسنطينة بالجزائر، وفي ذلك اليوم حرصت على وداع معين، وكان هذا الوداع، هو اللقاء الأخير. وفي عام 1988، شاركتُ في مهرجان شعري، بتونس في ذكرى رحيل معين، حيث قدمتُ من الجزائر. وفي عام 1989، أشرفتُ على أطروحة ماجستير للطالب الفلسطيني بسام أبو بشير، بعنوان: معين بسيسو (حياته وشعره، ومسرحه الشعري)، قدّمها لجامعة الجزائر المركزية. وحصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها. صدرت لمعين بسيسو، الأعمال التالية: المسافر، 1952، المعركة، 1952، الأردن على الصليب، 1957، فلسطين في القلب، مارد من السنابل، 1967، الأشجار تموت واقفة، كرّاسة فلسطين، 1966، قصائد على زجاج النوافذ، القتلى والمقاتلون والسكارى، 1970، جئت لأدعوك باسمك، 1971، آخر القراصنة من العصافير، حينما تمطر الأشجار، الآن خذي جسدي كيساً من رمل، القصيدة، 1983. وله في المسرح الشعري: مأساة جيفارا، 1969، ثورة الزنج، 1970، شمشون ودليلة، 1970، الصخرة، العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، محاكمة كتاب كليلة ودمنة.
– المفارقة السوريالية، هي أنني دُعيت للمشاركة في (مهرجان معين بسيسو الشعري) في ذكرى رحيله عام 1988 في تونس.
________
•    محاضرة نذكارية، أُلقيتْ في (منتدى مؤسسة شومان – عمّان)، شارك فيها (عزالدين المناصر – فيصل حوراني – شريف الحسيني)- بتاريخ (30/1/1995).

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.