اﻹنسانية مدينة، وستبقى، لثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا / نعيم الأشهب

نتيجة بحث الصور عن نعيم الاشهب

نعيم الأشهب ( فلسطين ) الأربعاء 18/4/2018 م …
إذا كانت ثورة أكتوبر رائدة في حياة البشرية، إذا استثنينا التجربة الخاطفة لكومونة باريس1771، فإن انهيار هذه التجربة الرائدة، بعد سبعين عاما، نتيجة لخروج العامل الذاتي في التطبيق على قوانين بناء المجتمع الجديد، تفرض بالضرورة على الطبقة العاملة وبخاصة اﻷحزاب التي مارست السلطة، خلال هذه التجربة في اﻹتحاد السوفييتي السابق ومثيلاتها في أوروبا الشرقية، إجراء مراجعة جادة وجريئة، لهذه التجربة الرائدة، لتحديد مواطن الخطأ والصواب.




** التوازن العسكري
حين انهار اﻹتحاد السوفييتي، نتيجة أخطاء قادته في اﻷساس، وليس نتيجة مواجهة عسكرية، انهارت وتفككت مختلف مؤسسات الدولة السوفييتية، عدا المؤسسة العسكرية، التي كانت قد أمّنت التوازن العسكري مع الوﻻيات المتحدة. واستنادا الى هذه الحقيقة الراسخة أمكن للرئيس الروسي، بوتين، اﻹعلان في 4/12/2014 “لن نسمح بتفوق أحد عسكريا علينا”. بمعنى آخر: فهذا التوازن العسكري الذي أتاح لروسيا أن تلعب، اليوم، دورا رئيسيا ومتعاظما في الحياة الدولية هو من اﻹرث الحي لثورة أكتوبر
اﻹنسانية مدينة في حريتها، والى حدّ بعيد، في سلامتها، لثورة أكتوبر.فلوﻻ وليد هذه الثورة التاريخية لما أمكن القضاء على الوحش النازي في الحرب العالمية الثانية، ولغدت اﻻنسانية مستعبدة له على مدى عقود طويلة. ومعروف في هذا السياق أن كلا من بريطانيا وفرنسا الرأسماليتين أبدتا الاستعداد، في ميونخ، عام 1938، للانحناء أمام شهوة هتلر التوسعية على حساب أراضي الغير.وفي أوج العدوان الهتلري على الاتحاد السوفييتي، طار “هس” أحد معاوني هتلر الرئيسيين، سرا، الى بريطانيا، لعقد صفقة مع تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، آنذاك، ضد اﻹتحاد السوفييتي، ولم يفشل هذه المؤامرة الدنيئة سوى نجاح اﻹتحاد السوفييتي في الكشف عنها وفضحها. وحين كانت جيوش هتلر تتغلغل في أراضي اﻹتحاد السوفييتي وتهدد عاصمته موسكو، تعمّدت دول التحالف الرأسمالية، بزعامة الوﻻيات المتحدة، تأخير فتح الجبهة الغربية، ﻹعطاء هتلر الفرصة الكافية للقضاء على اﻹتحاد السوفييتي إن استطاع ذلك. وحين جاء فتح هذه الجبهة، أخيرا،صيف العام 1944، كان ذلك حين تأكدت هذه الدول الامبريالية أن الجيش اﻷحمر السوفييتي دحر جيوش هتلر وراح يطاردها خارج حدوده، في أراضي الدول اﻷوروبية. وكان في مقدمة دوافعهم، من وراء فتح تلك الجبهة، الخشية من أن يحرر الجيش اﻷحمر كل أراضي القارة اﻷوروبية التي اجتاحها هتلر، بما في ذلك دول مثل فرنسا؛ مما يتيح الفرص الحقيقية أمام شعوب هذه البلدان لاختيار النظام الاجتماعي الذي يلبّي طموحها للعدالة الاجتماعية.
واليوم، تكرر الدول اﻹمبريالية الغربية، بزعامة الوﻻيات المتحدة، نفس هذا السلوك المشين؛ فإذا كانت هي المسؤولة عن نشوء عصابات اﻹسلام السياسي مثل داعش والنصرة، واﻹيعاز لدول الخليج الرجعية بتولي مهمة تمويل هذه العصابات وتسليحها؛ فإنها حين أدركت أن نهاية سيطرة هذه العصابات، على اﻷراضي السورية والعراقية، غدت في حكم المحسومة، راحت هذه الدول تتظاهر بالحرص على المشاركة في عملية تصفية هذه العصابات، علما بأنها لم تحرك ساكنا حين كانت هذه العصابات تستولي على قرابة نصف اﻷراضي السورية وثلث اﻷراضي العراقية، وترتكب أبشع الجرائم التي عرفتها اﻹنسانية في اﻷزمة الحديثة، من قطع الرؤوس وسبي البشر وبيعهم في سوق النخاسة، وانتزاع اﻷطفال من أمهاتهم وتدمير اﻵثار التاريخية التي ﻻ تعوّض وغيرها من الجرائم؛ بل كانت هذه الدول، حينها، تعتبر هؤﻻء المجرمين طلاب حرية!.وليس هذا التحوّل الكاذب إﻻّ بغرض السعي لتأمين “مسمار جحا” لهم في كل من سورية والعراق، ما بعد تصفية سيطرة هذه العصابات. بمعنى آخر: هم يراهنون على استثمار هذه العصابات في كلا الحالين: إذا انتصرت وإذا انهزمت.
وفي اﻷيام اﻷخيرة للحرب العالمية الثانية، بعد استسلام ألمانيا النازية بلا قيد وﻻ شرط، بعد أن دخل الجيش اﻷحمر وحده برلين ورفع علمه فوق الرايخستاغ، قامت إدارة الرئيس اﻷميركي، آنذاك، ترومان، بإلقاء قنبلتين نوويتين، على كل من مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، ما أدى الى قتل وتشويه مئات اﻷلوف من سكانهما، دون أي مبرر عسكري لهذه الجريمة التاريخية، حيث كانت الجيوش اليابانية في حكم المستسلمة. لكن الهدف الحقيقي من وراء ذلك كان توجيه إنذار لشعوب العالم، وفي المقام اﻷول اﻹتحاد السوفييتي، بأن من ﻻ ينحني أمام اﻹرادة اﻷميركية سيواجه الفناء الجماعي بالسلاح النووي، الذي كانت الوﻻيات المتحدة، حينها، تحتكره وحدها. لكن ما أن بلغ العام 1949، حتى كان وطن أكتوبر يمتلك هذا السلاح، ويكسر احتكار الوﻻيات المتحدة له ؛ وكان هذا أعظم إنجاز عسكري في العصر الحديث، يعود له الفضل المطلق في عدم تكرار جريمتي هيروشيما وناكازاكي أوﻻ، وثانيا:عدم اندﻻع حرب عالمية ثالثة حتى يومنا هذا؛ وثالثا، شكّل امتلاك اﻹتحاد السوفييتي للسلاح النووي حجر اﻷساس في تحقيق التوازن العسكري بين القطبين العالميين، السوفييتي واﻷميركي ؛ ولهذا التوازن يعود الفضل في تأمين المناخ الدولي المطلوب، للقضاء على نظام الاستعمار الكولونيالي الوحشي، وفتح المجال لوﻻدة عشرات الدول المستقلة سياسيا في آسيا وإفريقيا.
وحين انهار اﻹتحاد السوفييتي، نتيجة أخطاء قادته في اﻷساس، وليس نتيجة مواجهة عسكرية، انهارت وتفككت مختلف مؤسسات الدولة السوفييتية، عدا المؤسسة العسكرية، التي كانت قد أمّنت التوازن العسكري مع الوﻻيات المتحدة. واستنادا الى هذه الحقيقة الراسخة أمكن للرئيس الروسي، بوتين، اﻹعلان في 4/12/2014 “لن نسمح بتفوق أحد عسكريا علينا”. بمعنى آخر: فهذا التوازن العسكري الذي أتاح لروسيا أن تلعب، اليوم، دورا رئيسيا ومتعاظما في الحياة الدولية وتستعيد موقعها كقطب رئيسي، وكان الرائد في كسر معادلة القطب اﻷميركي اﻷوحد .. هذا الدور الذي يتجلّى، اليوم، بوضوح خاص في منطقة الشرق اﻷوسط، حيث زمام المبادرة، الدبلوماسية والعسكرية، في اليد الروسية، هو من اﻹرث الحي لثورة أكتوبر، الذي استعصى على الثورة المضادة التي قادها غورباتشوف ويلتسين.
وما أن انهار اﻻتحاد السوفييتي، ومعه النظام الدولي ثنائي القطبية لتبقى الوﻻيات المتحدة القطب الوحيد، حتى بادرت اﻷخيرة الى تشكيل محور إمبريالي، قوامه دول اﻻتحاد اﻷوروبي واليابان الى جانب الوﻻيات المتحدة ذاتها،هدفه الحيلولة دون إفلات بقية شعوب الكوكب من دائرة نفوذ ونهب هذا المحور اﻹمبريالي، وسدّ الطريق على انطلاق هذه الشعوب على دروب التطور المستقل، حتى في إطار النظام الرأسمالي ذاته. وقد جند هذا المحور لهذا الغرض اﻹمبريالي، كل قدراته المشتركة الهائلة، لشن الحروب العدوانية، وفرض العقوبات المتنوعة، والحصار المتعدد اﻷشكال، ضد كل من يتمرد على إرادة هذا المحور اﻹمبريالي. وفي هذا اﻹطار، شنت الوﻻيات المتحدة ثلاث حروب في الشرق اﻷوسط حصرا، من العام 1991 وحتى العام 2003.
وغني عن القول أن هذه الحروب العدوانية كانت أحد مظاهر عربدة الوﻻيات المتحدة، في الفترة القصيرة التي انفردت فيها كالقطب العالمي اﻷوحد ؛ لكن هذه الفترة لم تعمّر طويلا، وبخاصة بعد أن ولّت مرحلة يلتسين المظلمة، وراحت روسيا تنهض من كبوتها، وفي الوقت ذاته، راح يتصاعد تصدّي الشعوب الطامحة للتحرر والإنطلاق على دروب التطور المستقل، لسياسة محور الهيمنة والنهب اﻹمبريالي، ما أسفر عن وﻻدة عالم متعدد اﻷقطاب، يحلّ محلّ القطبية اﻷميركية المنفردة. واليوم تقف على رأس جبهة التصدي لممارسات المحور اﻹمبريالي بزعامة الوﻻيات المتحدة، مجموعة من الدول تقودها قوى قومية، في الصف اﻷول منها كل من روسيا والصين. وترسي هذه الجبهة علاقات دولية جديدة، تنافس وتتحدّى تلك التي ينتهجها المحور اﻹمبريالي. وفي إطار هذه العلاقات الدولية، تتمسك هذه الجبهة بالشرعية الدولية وتدافع عنها، بمقدار ما يستهتر المحور اﻹمبريالي بهذه الشرعية وينتهكها.
** من مملكة الضرورة الى مملكة الحرية
لم تكن ثورة أكتوبر، من الناحية التاريخية، تكرارا أو شبيها ﻷي من الثورات الكبرى التي عرفها تاريخ المجتمع البشري، منذ نشوء النظام الطبقي. فحتى الثورة الفرنسية الكبرى، 1789، على عظمتها، كان إنجازها اﻹجتماعي اﻹنتقال من نظام اﻹستغلال واﻹستعباد اﻹقطاعي الى بديله، اﻹستعباد واﻹستغلال الرأسمالي. بينما تميّزت ثورة أكتوبر وانفردت باستهدافها إنهاء إستغلال اﻹنسان ﻷخيه اﻹنسان؛ وكانت هذه نقلة نوعية فريدة في تاريخ المجتمع البشري كله، ونقطة تحوّل في مسار الجنس البشري نحو “اﻹنتقال من مملكة الضرورة الى مملكة الحرية” على حد قول ماركس . ولذلك، لم يكن مسغربا أن يثير انتصارها جنون وهستيريا طبقة اﻷسياد، أصحاب اﻹمتيازات، وبخاصة في أوروبا والوﻻيات المتحدة الرأسماليتين اللتين أخضعتا بقية شعوب العالم اﻷخرى للعبودية والنهب اﻹمبريالي . فقد تداعت هذه القوى، ومنذ اللحظة اﻷولى، لخنق تلك الثورة في مهدها. كان ونستون تشرشل، وزير الحرب البريطاني يصرخ آنذاك: “ﻻ بدّ من خنق هذه الدجاجة قبل أن تفرّخ في كل أوروبا”. وكما هو معروف، فقد تداعت جيوش اثنتين وعشرين دولة، بدءا من اليابان شرقا وحتى الوﻻيات المتحدة غربا، لخنق تلك “الدجاجة”، وفشلت. لكن هذا الفشل لم يكن نهاية المطاف. فحتى انهيار التجربة السوفييتية، لم تتوقف الدول الرأسمالية – اﻹمبريالية لحظة واحدة عن مساعيها للنيل من وليد هذه الثورة، وعرقلة تقدمه، بما في ذلك عبر الحصار والمقاطعة والتخريب والتجسس، بعد أن عجزت عن أخذه بالقوة، وأخيرا لجأت ﻻستنزافه، عبر سباق مجنون للتسلح كلّف اﻹنسانية تريليونات الدوﻻرات، على حساب تقدمها، وكل ذلك خشية من استكمال صورة النموذج البديل للرأسمالية، التي “تنضح الدم والصديد من كل مساماتها”، كما كان يقول ماركس.
في جميع مراحل النظام الطبقي، كانت عملية اﻹنتقال من نظام إجتماعي الى نظام اجتماعي آخر، ارقى منه في سلّم التاريخ البشري الصاعد، تتمّ كتتويج لعملية تطوّر تراكمي لوسائل اﻹنتاج، وبخاصة أدواته، وهي اﻷكثر ثورية. وتحدث الثورة اﻹجتماعية باﻹنتقال من نمط انتاج الى آخر أرقى منه ، حين يبلغ هذا التراكم مرحلة معيّنة، تغدو معها علاقات اﻹنتاج القديمة وجوهرها شكل ملكية وسائل اﻹنتاج، كابحا ومعرقلا لهذا التطور. وحين ينضج هذا العامل الموضوعي فإن عملية اﻹنتقال من نظام إجتماعي الى آخر، تتم على أيدي قابلة .. أي قابلة، تمثل العنصر الذاتي. وهذه القابلة غير مشروطة بمزايا وصفات خاصة في النظام الطبقي . ويتم هذا الانتقال سواء بالعنف أو بدونه، وبقفزة واحدة أو بالتدريج . ويصدق هذا التوصيف على جميع عمليات الانتقال في اﻷنظمة الطبقية التي مرّ بها المجتمع اﻹنساني.
لكن اﻷمر مختلف تماما، فيما يتعلق بعملية الانتقال من الرأسمالية الى اﻹشتراكية، من نظام الاستغلال الطبقي الى نظام خال من هذا الاستغلال، من نظام العداء بين طبقات المجتمع الى نظام التعاون والانسجام بينها الى أن تذوب الفوارق بين هذه الطبقات بالتدريج، عبر عملية تاريخية طويلة، تتلاشى معها الفوارق بين العمل العضلي والعمل الذهني وبين الريف والمدينة.
بمعنى آخر، فعملية الانتقال من الرأسمالية الى اﻹشتراكية هي عملية واعية مئة بالمئة، وﻻ مكان فيها للعفوية.أي أن هذه العملية تمثل علامة التحوّل في تاريخ المجتمع البشري بين النشاط العفوي والنشاط الواعي ؛ إذ ﻻ مكان للعفوية في عملية بناء النظام اﻹشتراكي، بخلاف كل ما سبقه من أنظمة اجتماعية طبقية. وهذا يضاعف من أهمية العامل الذاتي، المنوط به قيادة عملية تحول المجتمع من الرأسمالية الى اﻹشتراكية، مما يفترض توفر صفات خاصة لهذا العامل الذاتي – “القابلة”- التي ﻻ تنتهي مهمتها عند مجرد وﻻدة المجتمع الجديد، بل وتتولّى قيادة عملية بناء النظام الجديد، خلال مختلف مراحله. ويعود ذلك حصرا الى أن عملية البناء هذه، تجري وفقا لقوانين موضوعية للاقتصاد اﻹشتراكي تقوم على التخطيط الواعي .وليس كما كان الحال في اﻷنظمة الطبقية السابقة له. وهذه “القابلة” هي حزب ثوري يحمل برنامجا علميا واضحا لبناء المجتمع الجديد. ويمثل هذا الحزب الطبقة العاملة (بالمفهوم الماركسي لهذه الطبقة، أي كل من يبيع قوة عمله العضلي أو الذهني) والتي ﻻ تملك، في النظام الرأسمالي، إﻻّ قوة عملها للبيع في السوق، والتي هي في الوقت ذاته، الطبقة المنتجة في المجتمع الرأسمالي، والقادرة وحدها على تصفية العوائق التي راكمتها الملكية الرأسمالية لوسائل اﻹنتاج في وجه انطلاق قوى اﻹنتاج العصرية بكامل طاقتها لصالح الجنس البشري، وذلك بتحويلها ملكية وسائل اﻹنتاج من ملكية خاصة الى ملكية عامة للمجتمع كله.. هذه الطبقة التي حين تتحرر، تحرر معها بقية طبقات المجتمع، لكونها تشكل قاعدة المجتمع البشري المعاصر، وتقع في أسفله.
**العامل الذاتي بين الضرورة والأخطاء
ﻹدراك اﻷهمية الخاصة لدور العامل الذاتي في عملية تحوّل المجتمع الرأسمالي الى اﻷشتراكية من جهة، وخلال كامل مرحلة بناء اﻹشتراكية من الجهة اﻷخرى، يكفي ملاحظة أن العديد من البلدان الرأسمالية المتطورة قد نضجت موضوعيا، ومنذ عقود طويلة، للتحوّل نحو اﻹشتراكية، لكن عدم توفر العامل الذاتي – الحزب الثوري – المنوط به قيادة هذا التحوّل، يحول دون ذلك، ويستبقي مجتمعات هذه البلدان غارقة في أزماتها التي يولّدها ويفاقمها دون توقف النظام الرأسمالي المأزوم السائد فيها.
وبالمقابل: فأخطاء هذا العامل الذاتي وخروجه على القوانين العلمية لبناء اﻹشتراكية كان كفيلا بانهيار التجربة اﻹشتراكية في اﻹتحاد السوفييتي بعد سبعين عام. ولكن برغم هذا التطور النوعي في دور العامل الذاتي في العملية الثورية، يظل العامل الموضوعي هو اﻷساس في مختلف مراحل تطور المجتمع البشري . واليوم، تسهم الرأسمالية، رغم إرادتها، حين تنقل الكثير من نشاطاتها اﻹنتاجية الى حيث قوة العمل الرخيصة نسبيا، وحيث تسرّع عملية العولمة الرأسمالية، ركضا منها وراء المزيد من الربح .. تسهم في إنضاج هذا العامل الموضوعي للثورة اﻹجتماعية، على نطاق العالم كله.
بمعنى آخر: بمقدار ما يتعاظم الدور اﻹيجابي للعامل الذاتي في تحقيق الثورة اﻹشتراكية، بمقدار ما يتعاظم التأثير السلبي لأخطاء هذا العامل الذاتي على هذه العملية الثورية الى حدّ إفشالها ولو بعد حين. مأخوذ في الحسبان أن التجربة السوفييتية كانت رائدة ولم تسبقها تجارب يستفيد العامل الذاتي من دروسها، إذا استثنينا تجربة كومونة باريس التي لم تعمّر إﻻّ بضعة أسابيع،علاوة على أن هذه التجربة السوفييتية جرت في مجتمع لم يكتمل نضوجه اقتصاديا – اجتماعيا لمثل هذا التحوّل؛ لكن نجاح ثورة أكتوبر يؤكد، من جانب آخر،أهمية دور العامل الذاتي في إنجاح مثل هذه الثورة رغم عدم نضوج المجتمع الروسي،آنذاك، لمثل هذا التحوّل، وذلك باستغلال العامل الذاتي لظروف استثنائية طارئة كانت كافية ﻹنجاح نقل السلطة من يد الحكومة البرجوازية ليد الطبقة العاملة، في حالة عالمية ملموسة اشار اليها لينين في مؤلفه الشهير”اﻹمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، من حيث ترابط اﻹقتصاد العالمي الذي أحدثته الرأسمالية في مرحلة اﻹمبريالية، مما وفر اﻹمكانية لكسر هذه السلسلة العالمية في أضعف حلقاتها.
وإذا كانت ثورة أكتوبر رائدة في حياة البشرية، إذا استثنينا التجربة الخاطفة لكومونة باريس1771، فإن انهيار هذه التجربة الرائدة، بعد سبعين عاما، نتيجة لخروج العامل الذاتي في التطبيق على قوانين بناء المجتمع الجديد، تفرض بالضرورة على الطبقة العاملة وبخاصة اﻷحزاب التي مارست السلطة، خلال هذه التجربة في اﻹتحاد السوفييتي السابق ومثيلاتها في أوروبا الشرقية، إجراء مراجعة جادة وجريئة، لهذه التجربة الرائدة، لتحديد مواطن الخطأ والصواب؛ ببساطة لوضع نتائج هذه المراجعة، التي ﻻ غنى عنها،أمام بناة اﻹشتراكية اللاحقين، حيث اﻹشتراكية مستقبل البشرية، وذلك لتجنب تكرار اﻷخطاء التي أدت الى انهيار تلك التجربة الرائدة واﻹستفادة من منجزاتها الناجحة، هذا من جهة ؛ ومن الجهة اﻷخرى لنقض وتفنيد الدعاية الرأسمالية التي حاولت زرع الوهم الكاذب بأن فشل التجربة السوفييتية هو تعبير عن كون المستقبل اﻹشتراكي للإنسانية هو مجرد وهم طوباوي وركض عبثي ﻻ طائل وراءه، وثالثا، لإعادة الوهج المضيء للمشروع اﻹشتراكي الواقعي، بعد تنقيته من اﻷخطاء التي أدت الى فشل التجربة السوفييتية الرائدة.
ومع ذلك، وبرغم فشل التجربة السوفييتية، فقد تركت هذه التجربة وراءها كنزا زاخرا من التجارب الناجحة في عملية انتقال المجتمع البشري من الرأسمالية الى اﻹشتراكية، ستبقى عنصر إلهام للإنسانية التقدمية ﻻ غنى عنه . فعدا انجازاتها التاريخية في الميدان العسكري، سواءا في مجال هزيمة النازية أو تحقيق التوازن النووي مع الوﻻيات المتحدة، كانت انجازاتها في الميدان اﻹجتماعي- اﻹقتصادي ﻻ تقلّ شأنا. فقد برهنت، عمليا، وليس نظريا فقط، أن الطبقة العاملة تستطيع وقادرة، بنجاح وتفوق، أن تأخذ السلطة وتدير الدولة بدون البرجوازية وضدها، وأن تبرهن عمليا وليس نظريا، تفوق التخطيط اﻹقتصادي اﻹشتراكي على فوضى اﻹنتاج الرأسمالي. وحين وقعت اﻷزمة الاقتصادية الكبرى، 1929 – 1933 كان اﻹتحاد السوفييتي هو البلد الوحيد في العالم الذي لم يتأثر بها، بفضل هذا التخطيط اﻹقتصادي اﻹشتراكي. وبفضل هذا التخطيط تحوّل اﻹتحاد السوفييتي من بلد زراعي – صناعي متخلف الى بلد صناعي- زراعي متقدم حتى أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، رغم آثار الحرب العالمية اﻷولى وحرب التدخل اﻹستعمارية، والمقاطعة والحصار من الدول اﻹمبريالية. وعاد اﻹتحاد السوفييتي، بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الدمار المريع ﻻقتصاده وفقدانه ﻹكثر من عشرين مليونا معظمهم من الشباب المنتج لينهض من جديد ويحتل، حتى أواسط ستينات القرن الماضي موقع القوة اﻹقتصادية الثنائية في العالم، ويكون الرائد في غزو الفضاء. إن هذه اﻹنجازات الباهرة ﻻ يمكن طمسها أو محوها من التاريخ أو من أذهان الطبقة العاملة وكل المظلومين، طلاّب التحرر اﻹجتماعي. وستبقى ثورة أكتوبر منارة مضيئة وعلامة فارقة في تاريخ اﻹنسانية كله.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.