الذكرى الثلاثون لاستشهاد أمير الشهداء خليل الوزير “أبو جهاد” / المحامية فدوى البرغوثي

الذكرى الثلاثون لاستشهاد أمير الشهداء خليل الوزير "أبو جهاد" بقلم:المحامية فدوى البرغوثي



المحامية فدوى البرغوثي ( فلسطين ) السبت 21/4/2018 م …
نستذكر هذه الأيام بكل الإجلال والإكبار والإعتزاز والتقدير الذكرى الثلاثين لاستشهاد القائد الكبير والمؤسس أمير الشهداء خليل الوزير “أبو جهاد” إلى جانب رفيق دربه الزعيم الخالد الشهيد ياسر عرفات.
الشهيد القائد أبو جهاد، النموذج والمثال والرمز والقدوة، إبن مدينة الرملة، تم تهجيره وأسرته منها فكان من بين ضحايا عملية التطهير العرقي والطرد الجماعي الذي تعرض له شعبنا عام 1948. وشهدها خليل الوزير طفلاً واحتفظت ذاكرته بمشاهد فظيعة من المجازر التي ارتكبت في عشرات البلدات والأحياء من دير ياسين إلى الطنطورة إلى يافا وحيفا واللد وكفر قاسم..، و طرد مئات آلاف الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم ووطنهم بقوة السلاح والقتل الجماعي، وعاش خليل الوزير مشهد الجموع تسير على الأقدام وسط إطلاق النار من العصابات الصهيونية ووسط صراخ الشيوخ والنساء والأطفال الذين كان واحداً منهم، ورأى بأم عينه مقتل المئات خلال المسير في وسط حالة من الذهول والعطش والدموع والصرخات والجوع.
ظلت هذه المشاهد محفورة في ذاكرة الوزير الطفل الذي وجد في مدينة غزة الملجأ والمأوى فأقام عند أقارب له يعيشون فيها منذ زمن. مبكراً تبلور وتجذّر الوعي الوطني لدى خليل الوزير من التجربة الشخصية المريرة ومن حياة البؤس واللجوء والقهر والإذلال والغضب في التجربة الجماعية لحياة اللاجئين. وأظهر الوزير بشكل تدريجي وعياً متميزاً ونشاطاً لافتاً وهو على مقاعد الدراسة الإعدادية، وأكثر فعالية وقوة في المرحلة الثانوية، وقد شهد في مطلع شبابه أحداثاً هامة في مقدمتها صعود الناصرية والحركة القومية العربية واشتعال الثورة الجزائرية المجيدة والعدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس، وبادر أبو جهاد في سن مبكرة جداً إلى تشكيل مجموعات مسلحة نفذت العديد من العمليات أوائل الخمسينيات من القرن الماضي وشارك شخصياً في تنفيذ العديد منها، مستلهماً الدروس من ثورة عام 1936 ومأساة النكبة والتطهير العرقي ومن صعود حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وتجربة الوحدة السورية المصرية والثورة الجزائرية.
بادر بعد ذلك إلى جانب رفاق دربه وفي مقدمتهم الشهيد الخالد ياسر عرفات إلى تشكيل النواة الأولى لحركة فتح وإطلاق مجلة “فلسطيننا نداء الحياة” في لبنان عام 1959 وأشرف على تحريرها منذ عام 1958، وبشكل متسارع بدأت تتبلور مجموعات فلسطينية كثيرة متناثرة تجتهد لمواجهة كارثة التطهير العرقي والنكبة، وتشكلت هذه المجموعات في المنافي والمخيمات والأقطار العربية، منها مجموعات تشكلّت في غزة والضفة والأردن، ومجموعات في سوريا ولبنان ومصر، وأخرى في الكويت وقطر والسعودية، وفي المانيا. وبدأت بشكل تدريجي تتبلور وتنتظم وتتأطر تحت إسم واحد: “حركة التحرير الوطني الفلسطيني –  فتح”. هذا التنظيم الذي ولد من تحت ركام ورماد النكبة ومن رحم الحركة الطلابية الفلسطينية ممثلاً بالاتحاد العام لطلبة فلسطين ومجموعة من الخريجين العاملين في دول الخليج ومختلف أماكن التواجد الفلسطيني، وبعد إنتصار الثورة الجزائرية وقبل الإعلان عن انطلاقة حركة فتح تمكن أبو جهاد من فتح أول مكتب للحركة في الجزائر ومن توفير فرصة لتدريب أبناء التنظيم فيها، ومن إقامة علاقات متميّزة مع الكثير من الحركات الثورية وغدت مقرات فتح ومعسكراتها في الجزائر قاعدة لمختلف حركات التحرر في العالم.
لقد آمن مؤسسي حركة فتح بأهمية وضرورة أن يمسك الفلسطينيون بزمام المبادرة، وأن يكونوا رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني، وبضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية واستقلال القرار الوطني وعدم الإتكال على النظام العربي الرسمي، وعدم انتظار إنجاز الوحدة العربية كشرط لتحرير فلسطين وهي الفكرة التي تحكمت في الوعي السياسي السائد آنذاك. وأدركت هذه الطليعة المؤسسة الأهمية التاريخية في التسريع بإطلاق ثورة مسلحة فلسطينية الوحي والقلب والعقل، وعربية العمق والإنتماء، إنسانية وعالمية الأهداف، وآمنت بوحدة الفلسطينين وباحترام قواعد مرحلة التحرر الوطني بتغليب التناقض الرئيسي مع المشروع الصهيوني على باقي التناقضات الإيدولوجية والفكرية والاجتماعية والسياسية الأخرى، وشكلّت الوطنية الفلسطينية لكل هذه الركائز عقيدة الفتحاويين الفكرية والسياسية والوطنية، وانخرط في حركة فتح مجموعات كبيرة وشخصيات وكوادر وطنية تركت أحزابها لتلتحق بفتح كإطار وطنيّ فلسطينيّ مستقل.
من اليوم الأول أدرك مؤسسو الحركة أنهم يسيرون عكس التيار الجارف، وأرادوا وفي مقدمتهم أبو جهاد وأبو عمار ورفاقهم أن تكون حركة فتح حركة تحرر وطني تؤمن بالتعددية، وأن التعدّدية داخلها هي سمة أصيلة وأمر طبيعي، وتشكّل مصدر قوة وإغناء لفكرها وتجربتها ونضالها، وأنّ الحركة لا تستقيم على تيار أو لون واحد، بل أنّ ثراء حركة التحرر وتجربتها المخضّبة بالدماء والعذابات والتضحيات تكمن في ألوانها المتعددة التي تثري الحركة وفكرها السياسي ورؤيتها وبرنامجها وأستراتيجيتها.  وآمن أبو جهاد كأبرز مثال على المدرسة العملية الجادّة أنّ على القائد في فتح أنّ يتقدم الصفوف وأن يكون في الخندق الأمامي في كل المعارك، وأن يبقى حاضراً في الميدان، وأن يتّسم بالصدق والأمانة والوفاء والإخلاص ونظافة اليد والشجاعة والإقدام والالتزام بروح القيادة الجماعية، وآمن أبو جهاد وبذل الجهد الكبير لبناء الثورة المسلحة المعاصرة، وبناء القوة الفدائية لحركة فتح، وقاد بجدارة وشجاعة القطاع الغربي (جهاز الأرض المحتلة) وأشرف على العمليات النوعية، وظلّ حتى النفس الأخير يطلق الرصاص مفعماً بالأمل وبالانتصار، لأن فلسطين سكنت عقله وقلبه ووجدانه بكل تفاصيلها، عاش في فلسطين ولأجلها ونذر حياته من أجل حريتها، لم ينشغل بالأمور الخاصة ولم يتسلل الشك واليأس إلى نفسه يوماً، وظل يؤمن حتى الثانية الأخيرة من حياته بصدقية العمل الثوري والمقاومة المسلحة لكنه كذلك كان يرى أهمية بالغة للعمل السياسي والدبلوماسي والنضال الشعبي والجماهيري، وكان يدرك طبيعة المشروع الصهيوني القائم على مبدأ القوة والإرهاب وعلى العدوان والتوسع.
أدرك أبو جهاد أهمية العامل الذاتي وضرورة ترتيب الجبهة الداخلية والحفاظ على وحدة الشعب والقضية ووحدانية التمثيل، والأهمية القصوى لوحدة حركة فتح والإصرار على أهمية الاصلاح والمحاسبة والمسائلة وإقصاء ومعاقبة كل من يرتكب مخالفة سلوكية أو أمنية أو مالية، وكان مسكوناً ومدركاً لأهمية الوحدة الوطنية، حيث قاد بنفسه الحورات مع الفصائل وكان بطل الوحدة الوطنية في دورة المجلس الوطني الثامنة عشرة التي تجسّدت في دورة المجلس الوطني التوحيدي التي عقدت في نيسان 1987، والتي كان لها دور وإنعكاس على وحدة الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل.
كان أبو جهاد يدرك وبشكل مبكر لأهمية بناء المؤسسات الفلسطينية داخل فلسطين وأهمية بناء التنظيم وتعزيز وحدة الشعب والنضال، خاصة أنه طوال حياته ومسؤولياته كانت الأرض المحتلة ساحته وأشرف على النضال فيها مما جعله أكثر أدراكاً ووعياً لمعادلة الصراع وأهمية تنوع أشكال النضال، وأن من أهم صفات أبو جهاد وتميّزه أنه ليس فقط قائداً ورمزاً ومرشداً ثورياً لشعبه بل كان كذلك تلميذاً متميزاً لهذا الشعب العظيم، وتعلّم أهمية الإصغاء لرفاق الدرب وأخوة المسيرة وللعاملين معه والمناضلين إلى جانبه وضرورة التشاور معهم بل والأخذ برأيهم ومقترحاتهم وإطلاق العنان للكوادر والقيادات واحترامها.  إن اطلاعه الكبير ومتابعته لنضال شعبه على أرض فلسطين وفهمه العميق لطبيعة التعقيدات والعقبات وكذلك للفرص والإبداعات التي نجحت الحركة الوطنية الفلسطينية في بلورتها في خضم الصراع مع الاستعمار الصهيوني، وانفتاح ذهنه على الممكنات الجديدة والتجارب اللافتة، إن ذلك يفسّر رؤيته الثاقبة والواضحة، ولهذا دعم بقوة المنظمات الجماهيرية وخاصة الشبيبة بمختلف فروعها وأشكالها، وساند النضال السياسي والنقابي والجامعات والإعلام والصحافة وكل أشكال الصمود والعمل الوطني.
خليل الوزير أبو جهاد  بقي في الصدارة ولم يهرب أو يتهرب أو يختبيء من المعارك يوماً،  لإيمانه العميق أن على القائد الحقيقي أن يكون في طليعة المقاتلين ومقدمة الصفوف، وهذا هو النموذج للقادة العظام أمثاله: ياسر عرفات وسعد صايل وحسن سلامة وأبو علي اياد وكمال عدوان والنجار وصيدم وثابت ثابت والكرمي وزلوم وعمارين وزياد أبوعين والصباغ وغيرهم الكثيرين من القادة الذين ارتقوا وهم في الصفوف الأمامية.  وحاول أبو جهاد دوماً الابتعاد عن الصراعات الداخلية لكنه لم ينجح بذلك في بعض الأحيان بسبب التعقيدات الداخلية لكنه في كل الأحوال ورغم المرارة في نفسه في بعض المراحل من تجربته الثورية إلا أنه ظل قابضاً على الأهداف الكبرى ولم ينزلق إلى الصغائر أبدا.
كانت الانتفاضة الشعبية الأولى واحدة من أهم المحطات في التاريخ الفلسطيني المعاصر، وفي حياة أبو جهاد الذي التقط اللحظة التاريخية وأدرك أن مرحلة جديدة قد بدأت في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية حيث انتقل ثقل النضال الفلسطيني وساحة المواجهة الرئيسية إلى الأرض المحتلة، وأدرك أن الانتفاضة الشعبية الكبرى هي شكل فريد وهام جداً من إبداعات شعبنا في الأرض المحتلة وأنها ولدت بفعل التراكم النضالي والمعرفي الذي نجم عن الثورة المسلحة المعاصرة، وأدرك أن الانتفاضة مرحلة جديدة وهامة في تاريخ الثورة الفلسطينية، وبمقدار ما شكل أبو جهاد مهندساً وملهماً ومسانداً للانتفاضة فقد شكّلت هي ملهماً له ولتجربته الثورية.
بعد إبعاد القائد والزعيم الوطني مروان البرغوثي، زوجي وشريك العمر ورفيق الدرب، إلتقى أمير الشهداء مباشرة وكان قد رافقه في رحلته الأخيرة قبل الاغتيال إلى ليبيا، وكان أبو جهاد قد طلب حضوري إلى تونس أو بغداد، وقد وصلت إلى تونس لسوء الحظ بعد أيام قليلة من اغتياله، فأنا لم التقيه شخصياً، لكنني عرفت أبو جهاد ربما أكثر بكثير ممن عاشوه مباشرة من خلال معرفة أبو القسام به وتواصله معه ومدى تقديره وحبه واحترامه له ولمبادئه وأخلاقه وسلوكه الثوري، خاصة أنهما كانا على تواصل منذ ما قبل إبعاد مروان إلى الخارج. مروان البرغوثي ربط دوماً بين السلوك والخطاب والنظرية والممارسة ورفض الفصل بينهما، فهنالك الكثير جداً من المشترك في شخصيتيهما، وقد حدثني أبو القسام عن أبو جهاد، أبو جهاد المؤسس والرمز والإنسان والقائد والأب، وعايش فترة مميزة من حياة أبو جهاد هي الشهور الأولى من الانتفاضة الأولى وكتب عن تفاعل أبو جهاد معها ووضع كل جهوده فيها ولها.  يقول أبو القسام إن الانتفاضة من أعظم ما أسعد وأدخل السرور إلى قلب أبو جهاد وربما كانت إشتعال الانتفاضة الكبرى عام 1987 من أجمل ما حلم به في عمره القصير زمنياً الطويل والثري جداً في العمل والعطاء والإنجاز.
يصّر أبوالقسام على أن مضمون السطور الأولى في الرسالة الأخيرة التي كان يكتبها أبو جهاد لحظة اغتياله كانت وما زالت سارية المفعول، وعنوانها “لنستمر بالهجوم.. لنستمر بالانتفاضة”، يؤمن أبو القسام بمبدأ وشعار لنستمر بالمقاومة الشاملة لنستمر في الكفاح والنضال بكل الاشكال والأساليب والوسائل حتى إنجاز الحرية والعودة والاستقلال، واستخدام اسلوب ما في مرحلة ما لا يعني إهمال الوسائل الأخرى أو التخلي عنها وانما الحفاظ عليها واستخدامها وقت الضرورة كعامل لتعزيز ومساندة الأسلوب والشكل الرئيسي للنضال الذي يتناسب مع تلك المرحلة وبما يخدم مشروع التحرر الوطني. إن الوحدة الوطنية والحفاظ عليها وعدم الانجرار وراء صغائر الأمور والتعالي على الجراح وإستنهاض طاقات شعبنا واحترام تضحياته وحقوقه هي مبادىء لطالما آمن بها ودافع عنها أبو جهاد، ويؤمن بها ويدافع عنها مروان البرغوثي.
وبقي أن نقول في هذه الذكرى العظيمة التي نستمد منها الثقة بالنفس وروح التضحية والفداء والإرادة والعزيمة الفولاذية والحكمة في خوض النضال أنّ الاحتفاء بهذه الذكرى يكمن في الوفاء لمبادىء القادة الكبار والسير على خطاهم والإرتقاء إلى مستوى تضحياتهم والاستفادة من تجاربهم.
وفي هذه الذكرى أتوجه بتحية خاصة للأخت والصديقة والقائدة الوطنية الأخت أم جهاد الوزير، رفيقة درب وشريكة عمر أمير الشهداء أبو جهاد في حياته ونضاله في الكثير من محطات النضال الوطني وتحمل المسؤوليات كبيرة، وكانت قد انتخبت لعضوية المجلس الثوري ومن ثم اللجنة المركزية لحركة فتح، وشغلت منصب وزيرة في السلطة الوطنية، وهي اليوم رئيس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ورئيس مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى في فلسطين، فهي المناضلة الكبيرة والصادقة الوفية.

المجد والخلود للشهيد القائد أبو عمار وللشهيد القائد أبو جهاد ولكل الشهداء العظام
والحرية والنصر لشعبنا العظيم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.