على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ / إيلي أنطون شويري

إيلي انطون شويري ( لبنان ) الإثنين 23/4/2018 م …




إنه لأمر سهل جدا القنوط واليأس من معظم أبناء الوطن من ساسة وإعلاميّين وشعب ورجال مال وأعمال، حين يصمّون آذانهم ويديرون ظهورهم، كلما قرأ إنسان بريء وصادق على مسامعهم مزامير الحقيقة والحكمة والمحبّة والقوّة، لتنوير عقولهم وقلوبهم وإراداتهم، ولحثّهم على رفع معنوياتهم، وتحسين سلوكهم في تعاملهم اليومي مع بعضهم البعض، وتوحيد جهودهم، وهم مكوّنات الوطن، لبناء الوطن وحمايته، إذْ أنه مهدّد كل لحظة بالإنهيار. إن صبرهم ينفذ بسرعة البرق، وغضبهم يشتعل، حين تكمل إنشاد مزامير الإبتهال والصلاة إلى الله دون تردّد أو وجل، ودعوات الوعي والنصح والحكمة من أجل حثّهم على الإرتقاء بالروح من مستنقع أوبئة المال والفساد والرذيلة والجهل والكبرياء والأنانية والفرقة والضعف، حيث يرتعون ويسرحون ويمرحون، في سكرة لا يريدون أن يصحوا منها، إلى ينبوع الحياة الحيّ، والوحي البهيّ الصالح، وشمس المحبّة الصافية والرحمة الشافية، وسماوات الكمال المطلق الساكن في أعماقهم، وهم لا يدرون.

على من تقرأ مزاميرك، إذًا، يا داوود؟

هل تكمل قراءة مزاميرك على أبناء شعب يرفضون إصلاح أنفسهم؟ وإن أنت أكملت القراءة يكرهونك في عنادهم وإصرارهم على رفض إصلاح أنفسهم، وإصلاح أوضاعهم الشاذة، وإصلاح الساسة الذين اختاروهم ليسوسوا شؤونهم الدنيوية بدراية وحكمة وأمانة، ولم يفعل الساسة ذلك ولم يكونوا عند حسن الظنّ، وخانوا الأمانة؟

هل تكمل القراءة على من يستلشق بحاضره ومستقبله ونفسه، ويصرّ إصرارا عجيبا على إغماض عينيه عن حقيقة الواقع النفسي والإقتصادي والتربوي والإجتماعي المزري الذي يعيشه بسبب استلشاق السياسيين به، ولا يجرؤ أن يحاسب نفسه على أغلاطه المميتة له ولذرّيته من بعده، والمتكررة على الدوام، أغلاط لا يقرّ بها أبدا، ألا وهي انتخاب الممثلين الفاسدين الفاشلين أنفسهم في كل دورة إنتخابية، وعدم التجرّؤ على محاسبتهم والتوقّف عن إنتخابهم، لأسباب غريبة عجيبة تظل غير مفهومة لصاحب العقل السليم؟ ومن هذه الأسباب أن المرشحين الأبديين هؤلاء هم من “عظام الرقبة” أي أقرباء له من الطائفة نفسها والمذهب نفسه، ومن عائلة “عريقة” في القدم وفي الغنى، وفقط في القدم والغنى، لا في الفهم ولا في الأخلاق ولا في الصدق ولا في الثقافة ولا في أعمال الخير والرحمة?

هل تكمل القراءة على من لم يكفّ لحظة واحدة، حتى في أحرج الظروف، عن طمر رأسه كالنعامة في الرمال، هربا من الواقع والحقيقة، وعن تقديس وتأليه زعيمه الفاشل، والمسؤول، على سبيل المثال لا الحصر، عن مهزلة توشك أن تصبح اليوم مأساة خطيرة، ألا وهي مهزلة/مأساة تراكم جبال النفايات والبشاعة والمرض والموت في كل مكان، وتلوّث مياه البحر والأنهار والينابيع، وتلوث الهواء، تُضاف إلى الكثير من المهازل/المآسي المزمنة، من أزمة ثقة الشعب بالدولة ونفوره منها ونفور شركاء الوطن من بعضهم البعض، وأزمة الكهرباء والمياه والدواء والتلوّث، ومنافسة اليد العاملة الغريبة الرخيصة، والبطالة، والجريمة والإرهاب والهجرة، إلى آخر المعزوفة المرعبة، المقرفة؟

هل تكمل القراءة على من يصرّ أن ذلك النسر الذي طار هناك هو “عنزة ولو طارت”، ويصرّ على افتعال الطرش والعمى وسوء الفهم، ونكران الحقيقة، وتقبّل الباطل والكذب غذاءًا يوميا، قد أدمن عليه، من يد سياسيين مخادعين وإعلام مخادع، والتماهي الأعمى مع الزعيم، “مثاله” الأعلى في القيادة والسياسة والأخلاق والفهم، مهما أخطأ هذا الزعيم ومهما قيل عنه وفيه وضدّه؟

هل تكمل القراءة على من يرى أن الزعيم دائما على حقّ، ويعذره في كل شيء، وكلما اشتدّت الحملات على هذا الزعيم لفضح خبثه، وشروره، وتقلباته، وارتباطاته المشبوهة، المخجلة، مع الخارج الخبيث، وفشله في العمل من أجل مصلحة وخير الشعب اللبناني ككل، يردّد من تظن أنه يصغي بانتباه إلى “مزاميرك”، أجل، يردّد وبكل فخر واقتناع، عن زعيمه، بعد أن يكون قد شبع تذمرا من الأوضاع السيئة، وشبع شتما للدولة الفاسدة، وللشعب غير الواعي: “هو، على الأقل، زعيم عظيم يعمل لخير الطائفة، ولا نملك أفضلَ منه. حماه الله من عين الحاسدين. والعواصف العاتية لا تضرب إلا القمم العالية”؟

هل تكمل القراءة على من يحبّ حبّا مَرَضيّا جلادَه في “نعيم” سجنٍ نفسيّ وفكريّ وأخلاقيّ و”حضاريّ” قد بناه له جلاده، وملأه له بالنفايات والتلوث، فسكنه سعيدا بملء إرادته ورضاه، وهو لا يريد الخروج منه أبدا؟

وهل تكمل القراءة على من لا ينشد الحرية والحقيقة والوعي والكرامة والفخر والإعتزاز إلا في واقع وهميّ جميل مُسْكَر، هو واقع الأغاني والأناشيد الفولكلورية الشعبية والشعر الوطني الزجلي؟

هل تقرأ على شعب يريد أن يتّحد مع كل الشعوب إلا مع نفسه، ويتحمّس للتضامن مع قضايا كل الشعوب إلا مع قضاياه هو

هل تكمل القراءة على ساسة وإعلاميين مصابين بجوع وعطش شديدَين لا لخدمة الشعب، بل للمال والعظمة، وبشهوة جامحة لاستجداء منابعهما في الخارج، وهم يقضون معظم وقتهم في الخارج، ويدبِّجون المقالات والتصريحات والخطابات، ويأخذون المواقف التي ترضي وتخدم أولياء نعمتهم في الخارج، لا الحقيقة، ولا الضمير الحيّ، ولا الشعب المخدوع، المتواطىء، دون وعي، مع جلاديه؟

هل تكمل القراءة على الذين أمعنوا، وبدم بارد، بتسييب حدود لبنان من زمان بعيد، ودعوة الإرهابيّين (المعروف جيدا من هي الدول التي خلقتهم وموّلتهم ودرّبتهم وأدارت كل عملياتهم الإرهابية لزعزعة استقرارنا واستقرار المنطقة بأسرها) إلى استباحة أرض وشعب لبنان بقوة السلاح، والتهرّب الخبيث، بحجة عدم توفّر المال، من تسليح الجيش اللبناني إلا بالكلام الكاذب المعسول، وأمعنوا بالتقليل من قيمة وجدوى المقاومة وباحتقار سلاحها وتضحياتها وشهدائها وجرحاها؟

هل تكمل قراءة مزميرك على الذين أمعنوا في إفقار الشعب وتيئيسه وترحيله إلى بلاد الغربة أو إلى جنات الخلد، وزيادة ثرائهم هم وحدهم، وأكلهم، حتى الشبع والبطر، لخبزهم اليومي، الدائم، الذي لا ينقطع ولا يشحّ، بعرق جبين الشعب الكادح، الجائع، المريض، ودعوة الغرباء إلى شراء واستملاك أراضي لبنان وبيوته والإقامة الدائمة في ربوعه التي تكاد تضيق، لا بل قد ضاقت فعلا، بسكانه الأصليّين؟

هل تكمل القراءة على الذين أمعنوا بالتمديد لولايتهم وزيادة رواتبهم وإهمال رواتب الشعب المتدنية، المزرية، وإثقال كاهله بمزيد من الضرائب، وأمعنوا بتفاقم البطالة وغلاء المعيشة والدين العام وإفلاس الدولة المنهوبة من حماتها بالذات ولا حسيب ولا رقيب؟

هل تكمل قراءتك على الذين أمعنوا في الإنتخابات الماضية، بإنفاق مبالغ مال طائلة من الخارج، وها هم يفعلونها من جديد اليوم، من أجل رشوة المنتخبين وإجراء انتخابات نيابية مزوّرة، لا تعكس حقيقة التمثيل الشعبي، غايتها أن تقوّي وتغلِّب فريقا على فريق لمصلحة الخارج الخبيث؟

هل تكمل القراءة على الذين أمعنوا ويمعنون برفض إشراك نُخَبِ الشعب اللبناني بإعطاء رأيها في مسائل دستورية وقانونية يختلف حول تفسيرها أركان الحكم بسبب من كبريائهم ومصالحهم الخاصة لا الوطنية، كدراسة قانون الإنتخابات الجديد، على سبيل المثال، الذي تبيّن، فجأة، وبعد فرضه فرضا على الشعب اللبناني، أنه ليس القانون المناسب لتكوين الشعب اللبناني، وأنه يناسب فقط بعض زعماء الطوائف؟

هل تكمل القراءة على الذين أمعنوا، بالتواطؤ مع الأمم المتحدة والمسيطرين عليها بمالهم من أبناء سام وحام، بإغراق لبنان باللاجئين والنازحين من كل حدب وصوب، في محاولة خبيثة لفرض توطينهم ومحو وجود وطن إسمه لبنان؟

هل تكمل القراءة على الذين أمعنوا جدا في إهمالهم لكلّ قضايا الشعب وأهمها جيشه وأمنه وسلامته وازدهاره، وأمعنوا، نتيجة لانعدام صدقهم وإخلاصهم، ولاستلشاقهم بوطنهم، بارتفاع نسبة الكذب والنفاق والغشّ والخداع والجريمة والسرقة والتسوّل وحوادث السير والتلوّث والوقاحة والكبرياء والدعارة، وحرمان العجزة من ضمان الشيخوخة، وغضّ النظر عن عمالة الأطفال واستغلالهم، واحتقار القوانين على أنواعها وكسرها، وتعطيل وشلّ الدولة، وقتل حلم الشعب الجميل بوطن ليس كسائر الأوطان، ما زال يراود مخيلة المخلصين السُذّج، البسطاء، الطاهرين، وما زال يحلو لهم لفظ إسمه في أصعب الأوقات، ألا وهو حلم “وطن الرسالة”؟

أجل، يا داوود، على من تقرأ مزاميرَك؟

وهل من داعٍ لأن تكمل القراءة، إذْ إنه لا يبدو أن أحدا يسمع ويصغي، ولا أحد تستوقفه قراءتك إلا أنت وحدك، في طاحونة بيئة متكبّرة، ثرثارة، صاخبة، بيئة ساسة وإعلاميّين كل واحد منهم يقرأ “مزاميره” الخاصة به وحده وفي “كتابه” الخاص بلغته الخاصة، وكل واحد يغنّي “موّاله” الخاص به وحده، ويطرب له وحده هو وأتباعه و”الخارج” الذي يحنّ قلبه إليه حنينا خاصا، والذي يتنافس معظم الساسة اللبنانيين، هُمْ وإعلامهم، على كسب قلبه وودّه ورضاه وبريق ذهبه ورنين دنانيره، ولا أحد يصغي لأحد إلا للخارج، ولا أحد يقدّر ويحترم أحدا إلا الخارج، ولا أحد يعترف بوجود وبفضل أحد إلا بوجود وبفضل الخارج؟

 

أَكْمِلْ قراءَةَ مزاميرك يا داوود، بوضوح، وتأنّ، وفرح.

أَكْمِلْ غناءَك وعزفَك المنفرد على قيثارتك بصوت عذب، صاف، صادق، وبإيمان قويّ.

إن رقعَ الثلج الخفيفة، الرقيقة، الهادئة، الصامتة، إذا تراكمت على فروع الشجرة الضخمة تقصفها.

إن قطرات المياه الصغيرة، الناعمة، المتتالية، المثابرة، تنخرُ رأسَ الصّخرِ القاسي، الغليظ.

إن نور الشمس الرقيق يخرقُ، برفق ودون صوت ضجيج، حُجُبَ الظلمات الكثيفة ويبدِّدها، وهو لا يتدنّس بشيء، ولا يتلوّث بشيء يلمسه، بل يطهّر كل شيء.

إن إيمانا بقدر حبّة الخردل ينقل الجبال، ويجعل العود اليابس يزهر ويورقُ ويثمرُ، ويجعلُ الصخرَ يتفجّرُ ينبوعَ مياهٍ عذبة، ويجعل الصحراءَ الناشفة، الجافّة، القاحلة، الجدباء، تُنبِتُ زرعًا وتتحوّلُ واحاتٍ وجنّاتٍ خضراءَ، غنّاء.

أَكْمِلْ قراءة مزاميرك يا داوود في وطن الروح، في وطن الرسالة، لبنان. أكمل قراءتك، ولا تَعُدْ تسأل على من تقرأ، ولماذا تقرأ.

أكمِلْ، فإن وحيَ الروح يهبط فجأة مع كل قراءة، وبحسب توقيته السرّيّ، يهبط على رؤوس السامعين، الغافلين والمختارين على حدٍّ سواء، ألسنةَ نارٍ تفتحُ آذانهم وعيونهم، وتنوّر عقولهم، وتطهّر لوبَهم، وتحيِي عزيمتَهم.

أَكْمِلْ قِراءَةَ مزاميرِكَ يا داوود.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.