السكرتيرة الفقيرة
فهذا المجمّع، الذي اعتاد الحصول على الهبات من تاريخه الذي يمتد على مدار 125 عاماً، لم يكن يتوقع أن تلك السيدة ذات الابتسامة اللطيفة، والتي لا يبدو عليها علامات الثراء، هي صاحبة ذلك التبرع.
كيف جمعت هذه الثروة؟
كانت تُدعى سيلفيا بلوم، وحتى أقرب أصدقائها وأقربائها لم تكن لديهم فكرة عن أنَّها ظلَّت على مدار عقود تكنز ثروة، وذلك من خلال المراقبة الفَطِنَة لاستثمارات المحامين الذين كانت تعمل لديهم. وتذكر جين لوكشين، ابنة أحد أشقاء بلوم، أنها ‘كانت تعمل سكرتيرة في زمنٍ، كان يدير فيه المساعدون حياة رؤسائهم، وضمن ذلك استثماراتهم الشخصية. لذا، فحين كان يُقْدِم المدير على شراء أسهم كانت هي من تتمِّم عملية الشراء، ثم تشتري لنفسها من الأسهم ذاتها ولكن بحصة أقل؛ لأنها كانت على راتب مساعدة’.
ونظراً إلى أن سيلفيا لم تتحدَّث قط عن هذا الأمر حتى لأقرب الناس إليها، لم تتكشَّف الحقيقة حول جمعها ما يزيد على 9 ملايين دولار، مُوزَّعةً ما بين 3 شركات وساطة مالية و11 مصرفاً، إلا في نهاية حياتها، وهي اللحظة التي وصفتها جين، المسؤولة عن توزيع تركة بلوم، بأنها مفاجأة.
وأضافت جين: ‘أدركتُ أنَّها تمتلك ملايين ولم تنبس ببنت شفة حول الأمر. أظنُّ أنها كانت تعتقد أن هذا لم يكن يعني أي شخص غيرها’.
هذه تفاصيل الوصية
تركت سيلفيا في وصيتها بعض المال لأقاربها وأصدقائها، لكنها أوصت بأن يُوجَّه الجزء الأكبر من ثروتها لمِنح دراسية تختارها جين؛ لمساعدة الطلبة المحتاجين.
هاتفت جين، التي تعمل منذ زمن بعيد، أمين خزانة مجلس إدارة المجمع الخيري، ديفيد غارزا المدير التنفيذي للمجمع، وسألته ما إذا كان جالساً.
يسترجع غارزا قائلاً: ‘صُعِقنا جميعاً، سُلبت عقولنا!’، لافتاً إلى أن هذا التبرع سيُموِّل برنامج Expanded Horizons College Success، الذي يساعد الطلبة المحتاجين للاستعداد لدراستهم الجامعية وإتمامها. تنضم سيلفيا إلى صفوف المليونيرات المتواضعين الذين عاشوا بين الناس، وتوفوا تاركين ثروات أكبر بكثير مما قد توحي به أساليب معيشتهم.
فعلى غرار سيلفيا، ترك لينرد غيغوسكي، وهو تاجر من مدينة نيوبرلين، بولاية ويسكونسن الأميركية. فالتاجر، الذي تُوفي عام 2015، ترك ثروة تُقدَّر بـ13 مليون دولار لتمويل المنح الدراسية.
وكذلك غريس غرونر، التي أوصت، قبل وفاتها عام 2010 عن عمرٍ يناهز 100 عام، بأن تُمنَح أملاكها، وقيمتها 7 ملايين دولارات، إلى جامعتها القديمة، وكانت تعيش بمنزل من غرفةٍ واحدة في مدينة ليك فورست بولاية إلينوي وتتسوَّق في المتاجر الخيرية وتُفضِّل المشي على القيادة.
وعاش دونالد وميلدرد أوتمر، اللذان استقرا في حي بروكلين هايتس، حياةً بسيطة. كان دونالد يعمل أستاذاً بجامعة بوليتكنيك في بروكلين، بينما كانت ميلدرد معلِّمة سابقة ثم ابتاعت متاجر ملابس كانت مملوكة لوالدتها.
واستثمر الزوجان بحكمة في شركة Berkshire Hathaway التي يديرها وارين بافت، وهو صديق للعائلة من مدينة أوماها. وتبرَّع الزوجان، اللذان توفيا في عقديهما الـ90، تاركَين ثروة تبلغ ثلاثة أرباع مليار دولار، بالجزء الأكبر من أموالهما.
عملت صباحاً ودرست مساء
وقالت جين إنَّه على الرغم من أن امتلاك سيلفيا ثروة جاء مفاجئاً، لم تكن خطتها السرية لمساعدة الطلبة كذلك. وُلِدَت سيلفيا بلوم لأبوين مهاجرين من أوروبا الشرقية، وترعرعت في بروكلين خلال فترة الكساد الكبير.
وتعلمت بمدارس عامة، منها هانتر كوليدج في جامعة سيتي بنيويورك، حيث كانت تدرس للشهادة ليلاً، بينما تعمل نهاراً لتكسب بالكاد ما يعيلها. يقول بول هايمز، زميل سيلفيا في العمل، إنَّها التحقت في عام 1947 بشركة قانونية ناشئة في وول ستريت، وكانت واحدة من أوائل الموظفين بها.
وعلى مدار الأعوام الـ67 التي عملت فيها بشركة Cleary Gottlieb Steen & Hamilton، توسَّعَت الشركة لتصل إلى حجمها الحالي، بقوة بشرية قوامها 1200 محامٍ، بجانب مئات العاملين، وكانت تمتلك بلوم أطول فترة تعيين بينهم. وعمل هايمز في قسم الموارد البشرية بالشركة منذ أكثر من 35 عاماً، أصبح خلالها صديقاً لسيلفيا.
زوجها رجل إطفاء وحياتها متواضعة وقال أقرباء بلوم إن زوجها ريموند مارغوليس، الذي تُوفي عام 2002، كان يعمل رجل إطفاء، وبعد أن تقاعد عمل مدرّساً بمدرسة عامة بجانب وظيفة ثانوية في الصيدلة. وأشارت ابنة عم لها -تُدعى فلورال موغل بورنستاين، (72 عاماً)- إلى أن سيلفيا احتفظت بلقب عائلتها حتى بعد الزواج، ما يوحي بطبيعتها الاستقلالية.
وقالت جين إنَّ كل الأموال تقريباً باسم سيلفيا وحدها، وهناك احتمالٌ كبيرٌ أنَّه حتى مارغوليس نفسه لم يكن يعرف حجم ثروة زوجته. وأوضح هايمز أن الزوجين عاشا حياة بسيطة في شقة بالإيجار، على الرغم من أنّه ‘كان بمقدورها الإقامة في ناطحة سحاب بارك أفنيو إذا ما كانت ترغب في ذلك’.
في حين قالت جين: ‘لم تكن بالتأكيد مُبذِّرة. لم تكن تمتلك أية ثياب من الفرو’.
وعُرِفَ عن سيلفيا أنَّها كانت دائماً ما تستقل مترو الأنفاق للذهاب إلى العمل. وقال هايمز إنه رأى سيلفيا قبل تقاعدها مباشرةً وكانت تبلغ 96 سنة، وهي تخرج من محطة قطار الأنفاق بخطواتٍ ثقيلة متجهةً إلى العمل، وسط عاصفة ثلجية عنيفة، مضيفاً: ‘قلت لها: ماذا تفعلين هنا؟! فأجابت: لِمَ؟! أين يجب عليَّ أن أكون؟’.
وقالت بورنستاين، موظفة الخدمات الاجتماعية المتقاعدة، إن سيلفيا وافقت على أن تنتقل بعد التقاعد إلى دار عَجَزة؛ لأنها ‘أرادت في الأساس العثور على لعبة بريدج جيدة’، مشيرة إلى أنه بعد عملية بحث قررت الانتقال إلى دار في الجزء الشمالي الشرقي من المدينة، وأصرت على الذهاب مُستقلَّةً قطار الأنفاق.
وقال هايمز إن سيلفيا ندمت على أنَّها لم تلتحق بكلية الحقوق، وأوضح أنَّه مع ذلك ‘صُدِمَ تماماً’ حين علم بعد وفاتها بحجم الثروة التي امتلكتها.
وأضاف: ‘لم تتحدَّث قط عن الأموال، ولم تعش حياة الرفاهية، لم تهتم بالمظاهر، ولم ترغب في لفت الانتباه إليها’، مشيراً إلى أنَّها كانت تحب الشوكولاتة، ولكن ليس الهدايا الباهظة، لم تكن تقبل أن يهديها نوعاً خاصاً من الشوكولاتة إلا بكمياتٍ قليلة.
وتابَعَ أنَّها كانت طفلة خلال فترة الكساد الكبير؛ لذا كانت تدرك كيف يكون الوضع حين لا يملك المرء المال، وكانت متعاطفةً إلى حدٍّ كبيرٍ مع الأشخاص المحتاجين، وأرادت أن يحظى كل فرد بفرصة عادلة.
ولفتت جين إلى أن مليوني دولار إضافيَّين من تركة سيلفيا سُيمنحان مناصفةً بين Hunter College وصندوق منح دراسية آخر، لم يُعلَن عنه بعد. ووصف غارزا تبرع سيلفيا بأنَّه ‘تجسيدٌ للإيثار’ ومبادرةٌ مثالية من سيدةٍ إلى المجمع، الذي أسَّسَته عام 1893 ليليان وولد إحدى الرواد في مجال الصحة العامة. ويخدم مجمع Henry Street Settlement الخيري، الذي يقع في شارع مونتغمري، أكثر من 60 ألف شخص حالياً، ويُقدِّم كذلك مجموعةً متنوعةً من الخدمات، من بينها برامج رعاية صحية وخدمات إيواء مؤقتة، إلى جانب دعمه للتعليم.
وأضاف غارزا أن سيلفيا شكَّلت رأيها عن التعليم من خلال تجربتها الشخصية في ارتياد المدارس العامة والعمل مع محامين ناجحين خريجي كليات ومدارس حقوق مرموقة. ولفت إلى أن شركة Cleary Gottlieb Steen & Hamilton، التي تأسست عام 1946، ازدهرت لتصبح أحد مراكز النفوذ الدولية وقِبلة للدول التي تواجه صعوبة في سداد ديونها، مرجحاً أنّ تكون بلوم اكتسبت مهارة استثمار تماثل في براعتها المهارة التي امتلكها المحامون المؤسسون للشركة.
وعلَّق قائلاً: ‘كان لديها نوع من المنظور المزدوج؛ وربما لهذا السبب تردَّد صداه عميقاً في قلبها وداخلها’.
التعليقات مغلقة.