مخيم اليرموك في الدلالات الوطنية الفلسطينية / علي بدوان




علي بدوان ( فلسطين ) الجمعة 11/5/2018 م …

”مخيم اليرموك، ليس مكانا جغرافيا بحتا، أو موئلا لمجموعات أو كتل بشرية من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إنه جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يُلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يُلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يُلخص إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.”مخيم اليرموك في لحظاته الصعبة الآن، فبين لحظة، ولحظة، هناك الجديد في أزمته المُستعرة في سياق ما جرى ويجري في سوريا، وفي سياق محاولات جهات مُختلفة الإجهاز عليه، وعلى رمزيته في سفر الكفاح الوطني الفلسطيني، والإجهاز على حق العودة الذي يُشكّل لباب وجوهر القضية الوطنية الفلسطينية، باعتبارها قضية اقتلاع وطني قومي.
مخيم اليرموك، التابع لمدينة دمشق، الواقع في أحيائها الجنوبية، يَملِكُ مُتسعا حيا، نابضا، متألقا، وافرا، وغنيا، في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، وفي موسوعة الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، وفي مسيرة المقاومة الفلسطينية، وفي مسيرة العمل الثقافي والتنويري في سوريا، حيث كان اليرموك قبلة المثقفين، والعمل الثقافي، وموئل الباحثين والكُتاب، والساعين وراء المعرفة في مناخات النشاط الثقافي والتنويري.
مخيم اليرموك، ليس مكانا جغرافيا بحتا، أو موئلا لمجموعات أو كتل بشرية من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إنه جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يُلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يُلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يُلخص إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.
إنه المخيم الذي كان قبل محنته أواخر العام 2012، ينبض في الحياة ليل نهار، لا تعرف صباحه من مسائه، بأسواقه العامرة المدينية، وبنواديه الثقافية ومراكز المؤسسات الوطنية الفلسطينية المنتشرة على امتداده، والمجتمعية المحلية ومراكز وكالة الأونروا والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين، والمراكز الحكومية، ومنها المركز الثقافي التابع لوزارة الثقافة السورية، والذي يُعتبر ثاني أكبر المراكز الثقافية في سوريا على الإطلاق من حيث البناء والقاعات وسعة مُدرجه الرئيسي والفعاليات النشاطية.
مخيم اليرموك، وفي سنوات معينة، ضَمَّ بين ثناياه العدد الأكبر من مثقفي فلسطين وكتابها، وأُدبائها، وفلاسفتها، ومنظريها، ومناضليها، وكوادرها، وفعالياتها، وحتى أطبائها، ومهندسيها، ومدرسيها، ومشاكسيها. فهو أكبر تجمع فلسطيني خارج فلسطين على الإطلاق، إذ تقارب أعداد المواطنين الفلسطينيين داخله بحدود ربع مليون مواطن فلسطيني من أصل أكثر من ستمائة وخمسين ألف مواطن فلسطيني مقيم فوق الأرض السورية قبل محنة فلسطينيي سوريا، منهم ما يقارب النصف مليون لاجئ منذ العام 1948 وهم من يطلق عليهم اسم “فلسطيني سوري” أو “فلسطينيو سوريا” أو “سوريو فلسطين”. حيث يتمركز اللاجئون الفلسطينيون في ما يعرف بـ(لب المخيم) بينما يَسكن فيه ويحيط به أكثر من مليون مواطن سوري من مختلف مناطق سوريا من أقصاها إلى أقصاها.
لقد صنع الفلسطينيون في مخيم اليرموك، مدينة جديدة باتت كأنها مدينة عريقة في قدمها وتاريخها، تسود فيها حالة التآخي والاندماج الهائل بين أبناء الشعبين الشقيقين التوأمين السياميين، السوري والفلسطيني. حيث الحياة المشتركة بكل جوانبها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.. الخ. مع وجود حالات واسعة من الزواج المتبادل بين أبناء وبنات الشعبين الشقيقين، والأهم في هذا المجال أن الزواج المتبادل يتخطى المنطق الطائفي، لنجد بأن المئات من الشبان الفلسطينيين يقترنون بفتيات سوريات من كل المناطق والطوائف من موزاييك المجتمع السوري، مُجسدين بذلك رؤية وطنية وقومية وإنسانية وأخلاقية، وحتى إسلامية تتعدى منطق الطوائف المقيت، وتعطي صورة ناصعة عن الشعب العربي الفلسطيني وثقافته وتكوينه السامي.
في التآخي والاندماج، ومنذ العام 1948، ومنذ صدور مرسوم المساواة بالحقوق والواجبات (مع احتفاظ اللاجئ الفلسطيني بهويته الفلسطينية)، يذهب السوري والفلسطيني معا إلى المدرسة، مدرسة الأونروا للفلسطيني، ومدرسة الحكومة التابعة لوزارة التربية، وللفلسطيني والسوري. ويذهبان للجامعات السورية معا بفرص تكافؤ واحدة، ويتقدمان للمسابقات الوظيفية معا وبفرص تكافؤ واحدة، ويذهبان لخدمة العلم (خدمة الجيش) معا، في مواقع واحدة وفي كليات ومدارس عسكرية واحدة، وفي مهاجع وأسرة نوم وقاعات تدريب واحدة، ليصار بعضها إلى نقل وفرز الفلسطينيين بمعظمهم إلى جيش التحرير الفلسطيني بعد إنجاز الدورات التدريبية، ويبقى منهم البعض ممن لا يتوافر لهم من اختصاص عسكري في جيش التحرير ليخدموا (العسكرية) في القطعات العسكرية السورية وخاصة منهم الجامعيين (ضباط مجندين).
وفي التآخي السوري الفلسطيني، كان السوري على الدوام مع الفلسطينيين، في مقرات ومكاتب ومراكز ومؤسسات المقاومة والفصائل الفلسطينية، منذ العام 1965، مدونا شهادة كبيرة في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني الذي باتت فيه أعداد الشهداء السوريين تقارب ثلث شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة بعموم فصائلها المعروفة.
هذا التآخي الودود واللصيق، كان من المنطقي ومن الطبيعي أن تتوالد انطلاقا منه، تلك الهبة الهائلة والسريعة جدا، من قبل أبناء مخيم اليرموك وشبابه وشاباته وحتى من نسائه وكبار السن فيه، الذين انتشروا في الشوارع، معلنين تشكيل اللجان الشعبية، من أجل مساعدة إخوانهم السوريين من الذين اتجهوا نحو المخيم من المناطق المحيطة به والتي باتت تعرف باسم مناطق وبؤر التوتر خلال الفترات الماضية قبل محنة مخيم اليرموك.
فالشعب الفلسطيني لن يكون جاحدا أو ناكرا، ولا يُمكن له أن ينسى اليد البيضاء لسوريا والشعب السوري شقيقه التوأم، الذي استقبل جزءا كبيرا منه عام النكبة 1948، وشاركه بالمأكل والملبس والماء والدواء والعمل.
إنه مخيم اليرموك، بدلالاته الوطنية، حيث كتب فلسطينيو سوريا على جدرانه أسماء مدن وقرى فلسطين، وفي شوارعه رسم الفلسطينيون مآسيهم، مؤرخين بخربشات أقلامهم دراما اللجوء، فتدمع جدران المخيم عند التحليق عليها.
وعلى جدران المخيم نشروا ملصقاتهم، وصور شهدائهم. ورسموا على جدران مدارس الأونروا (يوجد 38 مدرسة تابعة للأونروا في مخيم اليرموك) لوحات العودة إلى حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا واللد والرملة، العودة هناك إلى الوطن السليب، وإلى الهوية التي ما زالت تعيش في وجدان كل لاجئ فلسطيني. إن تلك الكلمات ليست شاعرية، أو لغة خشبية أو متقادمة، كما يعتقد البعض، إنها كلمات “قوة الحق في مواجهة حق القوة” تتأجج كل يوم عند تلك الأجيال التي توالدت في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، لتكسر ما قاله وزير خارجية الولايات المتحدة فترة الخمسينيات من القرن الماضي جون فوستر دالاس “الكبار يموتون والصغار ينسون”.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.