المثقفون العرب اذ يخلون الساحة / د. عاكف الزعبي
امتداداً للحكم العثماني في قرنه الاخير ، واستبداد الدولة العربية القطريه، واعادة انتاج الفكر السلفي، كبرنا وبلغنا سن المعرفة وفي وعي بعضنا ان الرجوع الى النص الكريم وتفسير آياته والاجتهاد في التفسير وقراءة الفكر الديني عموماً هو ميدان رجال الدين من المشايخ والدعاة وتلامذتهم ودارسي الشريعة وحدهم دون غيرهم ، واختصاصهم الذي لا يجوز أن ينازعهم فيه احد. من يقرأ غير قراءاتهم ويتتلمذ على غير ايديهم مطعون في قراءته ومشكوك في علمه ومعرفته ، وليس على باقي الامه سوى الاستماع فقط لمن درسوا فقه الدين وفقه اللغة وما أتى به السلف الصالح كما أرادوه ان يصل الينا.
في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ابتليت الامة بوقف الاجتهاد ، فاصبحت نهاية الفكر هي ما توصل اليه السلف وعلى العقل المجتهد ان يتوقف عن التفكير ليكون نقطة النهاية في آخر سطر خطه السلف . لم يغير المستبدون بالفكر والحكم في القرن العشرين وحتى اليوم من حرصهم على مقاومة التنوير والتجديد. جمال الدين الافغاني حجزت حريته ، ومحمد عبده حوربت افكاره ، ورفاعه الطهطاوي اعتبر تغريبياً ، وعلي عبد الرازق اتهم بالخروج عن الدين . وفي مقابل امتداد الفكر التنويري لطه حسين وسعد زغلول واحمد امين وقاسم أمين وسلامه موسى وزكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري والطاهر حداد ومحمد اركون تم اعادة انتاج الفكر السلفي الجهادي على ايدي امرائه في القرن العشرين وفي مقدمتهم تلاميذ محمد عبد الوهاب وابو الاعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب . فنادوا بتكفير المجتمع ومحاربة النموذج التنويري والدعوة للعودة الى الخلافة وتحولوا من جماعات دعوية الى جماعات سياسية تسعى للحكم وتدعو لاستخدام القوة في سبيل تحقيق ذلك .
الكثيرون من اجيالنا المعاصرة انصاع بتأثير من ثقافة مجتمعية وقصور ذاتي لمن اراد عزلنا عن مرجعيتنا الدينية ليخلو استفراداً بها وما كان علينا ان نستجيب . ثم منا من عزل نفسه اختيارياً وما كان عليهم ان يفعلوا. واكتفى بعضنا الآخر في البحث عن اسباب النهوض بالعودة الى مرجعيات لنماذج فكرية نهضوية عالمية ليبرالية غربية او عقائدية اجتماعية ثوريه . وفات الكثيرون ان التغيير الايجابي لا يكون فقط باستحضار نماذج ثقافية وفكرية نهضوية حداثية حملت شعوبعها لآفاق التقدم ، وانما يحتاج الى جهد مواز يفتح باب الاجتهاد لتنقية الفكر التراثي التقليدي السائد في مجتمعاتنا مما علق به من الجمود ، وتقديم قراءة جديدة تنويرية لمرجعيتنا الفكرية الدينية التي ظلت حبيسة الرؤية السلفيه . بل ان تقديم قراءة متنورة لمرجعيتنا الفكرية الدينية ربما كان متطلباً سابقاً لقبول الفكر التنويري التغييري أياً كان مصدره .
التيار الفكري العربي التنويري الذي يسعى في الطريق النهضوي لا يعفيه من دوره التاريخي الاكتفاء بالانخراط في إشاعة الفكر التنويري العالمي من اجل توطينه في المجتمع العربي فقط ، ولن يحقق النجاح المطلوب في الاسهام بالنهوض الفكري العربي ما لم يتمكن من تقديم اجتهاد تنويري للفكر الديني الذي لا يزال يثقل كاهل الدولة والمجتمع منذ ان تم تسييسه . فهذا شرط جوهري للحيلولة دون انكفاء التنويريين الى شرانق نخبويه ، ولتفويت الفرصة على كل من يسعى لعزل الفكر التنويري ودفع المجتمع للنظر اليه كفكر تغريبي . وهو ايضاً رافعة اساسية للرسالة التنويرية للانتقال بالمجتمع العربي الى نهج مختلف في التفكير ينزع القداسة عن الموروث ومسلماته ويقدم تفسيراً جديداً مختلفاً يناسب ما استجد عبر احد عشر قرناً توقف فيها الاجتهاد او كاد، ويلائم ما بلغه الناس من علم وما تغير على المجتمع من احوال.
التعليقات مغلقة.