كلمة الطلبة ب 15 ايار ( قصة واقعية ) / العميد الركن المتقاعد ناجي الزعبي


ناجي الزعبي ( الأردن ) الثلاثاء 15/5/2018 م …




كنت عضولجنة الطلبة في  (مدرسة المرشحين ) المعهدالعسكريالذي يخرجالضباط للقوات المسلحة الاردنية  حين قررنا احياء ذكرى اغتصاب فلسطين في تجربة غيرمسبوقة في المعاهد العسكرية , وقد اعددنا برنامجا حافلا للاحتفال تضمن العديد من الفقرات التوعوية , والثقافية , والعسكرية , والفنية , وقد كلفتني اللجنة  ,وهي ايضا”تجربة غير مسبوقة ( اي تشكيل لجنة طلبة بمعهد عسكري )  ان اكتب كلمة الطلبة , اي التلاميذ المرشحين .

عملت على كتابة الكلمة, وراعيت ان تكون معبرة عن جوهر مأساة الشعب الفلسطيني , واسبابها ,وتبعاتها , وأن اضمنها الخطوط العريضة لجوهر الصراع العربي الامبريالي , كالغرض من اقامة الكيان الصهيوني  (المصطنع )البغيض خدمة للمشروع الاستعماري البريطاني ودوره كرأس حربة المشروع الاستعماري الاميركي بعد ان ورث الاستعمار البريطاني في منتصف الخمسينات , ودور هذا الكيان في المحافظة على انظمة سايكس بيكو , ودور هذه الانظمة في المحافظة عليه , وكنه العلاقة الجدلية بينهما .

وكيف ورثت اميركا التركة برمتها بمافيها وطننا الاردني , وتصوري لكيفية التصدي لهذا التحدي , ومجابهة العدوان الغاصب والمؤامرة.

عملت لجنة الاحتفال على تسليم برنامج الحفل الذي تضمن كلمتي كأحد فقراته لقائد الفئة الملازم الاول محمد يوسف ملكاوي الذي اصبح فيما بعد رئيسا لهيئة اركان القوات المسلحة , وبدوره ارسل البرنامج لقائد السرية ومن ثم حسب التسلسل العسكري للامر .

بعد بضعة ايام استدعاني قائد الفئة لمكتبه وسط دهشة زملائي وحيرتي .

انتابني القلق بسبب الدعوة  فليس من المعتاد استدعاء التلاميذ الا للعقاب اوالتانيب ,فأخذت ابحث عن الاسباب المفترضة ووصلت لاستنتاج بعث شيئا” من الاطمئنان الى نفسي بسبب تأكدي من عدم ارتكاب اي مخالفة  تستوجب العقاب .

وفي اليوم المحدد بذلت جهدي قبل اللقاء لاظهر بصورة لائقة , تفقدت مظهري , خبطت قدمي على الارض , ثم رفعت راسي ومضيت .

حين دخلت مكتبه الصغير اديت التحية العسكرية رافعا عقيرتي ومع خبطة قدمي على الارض قلت : تلميذ عسكري ناجي الزعبي نعم سيدي ,,, واسترقت نظرة اليه لالمس وقع تحيتي وصوتي الذي راعيت اقصى جهدي بان يكون ممتلئا” رجولة وحماسة .

ارتحت جدا لنبرته الدافئة حين قال : تفضل اجلس تلميذ ناجي .

جلست على المقعد الخشبي المجاور لمكتبه ونظري يشخص اليه .

قال موجها” سؤاله بالاسلوب العسكري المباشر المعتاد : لماذا استدعاك الامر ؟

نهضت عن مقعدي واجبت : لا اعلم سيدي , كنت اعتقد انكم تملكون الاجابة .

قال : اجلس لا داعي للوقوف عند كل اجابة .

قلت بصوت مرتفع : امرك سيدي .

قال محاولا” تخفيف توتري واضفاء نوع من الحميمية والدعابة على الاجواء : بدون ( تجعير) نحن لسنا في ميدان المشاة .

خفضت صوتي بعض الشئ وقلت والحيرة تزداد بداخلي : امرك سيدي .

حاولنا ان نجد اجابة لاستدعائي للامر دفعة واحدة , فهي مسالة غيرمسبوقة ان يستدعي الامرتلميذا مرشحا , وقد يتخرج التلميذ ولايراه الآمر او يقابله , دون طائل ,, فما الامرترى ؟ ولا بد انه شأن خطيربالغ الاهمية .

في يوم مقابلة  الآمر تعرضت لسلسلة من التفتيشات من قائد الفئة , الذي القى نظرة تفقدية على مظهري وقيافتي , تفقد شعاري العكسري , وتأكد من لمعانه , ثم نظافة البرية , وشعري المحلوق على ” الصفر ” , ونظافة اذني , واظافري . وقميصي الداخلي , ثم قميصي الخارجي , وتاكد من لوحة الاسم على صدري , الى بسطاري ومدى لمعانه .

قال : لمعت البسطار بالقطن والماء ؟

اجبت : نعم سيدي

ولمعت القايش بالبلانكو ؟

قلت : نعم سيدي .

وبعد سلسلة من الاسئلة حول هندامي وقيافتي ونظافة جسدي .

قال : يعني كله تمام ؟

قلت بنبرة حاسمة واثقة : نعم سيدي .

بعد عناء طويل ارسلني لقائد السرية الرائد نظمي صالح الذي اعاد تفتيشي بعناية ودقة مملة حتى استنفذ صبري وفاقم قلقي .

القى على عدة اسئلة تتعلق بسلوكي السابق , وهل ارتكبت مخالفة ما , وعن علاقاتي بزملائي وبالمدربين سالني وهو يضرب بعصاه على ساعتي التي كنت ارتديها بمعصمي اليمين لماذا تضع الساعة بيدك اليمنى وهو يواصل الضرب حتى سمعت صوت تكسر عدستها؟

اجبت : اعتدت ذلك منذ امد بعيد سيدي .

قال : اعلم هي موضة باربد , اعتقد بعد اليوم انه لن يكون لديك ساعة لترتديها .

قلت : واضح سيدي .

واخيرا القى سؤاله الذي توقعته وهو يداري ابتسامة كادت ان ترتسم على شفتيه بعد ان حطم ساعة يدي واستمع لاجابتي : هل لديك فكرة لماذا استدعاك عطوفة الامر ؟

اجبت : لا سيدي .

تمتم ببضع كلمات غير مفهومة ثم اصدر امره الي بان امضي واتصرف كتلميذ شجاع واثق من نفسه

قلت : امرك سيدي , ثم القيت تحية تليق بتلميذ لا يهاب , واثق من نفسه والقلق يكاد يفتك بي .

ذهبت في الموعد المقرر , خرجت من ثكنتي وانظار الرفاق ترافقني ولغط كبير يدور , ومنهم من توقع اعدامي ودار حوار حول الكيفية , منهم من رفض فكرة الاعدام شنقا” وطالبوني برفض ذلك اذا يتعين كعسكري اطلاق النار على راسي , او سحلي وتعليق جثتي على باب نادي الضباط ,,, و , و وهكذا استمر التندر لمداراة القلق الذي ساورنا جميعا”.

توقفت امام الباب والقيت نظرة عليهم ثم استدرت و مضيت بخطى عسكرية واثقة , وكانني كنت اريد ان اقول لنفسي وللجميع : انا لم اقترف ذنبا” , وبان المقابلة المجهولة لشأن ليس مشينا” على الاقل .

كان الشارع الذي يفضي الى مكتب الآمر بالغ النظافة , و الرصيف الملون  المطلي بالابيض والاسود يحيطه على جانبيه , وكلما امتدت خطواتي كان الشارع يصعد للاعلى , وتصطف ثكنات مرتبات المعهد العسكري على يمينه ويساره بتناسق وبمسافات متباعدة بدقة , وبعد ان عبرت هذه المنطقة بدت لي مكاتب القيادة يتصدرها مكتب الامر .

توقفت قليلا امام المكتب , تفقدت هندامي للمرة الاخيرة , وشددت جسدي ورفعت هامتي ثم دخلت لمكتب السكرتير الذي يطالعنا بالبداية .

ادخلني السكرتيرلمكتبه بانتظاران يستاذن دخولي لمكتب الامر , لكن ولدهشتي للمرةالثانية وجدت الامربانتظاري على باب مكتبه , بزيه العسكري المهيب وبرتبته الكبيرة واوسمته وجسده الضخم وعيناه الزرقاوين وسماته التي تنم عن طيبة وحزم .

قال لي بود غير معتاد في المعاهد العسكرية : اهلايا ابني .

اذهلني ذلك , وتوجست خيفة فما الامر ؟ اذ ان من اصغررتبة لاكبر رتبة في مدرسة المرشحين ينادون التلاميذ ب : يا تلميذ

وخذ الارض , ازحف , انبطح , اركض اذهب للقطعة , واحجز نفسك ” دب حالك بجورة الصرف الصحي ” الى آخر سلسلة العقوبات المعتاده .

لكن لااحد يقول لنا اهلا يا ابني !

اديت التحية باقصى ماتمكنت من قوة .

قال لي الامر :

تفضل اجلس , ثم استداروجلس خلف مكتبه .

لم افعل .

كررامره مرة اخرى قائلا : اجلس يا ابني اجلس .

جلست بعد تردد .

سالني وهو منصرف لقراءة ملف على طاولته كان بالتاكيد ملفي :

اسمك ناجي محمد شريف ؟

نهضت واجبت بنبرة عسكرية يتعين ان نرد بها على كل الاسئلة في المعاهد العسكرية : نعم سيدي .

قال : اجبني وانت جالس .

انت من الرمثا ؟

قلت : نعم سيدي .

قال : وما علاقتك ب 15 ايار ؟

قلت : هي ذكرى يجب ان تبقى حية في وجداننا ووعينا ومن واجبنا جميعا ان نسلط الضؤ عليها وانا اقوم بدوري وواجبي وفقا لذلك .

اطرق قليلا دارى خلالها دهشة كادت ان تفصح عن نفسها على ملامحه .

قال : ستحتفلون اذا” ب 15 ايار؟

تسمرت عيناي بعينيه الزرقاويين مبهورا بالكم الكبير من النجوم المعلقة على كتفيه والاوسمة التي تزين صدره وفخامة المكتب ثم استعدت حضوري .

قلت : نعم سيدي .

قال : من صاحب الفكرة؟

قلت : لجنة الطلبة سيدي .

قال : من صاحب فكرة انشاء لجنة الطلبة؟

قلت : اعضاء اللجنة سيدي .

قال من هم اعضاء اللجنة يا ابني ؟

قلت : التلميذ الملازم الاول عباس شبلاق ,والملازم مصلح حسين فرح , والملازم محمد خضر الرفاعي , والملازم خطاب الناصر , والملازم عيسى شطناوي , وانا التلميذ المرشح ناجي الزعبي , كنت الوحيد التلميذ المرشح .

اجاب : هؤلاء زملائك الجامعيين وانت الوحيد التلميذ المرشح .

احبت : نعم سيدي .

قال : يبدو انك صاحب فكرة الكلمة .

قلت نعم سيدي لكن اللجنة اقرت الفكرة وكلفتني باعداد الكلمة .

قال : وهل اطلعوا عليها وقرؤوها ؟

قلت : بالطبع سيدي .

قال : اطلعت على برنامج الحفل اعتقد انه جيد .

قلت : نعم سيدي .

قال : انت ستلقي كلمة الطلبة اذا” ؟

قلت : نعم سيدي .

قال :انت من كتبها اذا”؟

قلت : نعم سيدي .

قال : هذا نص الكلمة؟ , ثم ناولني الورقة التي كتبت كلمتي عليها .

القيت نظرة على الورقة وتبينت انها فعلا كلمتي , ولكن عليهاخطوط حمراء كثيرة تشطب كثير من الجمل والعبارات , كان واضحا”

ان الكلمة كلها خضعت لمقص الرقيب وملاحظاته .

قلت : نعم سيدي .

قال : جميل القيها اذا ,, وصمت قليلا ثم اردف , اعتقد انه من الافضل ان تلقيها وفقا” للتعديلات المدونة عليها .

قلت : اتقصد الملاحظات التي على هوامش الكلمة سيدي ؟

قال : نعم .

قلت : والجمل المشطوبة بالاحمر سيدي ؟

قال : ملغاة .

قلت : هذه الكلمة ليست كلمتي اذا سيدي .

قال : لكنها جيدة وتفي بالغرض .

قلت : ربما  لكنها ليست كلمة الطلبة  سيدي .

قال ومشروع ابتسامة ترتسمعلى شفتيه : كلمة من اذا ؟

قلت : انها كلمة الآمر ,,, سيدي .

ضحك الامر طيب القلب كثيرا” وبسعة صدرقال : انها كلمتك مع قليل من التعديلات ,آمل ان تلقيها فهي بشكلها النهائي افضل كثيرا” من الكلمة السابقة .

قلت : ربما سيدي ولكن هذه كلمة الآمر فهي لم تعد كلمتي , وليست كلمة الطلبة , وليلقها اي ضابط من ضباط المدرسة , انا لن القيها وبنبرة عالية حازمة انهيت جملتي ب سيدي .

ران قليل من الصمت وانا ازداد تصميما على قراري وموقفي فقد اعتقدت انني كسبت الجولة على ما يبدو .

اطرق الامر قليلا ثم رفع راسه وقال : انامعجب جدا بك يا ابني وساخاطبك بمنتهى الصراحة : ( لولم اكن انا العميد فايق ياسين الآمرلوضعت انت بالسجن ) .

ولوسمحت لك بالقاء كلمتك كماهي لشاركتك زنزانتك .

الفعالية التي ستقيمونها تقام للمرة الاولى وربما الاخيرة , وحتى اسمح بها لابد من مراعاة الخطوط الحمراء , وانت تجاوزتها بكثيران لم تكن كل كلمتك تجاوزا .

قلت : احترم ذلك سيدي , اذا الغي الكلمة اوكلف تلميذا اخرليلقي (كلمتك ,, سيدي ) .

مرة اخرى ران صمت وهوينظرالي وقال بلهجة حاسمه حازمه : اسمع ياناجي افهم ,, هل تريد ان تزجني بالسجن انا وانت؟

قلت : العفو العفو سيدي ابدا كل ما هنالك .

لكنه لم ينتظر قاطعني قائلا” :

ساعيد لك الورقة اعد صياغتها وراعي ملاحظاتي وتذكرخطورة ماقلته دون ان تمس جوهرافكارك , واضح ؟

احترمت ذلك كثيراجدا وتذكرت ان حيز مناورتي محدود جدا وربما يضعوني بالقطعة لو اصريت على الرفض , او ربما تلتغي الفقرة كلها ثم ان الامر تجاوز كل الاعراف وعاملني بمنتهى الرقة وبروح الابوة والتفهم ,,,

حسمت امري وقلت : امرك سيدي .

قال : اتفقنا؟ وطلت من عينيه نظرة تشي بعطف وحزم وبرغبته بان اراعي بألا اضعه بموقف حساس محرج .

قلت : فهمت سيدي سافعل لكني ساعود للجنة الطلبة ونتشاوربالامر ونتخذ القرار الملائم .

قال : لامانع , اتمنى لكم التوفيق,, , وبعد برهة لم تطل .

قال : ياابني انت شجاع . .

قلت بفخر ساورني : شكرا سيدي هذا اول وسام اعلقه على صدري سافخر به ما حييت .

اديت له التحية وانصرفت .

وهكذا كان , اعدت صياغة الكلمة مع المحافظة على المعاني الاساسية وبعد موافقة الرفاق على النص الجديد , واحتفلنا ب 15 ايار .

 

انطوت السنين وتقدمت بالرتب العسكرية , وادركت معها كم كان تجاوز آمري الطيب  الجسور للتعليمات والنهج العسكري خطرا , وكم كان واسع الصدر وكم اتسم بالحكمة والمسؤولية العالية وكم اكسبه ذلك تقديرنا واحترامنا وحفر مكانته في قلوبنا .

احيي ذكراك العميد الركن فايق ياسين القائد الشجاع والاب والصديق ورفيق السلاح الشريف المخلص.

المجد والحرية  لفلسطين

ناجي الزعبي

عمان 15 ايار 2018

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.