يوم مات زوجي.. معاناة زوجات الشهداء / تسنيم محمد المدهون

يوم مات زوجي.. معاناة زوجات الشهداء



 تسنيم محمد المدهون ( فلسطين ) الجمعة 25/5/2018 م …

لا أؤمن كثيراً بالكتابة عن الشهداء، فما قدّموه فوق كل كلام، ولن يملك لهم ما نقول ضراً ولا نفعاً، ولن يزيد قلوبَنا سوى حزنٍ ولوعة، لكن بعض التجارب تأبى إلا أن تتمرد على دفائن النفس، وتخرج من قمقم العقل، ولم تزل بي هذه الكلمات تُدافعني وأدافعها، وتُراوِد قلمي عن نفسه فيستعصم، حتى اختمرت في محبسها ونضجت، وتفتقت عن وعي وخبرة بعد سنين خمس من تبدُل الأوضاع والأحوال، والمعاش والمآل، والظروف والأحداث، وكرامة لزوجات الشهداء انصعت للكلمات واخترت أن أكتب عنهن ولهن وأنا أقلهن شأناً وتجربة.

لا أبالغ إن قلت إن سنيناً خمساً ليست سوى أولى مراحل الفقد التي تتراوح بين الصدمة والذهول، فالوحدة والوحشة، والخنوع والاستسلام، ثم الحرب والمواجه، والبدء بحياة أخرى وواقع جديد.. وبين ثنايا ذلك كله أطنان من الفكر والرأي، الحيرة والتردد، والسهر والتأمل، حتى إذا انقضت هذه السنون وتوزعت في زوايا الذاكرة وانحصرت في أعماق الشعور، صارت أكثر وضوحاً للرؤية وأسهل حُكماً للعقل وأقرب قراراً للقلر، فكأننا نكون في أرض معركة لا يميّز الداخلُ في معتركها طريقَ النجاة من الهلاك، أو فريق الحق من الباطل، ومهما تمتع به من نظر ثاقب وحسن تقدير فإنه لا يستطيع أن يرى الحقائق والنتائج إلا بعد أن ينجلي غبار المعركة، وتهدأ ثورتها، وتسكن أصواتها، حتى لا يكون في آذاننا وقر ولا على أبصارنا غشاوة.

الشهداء بالنسبة للفلسطينيين فئة من فئات الشعب، تشغل أحد بنود تصنيفه، تماماً كالرجال والنساء والأطفال هناك أيضاً: الشهداء، وكل فئة لها منهم جزء مقسوم، هذا الجزء بالنسبة للرجال هو دليل وطنيتك وشرفك وصدق انتمائك، وما لم تقدم هذا القربان فأنت مخروم الوطنية مقدوح الانتماء، يحمل كل منهم نصيبه من الشهداء: أباه أو ابنه، أخاه أو عمه، جده أو حفيده، وسام شرف يباهي به كلَ فرحة ويُقارع به كلَ نازلة. وبالنسبة للنساء، هو أغلى جزء من القلب انتزعنه صورة تزين حائط المنزل، كتحفة لا تضاهى ولا تقدر بثمن، فيعلقنها في أكثر الزوايا فخامة وحظوة تماماً كمكانة صاحبها من النفس.

بعد أن يشيب الجرح يبكين مع كل شهيد جديد، ويجددن الحزن مع كل أرملة، ويبايعن الذكرى على اجترارها والألم على استدعائه، يحتضِنن الوافدة الجديدة لعلهن يكُنّ لها سلوى أو يجعلنها سلواهن!

وبالنسبة للأطفال هو أكثر ما يباهي به الشبل بين أقرانه، وأعز ما ينتسب إليه، وأثمن ما تحمله الفتاة لها اسماً وتحسه فخراً، أذا مرّوا في “الحارة” فرأوا صورته معلقة على جدار، أو اسمه مخطوطاً على حائط يراها ويقرؤه الرائح والغادي. الشهداء بالنسبة لغزة حدث يومي وخبر متكرّر، يتجدد مع كلِّ منهما ذكرُ من سبقوا، ودمع أحبابهم، وجراح كلِّ مكلوم مهما مرّ عليهم الزمن، فكأنهما لكلٍّ وِرده اليومي من الحزن: حديثِ عهد به أو مُحدَّث! لأجل ذلك لا يثير مُسمّى “زوجة شهيد” في النفوس غرابة أو تفاجؤاً، فقد صارت رتبة شائعة، وإن كانت رتبة شرف وافتخار. لا يحق لي -أو لأي شخص كان- الحديث باسم زوجات الشهداء، فلكل منهن حديثها المتفرد وقصّتها العجيبة، لكن بعض “المصائب يجمعن المُصابينا”.

في غزة كل أنواع الموت التي عُرِفت، ولم تُعْرَف، فمن لم يقتنصه جندي ممترس خلف جدار، دفنهُ صاروخٌ تحت رُكامِ بيته، ومن أفلتَ من معارك حرب ضروس، طحنته رحى أختها، ومن لم يقتُلْهُ المرَضُ قتلهُ المعبر!! وإن كانت “الصدمة الأولى” هي الوصف الذي منحه النبي لخبر الموت، فهو كلام من لا ينطق عن الهوى، ومهما كان هذا الخبر “متوقعاً” أو “منتظَراً” لن يخرج عن كونه صدمة، وإن كانت صدمة العروس التي خرج زوجها صباحاً سليم الجسم مكتمل البدن وافر الصحة والنشاط، وعاد إليها جثة هامدة تختلف عن صدمتي وأنا أشهد أنفاسه الأخيرة على سرير المرض الذي نهشه أربع سنوات نتيجة لإصابته، وتختلف عن صدمة أم الأبناء الثلاثة أو الأربعة أو ما يزيد، وأنا أم لابنة وحيدة، وتختلف عمن ودّعت تابوتاً مغلقاً يخبئ أشلاء زوجها ويحرمها من أن تقبل-مثلي- جبينه النادي لتطمئن أنه نائم نومة العروس فرِحاً بما آتاه الله من فضله، وتختلف عمن كسر الزمن ظهرها القوي وسندها الوحيد وتركها وحيدة وسط أشخاص يطلق عليها مجازاً اسم “عائلة” بعد أن رحلت معه كل معاني الأسرة والاحتضان، فأنا التي قد حُبيتُ بعائلتين ووظيفة، غير أن ذلك كله لا يغير من تفاصيل الصدمة شيئاً.

لكن الجميع حينها يشتركون في “الصبر”، أيقونة هذا الشعب، الصبر في بيوت الشهداء أوضح وأجلى ما يكون، منحة إلهية مكفولة، وهدية ربانية ملحقة بكل جثمان طاهر، طأنه جزء من الطقوس، مدرسة يعيّن الله فيها مساء كل شهيد أساتذة جدداً ينضمون إلى حكايات التاريخ. غالباً تقضي زوجة الشهيد أيامها الأول ذاهلة عن كل شيء، لا تحسن سوى البكاء، وتغط في حالة من الإنكار لواقع لا يمكن تصديقه، وتترك كل مسائل الحياة المادية بين يدي مَن حولها، يديرونها كيف شاؤوا، شاملة أمور الإرث والبيت والمال والأبناء، ولا تنتبه حتى إن كان ذلك برضى منها أو بغيره، برضى “الله” أو بدونه! تسمع وترى أشياء عجيبة ما بين الشّفقة والوصاية، الطمع والقمع، بل وحتى اقتراحات لمشاريع زواج جديد!

تعيش حالة من التشتت النفسي أقرب إلى مرض يصعب فهمه وتفسيره أو اكتشافه والاعتراف به، فينال من المنطقية والاتزان والحكمة في كثير من أفعالها وأقوالها. تصبح الذاكرة أكثر حدة، والأحداث الماضية أكثر تفصيلاً، وتصبح استعادتها مراراً واجباً مقدساً، وتصير الأذن أكثر حساسية لحديث الناس عنه، تلتقط أية قصة وتتشبث بكل رؤيا وتلتهم جميع التفاصيل. بعد حين تصبح المعركة أمراً واقعاً لا بد منه، معركة الحياة والأمانة الثقيلة، والخانة الفارغة التي عليها ملؤها في نظر الأبناء، فتقف على قلبها وتبتلع حزنها، وتخنق دمعتها وترتدي زي الحرب، وتنطلق في وجه الحياة والظروف والمجتمع.. لتصبح مفخرتها ذات شقّين: بزوجها ميتاً، وبنفسها بعده حية.

وبعد أن يشيب الجرح يبكين مع كل شهيد جديد، ويجددن الحزن مع كل أرملة، ويبايعن الذكرى على اجترارها والألم على استدعائه، يحتضِنن الوافدة الجديدة لعلهن يكُنّ لها سلوى أو يجعلنها سلواهن! لم يسبق لي أن قابلت زوجة شهيد ليست محط الأنظار، ولم أصادف من لا تحسد على نجاحها في معترك فشل رجال في الصمود فيه، هناك سيلٌ من الصعاب والمتاعب والعقبات والهموم التي واجهنها تضيق عن ذكرها مجلدات، وهناك زوجات لا يفيهن وضعُهن مع الشمس جنباً إلى جنب حقَهن في الاحترام والتقدير. تخرج كل امرأة من هذه التجربة كالخارج من عملية بتر أحد أطرافه، بين ألم الفقد ونقص الجسد وصعوبة التأقلم. وتؤلمها جراحها أكثر إذا كان زوجها مقاوماً، كلما رأت بندقيته يتيمة معطلة وعتاده حزيناً متكوماً، وكلما نادى المنادي أو اشتعلت المعركة، أو أزف النفير، وكلما لاح نصر أو تحققت أمنية.

مات زوجي في أيار البائس، قبل ذكرى النكبة بأربعة أيام، يوم مات زوجي -وأنا هنا كل زوجة- مات كل ما يعبر عن الزمن وتوقف الوقت في تلك اللحظة بالذات كان كل شيء قد انتهى، ماتت كل كتب التاريخ وأناشيد العروبة وشعارات المجد العريق.. مات كل ما له علاقة بالأمل، بالنصر، وبالحياة.. لكن شيئاً ما غريباً ظلّ على قيد الحياة.. أنا! تحت الرماد المتكوم بعد كل حريق هائل، لا تلبث أن تخرج عنقاء مستحيلة تنفض جناحيها وتمدهما للريح محلّقة إلى قمم النجاح، فهو ديدنها، وطبعها الذي جُبلت عليه، ومُكَوِّن دمها يوم خُلقت فلسطينية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.