حجارة من سجّيل / أ.د عمر الحضرمي
كنا، ولزمن قريب، نَصِفُ ذلك الذي يَشْقى في الوصول إلى ما يبغي، بأنه «ينحت في الصخر». وكنا نُشْفِقُ على اؤلئك النفر الذين تمتلئ عيونهم بدمع القهر والنَّصب والشقاء وهم يبحثون عن آخر النفق، وقد دفن الزمن حزُماً من أعمارهم،
فعلا الشيب مفارقهم، وطمست التجاعيد معالم وجوههم.
وما أن تسألهم ماذا يفعلون: حتى تنسل أحداقهم من تحت جفونهم بكل صعوبة لترمقك بنظرة تالفة محترقة، وكأنهم يريدون أن يقولوا لك: نسألَكَ االله أن تمضي في دربك.
ومن العجيب أنك كنت تظن أن هؤلاء الذين سكنوا بين جيلين؛ جيل أدى ما عليه، فاستولد رجالاً كباراً صدقوا ما عاهدوا االله عليه، وجيل شاب قد ولد في الأول من أوسلو، كنت تظن أنهم سيكونون مثل السابقين يلهثون وراء الجوع والضنك، إلا أنهم، وللعجب، قد استزرعوا في خلاياهم جينات الأجداد، وتنازلوا عن كل ترف الشباب، واندفعوا بكل رجولة (ولو كانت مبكرة) نحو المقالع، ينحتون باظافرهم من الجبال ذخيرة «لمقاليعهم».
حتى أؤلئك منهم الذين قُطّعت أجسادهم، حملوا ما تبقى منها واندفعوا مع إخوتهم، وأحياناً يسبقونهم، نحو ذلك الوادي المملوء بالذئاب والثعابين، وكأن هؤلاء البقايا» يتمنون لو أن لهم أرجلاً ليدوسوا بها أفواه شذاذ الأرض، وبقايا العفن الذين ساقتهم قوى الشر من هناك، وعجزت قوى الانهزام والضعف عن الوقوف أمامهم والدفاع عن أنفسها.
أسوق هذه الخاطرة، وأنا أشاهد كل ساعة تلك الملحمة التي يكتبها شباب، أكبرهم قد ولد وفي فمه أحد أطراف «حطته» التي لبسها دون «عِقَال» ولكن كان تحتها أجمل «عَقْل» وأطهر «نَفْس» وأشجعُ «قلب».
شباب وشابات لم تلههم مواقع الانحلال الساقط في مستنقعات الضياع والميوعة والسَّقم. شباب كنا نظن أنهم جاؤوا إلى هذه الدنيا في زحمة الكهولة البشرية، وفي سياقات «الجِلْ» و»الفيس بوك» وما إلى ذلك من انهيارات أخلاقيّة إلى أن اكتشفنا أن ذلك كله لم يكن.
إن ما نراه الآن من فواعل القدرة ومعطيات المُكْنة يشير، بكل وضوح، إلى أن هذه الأجيال التي ولدت في الزمن الرديّ قد أثبتت أنها تصنع زمنها الزاهر الخاص بها، بدمائها وحياتها وحَجَرها ومِقْلاعها، وبدل أن تجلس على المقاهي تمضغ العلكة، وتلوك الترف والصَّغار، جلست على المطلات ترمق من فوقها أرضها التي اغتُصبت، وبيوتها التي سُرقت، وأشجارها التي سكنت على أفنانها أسراب الغربان والبوم، وراحت أظافرها تنحت في الصخر لتستخرج منه حجارة من «سجّيل» ترمي بها «أصحاب الفيل»، «فجعلت كيدهم في تضليل».
هل يمكن أن يصدّق التاريخ أنه يحيط الآن بشباب ولدوا في ظل مزامير الضعف والموات، إلا أنهم، ورغم عشرات الاتفاقات الزائفة التي تسقي حبرها من دمائهم، قد قالوا كلمتهم، وعبّدوا دروبهم، وحملوا أكفانهم وأعلامهم وحجارتهم وصاحوا: توكلنا على االله الذي لا يتخلى عن عباده المجاهدين، وهو، جِلّت قدرته، الذي تولّى الدفاع عن الذين آمنوا.
عندما استشهد ذاك الشاب الفلسطيني الذي كان يقف على أبواب المستقبل، وعروسه تتهيأ ليوم الزفاف، اندفعت نسوة نحو بيته لتعزية أمّه، تلك المرأة المسنّة التي قامت متثاقلة لاستقبالهن. ولما أن اعتدت لهن متكأ، قالت لهن كلمات تدفق منها الإيمان والصلابة: «أنا أعلم أنكن جئتن لتسألن لي العزاء، ولكن أود إعلامكن أن هناك أربعة أخوة له آخرين هم يتدافعون منذ لحظة استشهاد أخيهم على من الذي سيأخذ مكانه في الجهاد أوَلاً».
هذا التدافع بين الشباب للذهاب إلى ساحة الجهاد قد غيّر مفهوم الموت ليعود موعداً للقاء السماء تحفّة الملائكة، وهذا ما يخلق كل أنواع الرعب لدى العدو الذي اختبأ وراء أكوام التراب، ودفقات الرصاص الحي، وسُحُب الغاز المسيّل للدموع، ومع ذلك لم تستطع آلة الإجرام الهائلة هذه أن تعطي للمجرم القدرة على النوم أو الهدوء أو الأمان. الأمر الذي وصل بهذا العدو وبرفاقه أن يقولوا: نقسم أننا عندما لا نجد أحداً من شباب الحجارة في الساحة نخاف أكثر لأننا لا نعرف أين هم يتربصون بنا، ومن أين ستأتي حجارة سجّيل في تلك الساعة، ومن حقيقة أن كل فلسطيني بدأ يعتبر نفسه مشروع شهيد، ولا يهمه إن عاد إلى بيته ماشياً أم محمولاً على أكتاف أصحابه، كل ما يهمه أن يستعيد أرضه ويحمي عرضه، بعد أن سرقها الآخرون وتغافل عنها الغافلون.
لقد راهن قادة الكيان الصهيوني، ووافقهم سكان شمال المتوسط، وأناس من القاطنين في جنوبه، على أن الأيام كفيلة بأن تأتي بأجيال فلسطينية تكاد تكون ناسية لمفردات ما حلّ ببلادهم وبأهلها، وأن كثيراً من غيرهم ومن الذين ماثلوهم بالعمر والسنين لم يعودوا يدركون معنى النضال، ومعنى التشبث بالحقوق، إلا أن ما حدث أثبت غير ذلك، بل وعكسه تماماً، إذ جاءتنا أجيال تحفظ نشيد الفداء والتضحية على صورة مذهلة من الجد ومن الاجتهاد.
بعد كل هذا ستظل «سجّيل» تنبت الحجارة تلو الحجارة حتى ينهزم الظلم وينتهي كعصف مأكول، بعد أن أصبح كيده في تضليل.
التعليقات مغلقة.