(احمد سعيد) .. او(صوت العرب) الذي ظُلِم / محمد خروب

محمد خروب ( الأردن ) الأحد 10/6/2018 م …



أقل من اسبوع انقضى على رحيل مذيع ورئيس اذاعة «صوت العرب» المصرية, التي يتذكّرها كل من عاش تلك الفترة الذهبية من المدّ القومي العربي، الذي كانت فيه «مصر» المُحرِّك الرئيس والداعم الاكبر والوفِيّ لكل حركات التحرر العربية والافريقية والاسيوية واميركا اللاتينية, وكان «صوت العرب» بصوت «احمد سعيد» مدير تلك الاذاعة منذ ان انطلقت في العام 1953 وبعد عام واحد فقط على ثورة 23 يوليو، المُعبِّر الأمين عن اماني وطموحات الشعوب العربية, التي كان معظمها ما يزال وقتذاك تحت نير الاستعمارَيْن الفرنسي (في المغرب العربي.. الجزائر وتونس) والبريطاني في المشرق (عدن وساحل الخليج), فضلاً عن مرور خمس سنوات على النكبة الفلسطينية, التي كانت وما تزال (عند بعض العرب كما يجب التذكير) جرحاً نازفاً في الجسد العربي, ودليلاً ماثِلاً على عمق الفشل العربي. حيث بعد سبعين عاماً ينبري بعض العرب لرفع الكيان الغاصب الى درجة الصديق والحليف, القادر على تغيير موازين القوى في المنطقة والمُوكَلُ اليه.. اميركياً, إعادة رسم خريطة التحالفات والإصطفافات فيها, على نحو يُراد منه القول للشعوب العربية التي افتتن «كبارها» (في السّن) تلك الايام برمزية وحيوية الدور الذي نهضت به اذاعة صوت العرب, وكانت «القوة الناعمة» (بمفردات عصرِنا) الذي توفّرَت عليها ثورة 23 يوليو في تلك الفترة, و»الهدف» المركزي الذي استهدفته
القوتان الاستعماريتان فرنسا وبريطانيا لإسكاته…. انّ ذلك الزمن قد «ولّى».
نقول: بعد اسبوع على وفاة «احمد سعيد» ما يزال الجدل محتدماً حول دور الرجل, الذي حمّله كثيرون مسؤولية النكسة, وبات موضع رجم وقذف وهجوم لاذع يتجاوز كل الاعراف…لا يتوقّف, من قِبل كثيرين ارادوا الغمز من قناة جمال عبدالناصر, وصولاً الى دفع الشعوب للكفر بالعروبة وشعارات الوحدة ومحاربة الاستعمار والقوى الرجعية العربية, التي اسهمت هي الاخرى بحدوث النكسة, بعد ان فرضت حصاراً على مصر وقائد ثورة 23 يوليو.
صحيح ان «احمد سعيد» المذيع صاحب الصوت الجميل والعميق والمؤثّر (حتى لا نقول المثير والمحرِّض) هو «الوجه» الآخر والأبرز لـِ»صوت العرب», ولم يكن يُذكر صوت العرب حتى يقفز الى الاذهان اسمه وخصوصاً صوته, الذي كان بمقدورنا ونحن اطفالاً وفتية (وعندما يتوفر لنا سماعه في زمن عزّ فيه وجود راديو الترانزستور الذي كان سيد الاعلام ورمزها وقتذاك) تمييزه وتسمية صاحبه بفخر بأننا نعرف احمد سعيد.. وإن كنا لا نراه. لكنه صحيح دائماً ان صاحبنا الراحل لم يكن صاحب قرار في كل ما يُذاع وبخاصة المواقف السياسية وبالذات تلك ذات الصلة بعلاقات مصر مع الدول الأُخرى.. عربية كانت ام غير عربية. ما بالك في الشؤون العسكرية والبيانات الخاصة بها في بلاد عربية (لا تستثني أحداً) كانت وما تزال ترى فيه شأنا خاصاً لا علاقة للشعوب به؟ وحتى اؤلئك الذين يُفترَض انهم يمثّلِون تلك الشعوب واقصد «مجالس الشعب ومجالس النواب» او اي تسميات جديدة اطلقتها النخب السياسية و»الطبقة» المتحالفة معها… عليها, ولم تكن سوى تغيير في المفردات فيما بقي الجوهر «الوِصائي» على تلك المجالس البرلمانية.. قائماً ويتمدّد إلحاقاً وتهميشاً وشراء ذمم, وغيرها مما يراه الجمهور العربي عند كل منعطف او أزمة تُواجِه تلك الانظمة ونخبِها السياسية والمالية.
من الظلم وصف احمد سعيد بأنه «مذيع النكسة».. فالنكسة صنعها العسكريون بالدرجة الاولى, الذين اضفوا قداسة على انفسهم فانتفخوا وغابوا عن الرقابة والمتابعة السياسية والشعبية, وهذا يتحمله السياسيون وعلى رأسهم النافذون منهم. وكان جمال عبدالناصر (كما كان على الدوام) شجاعاً في تحمل المسؤولية عندما أعلن تنَحِّيه عن الحُكم, متحملاً كامل النتائج المترتبة على هذه «النكسة» المزلزِلة، ولم يكن خروج الجماهير المصرية الى الشوارع مطالبة اياه بالتراجع عن قراره.. «مسرحية مُرتّبَة», كما دأب اعداؤه وخصومه والشامتون به وبالنهج العروبي التحررّي الذي مثّله على ترديده، بل كانت هبّة عفوية من جمهور عرف انه (الجمهور) كان ضحية لسوء الادارة العسكرية التي مثّلها عبدالحكيم عامر وزمرته, التي كانت الجهوزية واليقظة والولاء الحقيقي للشعب المصري وأمن وطنه… آخر ما يعنيها. بل كانت لا تستحق مواقعها ولا الثقة التي اولاها لها زعيم كان يتعرّض لمؤامرات وضغوط وحملات تشنيع وتشكيك وشيطنة معظمها عربي واكثرها صهيواميركي, وخصوصاً منذ ان «ملأت» واشنطن «الفراغ» الذي خلّفه انهيار الامبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين فرنسا وبريطانيا بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 .ولم يكن صدفة او خطأ في الاستهداف عندما اغارت طائرات المعتدين على مبنى وابراج بث اذاعة صوت العرب… لإسكاتِه.
رحَل احمد سعيد بكل ما له وما عليه, وتجربته الثرِية والمؤثِّرة في الاثير القومي العربي التحرُّرِي… ستبقى ماثلة وقائمة. وبمقدور من يتوسّل البحث العلمي الدقيق البعيد عن الغرض السياسي والمواقف المُسبَقة, ان يعود الى تلك الرحلة «الذهبية» التي شكّلها «صوت العرب» في الوجدان الشعبي العربي, وخصوصاً في الفترة التي كان فيها «المُذيع» الذي لم يُخفِ انتماءه لنهج ثورة 23 يوليو وزعيمها، هو رئيس تلك الاذاعة (من 1953 حتى ايلول 1967 ..(وعندها ستكون النتائج صادمة للبعض, لان احمد سعيد وصوت العرب لا يتحمّلان مسؤولية النكسة ولا دور لهما في ما قرأه الرجل من بيانات وما جاء فيها من مبالغات او أكاذيب. وعلينا ان نتذكّر ان «دور» المذيع في الاذاعة كما التلفزيون, ان يقرأ ويلتزم ما جاء في بيانات «القيادة العامة للقوات المسلّحة» التي تتحمل مسؤولية الصياغة والمضمون.. والنتائج.

قد يعجبك ايضا

تعليق 1

  1. اسماعيل نور يقول

    رحم الله احمد سعيد واسكنه فسيح جناته. كنت صبيا وقتها، اخدم على والدي “رحمه الله” ومجالسيه امام دكانه الصغير الملاصق لبيتنا، وكان مجموعة من “الكبار بالسن” من اهل الحارة يتجمعون بعد عصر كل يوم امام الدكان ليتبادلوا همومهم وقضاياهم المختلفة، وعلى رأسها القضايا “السياسية”. لم يكن احدا منهم يقراء او يكتب، ولكنهم جميعا كانوا متوقدين بالعروبة وبحبهم لجمال عبدالناصر، زعيم الأمة وقائدها الذي “سيحرر لهم فلسطين. وعندما تقترب الساعة من الخامسة مساء يطلب مني احدهم ان افتش عن اذاعة صوت العرب ليسمعوا الأخبار، وبعد الأخبار ياتي “التعليق السياسي” الذي يقراءه اما احمد سعيد او محمد عروق، فاذا كان القاراء احمد سعيد، الكل سعدل جلسته ليستمع بتمعن، ويدور نقاش مستفيض بينهم بعد التعليق السياسي، اما ان لم يكن القاراء احمد سعيد، فيطلب مني ان احول الى اذاعة “لندن”، مع ان محمد عروق كان يقراء ما ياتيه، تماما كما احمد سعيد، ولكن صوت احمد سعيد كان محفزا لكل من يسمعه. هكذا كان احمد سعيد، وهكذا كان اهلنا في ذلك الزمان، من النقاء والخلاص والحب لزعيم الأمة جمال عبدالناصر، والذي كانوا يعبرون عنه بتعلقهم بسماع التعليق السياسي بصوت احمد سعيد. ذلك هو الزمن الجميل. رحم الله احمد سعيد ورحم كل الذين كانو يتجمعون امام دكان والدي، ورحم والدي الذين كان لهم الفضل في تنشأتي كما انا على حب العروبة والقومية.

التعليقات مغلقة.