الجمود والتجديد : تيار قومي أم هوية عربية ؟ / د. لبيب قمحاوي*

 

د.لبيب قمحاوي ( الأردن ) الأربعاء 27/5/2015 م …

 [email protected]

           إن إعمال العقل وإستخلاص العبر من دروس الماضي وتجاربه قد توفر المنارة الهادية لإنارة الطريق أمام ما يتعرض له العالم العربي الآن من مِحَنٍ ودمارٍ وتفكيكٍ وقتلٍ وتياراتٍ وأفكارٍ عجيبةٍ موغلةٍ في الإجرامِ والوحشيةِ تجعل من التشاؤم والخوف المدخل الوحيد لإستشراف المستقبل . والمستقبل إذا ما أُريد له أن يكون مشرقاً فإن علينا العمل على تجديد أنفسنا وفكرنا وإعتبار هذا التجديد أداة لإعادة رسم المستقبل بشكل إيجابي .

       تجديد الفكر القومي قد أصبح ضرورة ملحة إذا ما أردنا الحفاظ على التراث القومي وجعله منسجماً مع مستقبل العرب ومصالحهم . وهذا يتطلب إبتداءاً التوقف عن إستعمال المصطلحات الرومانسية والشوفينية أو تـَبـَنـِّي الأهداف الرومانسية التي تبدوا جامعة في مظهرها ولكنها طاردة في جوهرها . فالولاء المطلق للمفهوم القومي وهدفه المتمثل في دولة الوحدة قد أثبت في أحيان كثيرة أنه ثقيلاً على البعض أو أكثر مما يحتمله الواقع مما سيؤدي إلى تحول هذا الهدف بالنتيجة إلى خصم للأمر الواقع   (Status quo) دون توفر أي فرصة حقيقية لتنفيذه ، وهذا ما حصل فعلاً خلال العقود الستة الماضية .

         المفردات والإصطلاحات والأهداف القومية عكست دائماً درجة عاليه من الرومانسية والخيال والحلم الجميل الذي سرعان ما تحطم على صخرة واقع الأنظمة القطرية الفاعلة والمتنفذة والمؤثرة . فمرجعية الفكر القومي حتى الآن هي أقرب ما تكون إلى “الدعوة الروحانية” التي تتطلب الإيمان بالفكرة بغض النظر عن القدرة على الإلتزام بها موضوعاً وليس شكلاً فقط . وهذا أحد أهم الأزمات التي مر بها الفكر القومي وما زال . فالإيمان بشئ وفعل نقيضه مَيـﱠزَ حقبة النصف الثاني من القرن العشرين .

       العالم الخارجي ربما كان أكثر إصراراً من العرب أنفسهم على معاملة العرب كعرب . وفي حين إستمر القوميون والمفكرون القوميون في الإصرار على التنظير الهادف إلى إستنباط الأسباب الموجبه لوجود قومية عربية ، إستمر العرب رغم ذلك بالتصرف بشكل بديهي وعفوي بإعتبارهم عرباً ، وحتى الإسلاميين لم يسعوا إلى التـَنـَصُّلْ من هويتهم العربية في سعيهم إلى الوصول إلى دولة الخلافة التي تمثل الأمة الإسلامية .

       الموقف التاريخي المتشدد للقوميين وللفكر القومي تجاه الدولة القطرية هو أحد المعاول التي أضعفت التيار القومي والحركة القومية عموماً . ففي حين إستعمل بعض القوميين عملياً الدولة القطرية للوصول إلى الحكم والمكاسب ، بقي الفكر القومي معادياً للدولة القـُطـْرِيَة نظرياً وفكرياً بإعتبارها نقيضاً لدولة الوحدة متجاهلاً بذلك الحقائق القائمة على الأرض . ولكن تبقى الحقيقة أن الأنظمة العربية القطرية ذات الخلفية القومية قد استباحت الفكر القومي وطوعته لخدمة مصالحها القطرية . وهذا شـَكـﱠلَ السلاح الأهم بيد كافة القوى المناهضة للتيار القومي العربي وعزز من قدرتها على توجيه النقد والإتهامات إلى ذلك التيار .

       إن إستمرار بعض القوميين في النظر إلى الدولة العربية القطرية بإعتبارها جريمة وبإعتبارها عقبة أمام دولة الوحدة المنتظرة هو موقف خاطئ يجب العمل على حذفه من القاموس القومي والتوقف عن إعتبارة موقفاً أساسياً بقدر ماهو في حقيقته تجاهلاً للواقع القـُطـْرِي العربي الذي يجري العمل حالياً على تدميره ليس بهدف إقامة دولة الوحدة ولكن بهدف تدمير دول المنطقة وتفتيتها إلى دويلات تتمتع بهويات مختلفة العروبة ليس أحدها . هذا الحديث لا يشكل دعوة إلى القطرية بقدر ماهو دعوة إلى إستبدال الرسالة القومية في التشديد على الدولة العربية الواحدة والأمة العربية الواحدة بالتركيز على الهوية العربية بإعتبارها حاضنة لكل من يحملها بغض النظر عن أصوله العرقية أو إنتماءه الديني أو المذهبي . فهي هوية يسهل التعامل معها بعكس الفكر القومي كما أنها جامعة لكل من يؤمن بها .

       الفكر القومي والتنظير القومي منذ بدايات القرن العشرين كانا يهدفان إلى التبشير بالقومية العربية ووضع الأسس النظرية لتبريرها وقولبتها كأيديولوجية دون أي محاولة للإستفادة من الشعور العام بوجود عرب وأمة عربية من خلال هوية عربية طبيعية تأتي في سياقها المجتمعي والتاريخي وأحياناً السياسي كما حدث إبان نكبة عام 1948 في فلسطين و حرب السويس عام 1956 والوحدة السورية – المصرية عام 1958 وهزيمة عام 1967 .

       إن مرجعية الفكر القومي لم تركز على واقع الحال الذي يجعل من العرب عرباً بل حاولت قولبته في نظريات جعلت منه خصماً لتيارات أخرى عوضاً عن أن يكون المظلة الجامعة بشكل يجعل كل ما يجري ضمنها وتحتها قادراً على التنفس والعيش والنمو والإستقرار بدلاً من تجريم بعضه أو تكفيره أو إقصاءه بإعتباره إما خصماً أو مناقضاً لما يبشر به الفكر القومي . فإذا كان التيار القومي قادراً على التأقلم والتعامل مع مراكز القوة القـُطـْرِيـَة ، بل وخدمتها أحياناً ، فلماذا فشل في احتضان أفكار وتيارات أخرى ضمن الحاضنة القومية وبما يؤهلها لأن تكون تعبيراً عن كل ما يجري ضمنها من تيارات ، عوضاً عن إلغائها أو تجاهلها أو العمل على طمسها مستثنين من ذلك التيارات المعادية لمصالح الأمة والعاملة لصالح قوى خارجية أو استعمارية تهدف إلى إخضاع الأمة .

        التيار القومي لم يكتف بالأعداء الخارجيين وإنما جر نفسه إما إلى نزاعات داخلية مع مؤيدي الأمر الواقع والمستفيدين من الواقع القـُطـْري أو تحالف معها إلى حد الإلحاق مما أفقده الفرصة الذهبية في أن يكون مظلة للجميع ، وتحول بالتالي إلى تيار واحد بين تيارات سياسية متعدده ومتصارعة كانت سائدة في المنطقة . وفقد كذلك قدسية وشمولية تمثيله للأمة كونه إقتدى بالتيار الشيوعي / الماركسي الذي إعتبر الحزب هو الوسيلة الأمثل لتحقيق المبادئ والأهداف التي يمثلها أي تيار ، وكأن التيار القومي كان يسعى أن يصل إلى الحكم في حين أنه كان يجب أن يسعى لأن يكون الأطار الحافظ والمعبر عن الهوية العربية وتغذية شعور الأمة بالإنتماء العربي كهوية شاملة وليس الإنتماء الحزبي المعبر عن تلك الهوية .

        الخطيئه الكبرى للتيار القومي قد تكون سقوطه في مستنقع الأحزاب والتحزب وهو الأمر الذي نفى عنه صفة تمثيله للأمة بشكل جامع وحَوﱠلـَهُ إلى حزب كباقي الأحزاب . وهكذا فإن المسار الأمثل هو في التركيز على الهوية العربية والإنتماء لها بشكل عام عوضاً عن قولبتها في شعارات ومفاهيم وإيديولوجيات وأحزاب وتنظيمات قد تخنق بالنتيجة صاحبها .

      التركيز على الهوية العربية عوضاً عن العقيدة القومية العربية قد يكون المدخل لتجاوز أزمة العمل القومي وموروثه التاريخي الذي ساهم في زيادة أعداء الحركة القومية العربية التي اختارت أن تعبر عن نفسها حزبياً أو من خلال أنظمة مستبدة عوضاً عن اللجوء إلى الأنسان الفرد ومخاطبة شعوره الفطري بأنه عربي بشكل عام وبدون تعقيدات العقيدة السياسية أو المنظومة الفكرية اللازمة لتأطير ذلك ، بل تنمية وتغذية الشعور الطبيعي العربي الفطري المنطلق من إنسانية الأنسان وتصرفه الطبيعي على أساس أنه عربي .

       نحن نتكلم إذاً عن الهوية العربية كتعبير فطري وشعور إنساني وليس كمذهب سياسي أو تنظيم عقائدي . وهذا يعني أن لا يشكل الإنتماء العربي أي حالة نقض لهويات أو عقائد أخرى قد يشعر بها المواطن العربي أو يؤمن بها . فمن غير المنطلق أن يناصب مثلاً الشيوعي العربي أو الأخ المسلم العربي العداء للقومية العربية لمجرد أن هنالك أحزاب تتبنى الفكر القومي وتحاول خطأ ً إختصار الإنتماء القومي بالعقيدة الحزبية القومية التي يتبناها هذا الحزب القومي أو ذاك مثل حزب البعث أو حركة القوميين العرب . فالإنتماء القومي يجب أن يكون فوق التحزب الذي يضعه في مأزق التناحر الحزبي مع الآخرين ويختصره من هوية عامة للجميع إلى فصيل حزبي أو سياسي قابل للنحر أو التناحر .

        إن ما تتعرض له الأمة الآن هو هجمة متعددة الأطراف على الإنتماء القومي والهوية العربية لشعوب المنطقة ودولها وأرضها وتاريخها بهدف إلغاء تلك الهوية وتحويل المنطقة إلى أرض مَشَاع حُكـْمُها لِمَنْ غلب . فإلغاء الهوية العربية يعني أن تصبح هذه الأرض مفتوحة أمام أي دولة تملك القدرة على ملئ الفراغ الناتج عن إلغاء هويتها . إلغاء الهوية يعني الضياع الأبدي وهي أخطر من إستعمار الأرض . إسرائيل احتلت أرض فلسطين منذ أكثر من ستين عاماً وهي ما تزال تحاول بدون نجاح إلغاء الهوية الفلسطينية العربية من الوجود والسبب أن هذه الهوية ارتبطت ارتباطاً مصيرياً بالتحرير والعودة مما جعل الحفاظ عليها قضية مصيرية بالنسبة للفلسطينيين .

       نكبة فلسطين التي تـَرَافـَقَ وقوعها مع بدايات النهوض القومي شكلت ضربة قاضية لإمكانية تواصل الدول العربية القطرية جغرافياً خصوصاً بلاد الشام ومصر لتشكيل نواة حقيقية لدولة الوحدة العربية . ولكنها في الوقت نفسه شكلت المحرك لأستنهاض قوى التغيير في المجتمعات القطرية العربية وساهمت في خلق شعور عام بالتضامن مع الفلسطينيين ومعاداة الكيان الصهيوني ممثلاً بدولة إسرائيل مما عزز الشعور العام بوجود هوية عربية جامعة . ولكن الأمور لم تجري بهذه الطريقة المنطقية بل برز البديل المتمثل بإنقلابات عسكرية عصفت بالمنطقة بإسم فلسطين وتحريرها وتم القضاء على الديموقراطية لفسح المجال أمام العسكريين لتحرير فلسطين . ولكن هذا لم يحدث والذي حدث هو النجاح الباهر في القضاء المبرم على الديموقراطية داخل المجتمعات العربية القطرية والفشل الكامل في استرجاع أي جزء من فلسطين .

        العروبة إذا ًيجب أن تكون هوية طبيعية أكثر منها عقيدة وأن تكون بذلك أقرب إلى روح العلاقة الفدرالية القادرة على إستيعاب الجميع برؤيا واسعة بعيدة عن الطوباوية التي تؤطر كل شئ بمفهوم مركزي شوفيني . فالهوية العربية بهذا المنظور هي المدخل لإعادة تأهيل الفكر القومي ونقله من التزمت العقائدي إلى الإنفتاح والقبول والإستيعاب من خلال هوية عربية جامعة تستوعب مختلف الأطياف العرقية والدينية والمذهبية .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.