كرة القدم … أفيون الشّعوب؟ / الطاهر المُعز

Image result for ‫جنون كرة القدم‬‎

الطاهر المُعزّ ( تونس ) الثلاثاء 26/6/2018 م … 

خرجت منتخبات كرة القدم العربية -من مونديال روسيا 2018- “بِخُفَّيْ حُنَيْن”، منذ الدور الأول، أي مُبَكِّرًا كالعادة، مع بعض الإستثناءات، “والإستثناء يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عليه”، ويُشَكِّلُ خُروجُها فرصة لإغلاق قوس الألتفاف على المشاكل الحقيقية، ولكن متابعة الجماهير بشكل عام لمثل هذه المناسبات والتّظاهُرات الرياضية تَطْرَح تساؤلات مَشْرُوعة عن تَدَنِّي درجة الوعي وعن غياب البدائل المَوْثُوقَة (أو ذات المصداقِيّة) للوضع البائس المفروض على عشرات الملايين من العرب (وغير العرب)، لتلجأ هذه الملايين إلى التّعَلُّق بأمل هو زائف من ناحية، ولا يُفِيدُهم في حال تَحَقُّقِهِ، من ناحية أخرى، وهو شبيه باللجوء إلى السّحْرِ والشَّعْوَذَة وتصْدِيق ما لا يُصَدِّقُهُ عاقِل…




تستغل الأنظمة القائمة – العربية وغير العربية- المُنافَسات الرياضية لاغتيال التّفْكِير العَقْلاني وتستخدم أجهزةُ الحكمِ وسائلَ الإعلامِ لتهييج المشاعر ونشر الأوهام، ناهيك عن تعزيز الشعور “القومي” بمفهومه الشوفيني المُنْغَلِق والحامل لفيروس الكُرْه لنادي الحي المُجاور، أو البلد الجَار… هناك أمثلة تاريخية، ومن بينها الحرب باستخدام كافة الأسلحة، ومن بينها سلاح الطيران، بين دولتي سلفادور وهندوراس، وكلاهما كان يحارب بسلاح صهيوني، بسبب مباراة كرة قدم للتأَهّل لكأس العالم بالمكسيك 1970 (وهو السبب الظّاهر وليس الحقيقي)، وكان الكيان الصهيوني هو الرابح الأكبر في هذه الحرب التي راح ضحيتها حوالي أربعة آلاف قتيل… وبعد ذلك بحوالي أربعين سنة، حدثت اضطرابات قبل وبعد فَوْزِ فريق الجزائر لكرة القدم على فريق مصر في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2009 (في ملعب مُحايد في أم درمان بالسودان)، وأدّت هذه الأحداث إلى شن حملات إعلامية وإلى توتر العلاقات الدبلوماسية بين البلدين العربيين، بعد أن كانت مصر “النّاصِرِية” تُساعد جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالإعلام والسلاح، إلى أن استقلّت الجزائر…

من جهة أخرى تستغل الأنظمة مثل هذه التّظاهرات لنشر أوهام “الوحدة الوطنية” التي تَمْحُو (حسب زَعْمِ الطبقات الحاكمة) الفوارق الطبقية، وتُوحّد الفقير والغَنِي وراء النشيد الرّسمي والعَلَم واللاعبين العاجزين عن تركيب جُمْلَة سَلِيمة بأي لغة يختارونها، وبينما تُنْفِقُ الدولة – في المغرب أو تونس أو مصر أو غيرها- بلا حساب على اللاعبين والملاعب والتجهيزات والمُدرّبين والأطباء وغير ذلك بالعملة الأجنبية، تفرض التّقَشُّفَ على الشعب وعلى الأُجراء، وطاولت الأزمة فِئَةَ البرجوازية الصّغِيرة، أو ما يُسَمّى “الفئات الوسْطى” (وهناك من يُسَمِّيها “الطبقات” الوسطى)، وحَدَثَ في بعض البلدان أن أَضْرَبَ لاعبو الفريق الوطني عن التدريب أو عن السّفر بالطائرة، مباشرة قبل المباريات الهامة، مُطالِبين بالدّفع المُسبق للمِنَح والحَوافز، ثم يُحَدِّثُك هؤلاء وأولئك عن “الروح الوطنية” وعن “الدفاع على عَلَم البلاد المُفَدّى”، ويَقْرأ بعضهم الفاتحة وآيات الكُرْسِي وقَدْ يُصَلِّي ركْعَتَيْن أمام الكاميرا فوق عُشب الملاعب، الذي ما وُجِدَ إلاّ للركض وراء الكرة ورَمْيِها في شباك الفريق المُنافِس، ولم يُزْرَع هذا العُشْب بغرض الصلاة (فَهْوَ نَجِسٌ أَصْلاً، ولا يَجُوز دينِيًّا السُّجُود فوقه)، وكُلّما ارتفعت مظاهر “التّقْوى” الكاذبة، كانت الهزيمة أَثْقَلَ، وَبَرَع فريق تونس لكرة القدم ومُدَرِّبُه (الذي كان لاعبًا في نادٍ ارتبط إسمه بالنّظام القائم) -في روسيا 2018- في النّفَاق، وما بَرَعَ قَطُّ “في الهيجاء” ولكنه “في الهزيمة كالغزال”…

استخدمت الأنظمة الحاكمة (ووسائل الإعلام التي تمتلكها البرجوازية) الرياضة، وفي مقدّمتها كرة القدم لنشر الأوهام، فكرة القدم أصبحت قطاعًا اقتصاديا يعتمد على الإحتراف، ويستثمر من خلاله الأثرياء والشركات، فيشترون من شاؤوا من اللاعبين البارزين والمُدَرِّبين ويُوفِّرُون التجهيزات، من أجل اجتذاب الإستثمارات في الإشهار على أكتاف وصدور اللاعبين، وفي بيع حقوق بث المباريات في التلفزيون، وتشتري الدول الغنية لاعبين شُبّان من البلدان الفقيرة، مع منحهم جنسية المُشْتَرِي في وقت قياسي، مثل العبيد الذي كان مالكوهم يَسْمَحُون لهم بحمل لَقَبِهِم، مما يحْرِمُ النوادي الصغيرة والبُلْدان الفقيرة من رِيَّاضِيِّيها، كما تحرمها الدول الإمبريالية والشركات متعددة الجنسية من ثرواتها المادية والبشرية… لهذه الأسباب وغيرها، لا يُمْكِنُ لبلد فقير وصغير أن يفوز بكأس العالم لكرة القدم، وإذا حَدَثَ ذلك فهو استثناءٌ للقاعِدة، ولم تَطْمَح الفرق الوطنية العربية والإفريقية إلى تَجاوُزِ الدّوْر الثاني، في تاريخ مشاركاتها في كأس العالم (ومشاركتها حَديثة)…  

تستَخْدِمُ الأنظمة الحاكمة كرة القدم (والرياضة بشكل عام) للتنفيس عن الفشل وعن الكَبْت والإحباط، وليس من أجل جسمٍ سليمٍ وعَقْلٍ سليمٍ، بل من أجل خلق أوهام في أذهان الجماهير بإمكانية حُدوث المُعْجِزات، رغم عدم توفُّر عوامل حُدُوثها (لأن المُعْجزات لم توجد سوى في الخُرافات، والنّصُوص الدّينِيّة)، مما يُهَمِّشُ الفكر العقلاني والمَوْضُوعِي، الذي يُصبِحُ غريبًا أو شاذًّا، ومما يُهَمِّشُ أي عمل سياسي أو ثقافي، يدْعُو إلى اعتماد العمل الجمْعِي والمُنَظّم، من أجل تغْيِير الوضع القائم (والسَّيِّء) بدل نشر أمل زائف، يعتمد نفي العَقْل، واستبعاد التّفْكِير المنهجي والمَنْطِقي، مِمّا يُعيدُنا إلى ما قَبْل المُعْتَزِلة، ومِمّا يُيَسِّرُ نَشْر فكر ابن قيم الجوزي وابن تيمية، وحسن البَنّا…

إن كُرة القدم رياضة جماعية وليست فردية، ولكنها اسْتُخْدِمَتْ من أجل خَلْقِ أبطال زائفين، مُتَخَلِّفِين في الفكر والممارسة، فهم تُجار قبل أن يكونوا رياضيِّين، وتَحَوّلُوا إلى لَوحات إشهار لبعض الإنتاج مرتفع الثّمن، أو أداة إنتاج مُوَلِّدَة لرِبْح شركات “الرّعاية” والإشهار، وإن وُجِدَ بينهم بعض الموْهُوبِين، فإن المَوْهِبة لا تكفي، وعندما يفْشَلُون في تحقيق “المُعْجِزَة”، يُسَدِّدُ المُدَرِّب لوحْدِهِ الثمن، ويُحَمِّلُه الجميع مسؤولية الهزيمة، رغمًا عن التفكير المنطقي والعقلاني والرّياضي أحيانًا، والذي يتوقّع الخسارة أو الرّبْح وفق مُعْطَيات وبيانات موضوعية، فالمفاجئات هي احتمال وارد، ولكنها استثناء، وليست قاعدة ومنطلقًا لبث الأوهام في عُقول شعب كامل، يُصْبِحُ مُدافِعًا عن بِضْعَة مليونيرات شُبّان متخلِّفِي التّفْكِير وذوي عقلية أنانية وانتهازية (يمَجّدون الحاكم، سواء كان بن علي أو حسني مبارك، أو الإخوان)، لتحريف مركز اهتمامه من النّضال من أجل تحسين ظروف الحياة (ضد زيادة أسعار الوقود والطاقة والنقل خلال الأسابيع الماضية في كل من المغرب وتونس ومصر والأردن)، ولم لا القضاء على أسباب الإستغلال والإضطهاد، إلى التّعَلُّق بوهمٍ، وإذا تَحَقَّقَ هذا “الحُلْم” فإنه لن يَرْدَع صندوق النّقد الدّولي عن فرض شُروطه مقابل القُروض…

من حقنا أن نحلم، والحُلْمُ لا يزال شيئًا (وليس فِعْلاً) مُمْكِنًا وبدون مقابل، فليحلموا بالجنة بعد الموت، لكننا (أنا وأمثالي من البشر) نريد أن نُحَقِّقَ بعض الجَنّة على وجه الأرض، ونحن أحْياء، انطلاقًا من تحليل للواقع الموضوعي، وليس انطلاقًا من الوهم ومن اغتيال العَقْل، ولتحقيق العَدْل على الأرض، وجب التقليل من الإنفاق على ارتياد الملاعب وخفض الوقت الذي يقضيه البعض أمام شاشة التّلْفاز، والعمل على إنجاز الخطوات الأولى لتحقيق مجتمع أفْضَل، قد يكون هو الجنة التي يَحْلُم بها الجمهور الواهِمُ بانتصار لا يأتي وإن أتى فلن يُغَيِّرَ ظروف عيْشِهِ…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.