«صفقة القرن» واستكمال النكبة / جلبير الأشقر
جلبير الأشقر( لبنان ) الخميس 5/7/2018 م …
قد يتساءل المراقبون ما الذي يحدو إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الوعد بإعلانها «صفقة القرن» في ملفّ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وهي تتصرّف بصورة تنمّ عن قصد سافر في استفزاز الجانب الفلسطيني بكل مكوّناته. فمِن اختيارها لسفير مؤيد لحركة الاستيطان الصهيوني في الضفّة الغربية المحتلّة، إلى قبولها اعتبار القدس عاصمة لدولة هذا الاستيطان نزولاً عند الرغبة التي أعلنتها إسرائيل منذ أن ضمّت القدس الشرقية رسمياً إلى أراضيها بُعيد احتلالها في عام 1967، إلى تنكيل واشنطن بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إلى جملة من المواقف الاستفزازية الأخرى، جميعها دلائل تشير إلى تعمّد قطع الجسور مع الفلسطينيين، بمن فيهم «السلطة الوطنية» ورئيسها محمود عبّاس، الذي فرضته إدارة جورج دبليو بوش على ياسر عرفات رئيساً للوزراء ثم رحّبت بخلافته للزعيم الفلسطيني إثر وفاة الأخير في الظروف المشبوهة المعروفة.
فيا تُرى، كيف بأي «وسيط» يدّعي أنه نزيه وعادل إلى حدّ وعده بتسوية نزاع فاق عمره سبعين عاماً بما وصفه هو بالذات بأنه سوف يكون «صفقة القرن»، كيف بمثل هذا «الوسيط» يتودّد إلى أحد طرفي النزاع ويستفزّ الآخر بمستوى من التودّد والاستفزاز لم يسبقه إليه أحد في التاريخ؟ وهل يُعقل أن صهر ترامب، جاريد كوشنر، يؤمن حقاً أن وعوده بجلب الازدهار الاقتصادي إلى الأراضي المحتلة سنة 1967 سوف تُقنع الشعب الفلسطيني بفرض «صفقة القرن» على قياداته؟ والحال أن هذا القفز فوق القيادات الفلسطينية هو ما يدعو إليه كوشنر، وما يبرّر في نظره سلوك القطيعة الذي وصفنا. وقد كرّر دعوته في المقابلة التي أجرتها معه جريدة «القدس» المقدسية والتي ناشد فيها الفلسطينيين بهذه الكلمات الخبيثة:
«أنتم تستحقّون أن يكون لديكم مستقبل مشرق… لقد وقعت أخطاء لا حصر لها وفرص ضائعة على مرّ السنين، ودفعتم أنتم، الشعب الفلسطيني، الثمن. اظهروا لقيادتكم أنكم تدعمون الجهود لتحقيق السلام. دعوهم يعلمون بأولوياتكم وامنحوهم الشجاعة للحفاظ على عقل منفتح نحو تحقيقها. لا تدعوا قيادتكم ترفض خطة لم ترها بعد».
ألا يدري الصهر أن الشعب الفلسطيني سئم مثل هذا الكلام المعسول وقد سمعه من الصهاينة وأصدقائهم منذ عقود، ولاسيما في إطار «صفقتي القرن» العشرين، ألا وهما تسوية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل وتسوية أوسلو بين هذه الأخيرة ومنظمة التحرير الفلسطينية؟ وهل يظنّ كوشنر حقاً أن الشعب الفلسطيني سوف تُغريه مغازلته له بأنه، على حدّ قوله في المقابلة المذكورة، شعبٌ «مجتهد ومثقّف جيّداً ومتاخم لـ«وادي سيليكون» الشرق الأوسط ـ إسرائيل»، وهو يعد «أن ازدهار إسرائيل سوف يمتد بسرعة للفلسطينيين إذا كان هناك سلام»؟ هل يعتقد كوشنر أن الفلسطينيين يحلمون بالتحوّل إلى عاملين مُلحقين بـ«وادي سيليكون الشرق الأوسط»، وهو كابوسٌ أكثر منه حلم؟
قد يُقال: إما أن كوشنر غبيّ ساذج يتلاعب به رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أو أنه متواطئ مع هذا الأخير وكلاهما يستغبيان الشعب الفلسطيني. والأرجح في الحقيقة أنهما متواطئان، لكنهما يدركان تماماً أن الفلسطينيين ليسوا بأغبياء. ذلك أن المرمى من مسرحية «صفقة القرن» يتضّح لو قرنّاه بسياسة أقصى اليمين الصهيوني التي مثّلها أرييل شارون وطبقّها إزاء غزّة في عام 2005 عندما كان رئيساً للوزراء، ويمثلّها نتانياهو بعده. وهي السياسة المعروفة بتسمية «الانفصال الوحيد الجانب» (unilateral separation)، وهي تنسجم مع التاريخ الفعلي للدولة الصهيونية منذ نشأتها، إذ أن حدودها لم تكن في أي وقت، سواء قبل عام 1967 أو بعده، مستندة إلى اتفاق مع أي جانب عربي، بل قائمة دوماً على القوة و«الأمر الواقع». ما يُحاك الآن يبدو تماماً كأنه تكرار للفصل الأول من النكبة الذي وقع في عام 1948 بما يتيح استكمال فصلها الثاني الواقع في عام 1967 من خلال ضمّ إسرائيل الرسمي للقسم الأعظم من مساحة أراضي الضفة الغربية، ولوم الفلسطينيين على «تضييع الفرصة» برفضهم التسوية التي جرى اقتراحها عليهم، تماماً مثلما يُلام الفلسطينيون وسائر العرب على ضمّ الدولة الصهيونية إثر حرب عام 1948 لمساحة تفوق بكثير تلك التي منحها إياها قرار التقسيم الذي تبنّته الأمم المتحدة في عام 1947. فهم يعدّون لمسرحية كبيرة سوف يُشرف على إخراجها أخصائي «سياسة المشهد» دونالد ترامب ويكون صهره بطلها، يعلنون من خلالها «صفقة القرن» وهم يعلمون علم اليقين أن الفلسطينيين لا يستطيعون القبول بها، مثلما لم يكن بمستطاع أي وطني فلسطيني أو عربي أن يقبل بقرار التقسيم.
وسوف يتيح ذلك الفرصة أمام نتنياهو ليعلن الضمّ الرسمي لأراضي الضفة الغربية التي تسيطر عليها إسرائيل اليوم بصورة مباشرة (أراضي «ج» في تقسيم أوسلو)، ملقياً اللوم على الفلسطينيين الذين سوف يتّهمهم بأنهم «ضيّعوا الفرصة مرّة أخرى». أما الفرق الأهم بين هذا السيناريو وما حصل في عام 1948 فهو أن أمريكا وإسرائيل تأملان أن بعض الدول العربية سوف تتواطأ معهما بصورة سافرة هذه المرّة في هذه اللعبة الخبيثة.
التعليقات مغلقة.