رسالة الملك عبد الله إلى جلوب باشا / الجزء الأول / د. حسين عمر توقه
د.حسين عمر توقة * ( الأردن ) الثلاثاء 6/1/2015 م …
* باحث في الدراسات الإستراتيجية والأمن القومي
” عزيزي جلوب باشا:
إن أهمية القدس في أعين العرب ، مسلمين ومسيحيين معروفة جيدا ، وأي كارثة تحل بعرب القدس على يد اليهود – سواء بالقتال أو الطرد من منازلهم – سيكون لها آثار سلبية بالغة علينا ، إن الحالة لا تدعو لليأس ولذلك فكل شيء بين أيدينا اليوم يجب أن نحافظ عليه – القدس القديمة والطريق إلى أريحا – ويمكن إنجاز ذلك بإستخدام الإحتياط المتواجد في منطقة رام الله أو بإرسال قوة من الإحتياط العام أطلب منك تنفيذ هذا الأمر بالسرعة الممكنة
18 أيار 1948 التوقيع عبد الله “
في تمام الساعة 11:30 يوم 17 أيار 1948 تسلم جلوب باشا وهو في قيادة الفرقة في بيتين الواقعة جنوب شرق رام الله برقية عاجلة من عمان ” يأمر جلالة الملك عبد الله بالتقدم من رام الله إلى القدس “
وفي تمام الساعة 12:00 يوم 17 أيار 1948 تسلم جلوب باشا برقية ثانية تقول ” إن جلالة الملك قلق للغاية ويصر على إرسال قوة مسندة بالمدفعية لمهاجمة الحي اليهودي في القدس . جلالته ينتظر عملا سريعا . أبلغونا بسرعة عن بدء العمليات “
كانت قوة الجيش العربي تعسكر في الزرقاء بتاريخ 13 أيار 1948 وفي اليوم التالي تحركت القوة إلى قاعدة أمامية قرب الشونة الجنوبية حيث التقى بهم جلالة الملك عبد الله وخطب فيهم وحثهم على الدفاع عن فلسطين . وفي فجر 15 أيار 1948 وبناء على طلب عرب فلسطين العاجل اجتازت قوة الجيش العربي جسر اللنبي ( جسر الملك حسين ) إلى داخل فلسطين .
وقبل الدخول في تفاصيل معركة القدس وأبعاد رسالة الملك عبد الله إبن الحسين إلى جلوب باشا والذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب قائد الجيش العربي لا بد لنا وأن نستعرض التاريخ والجغرافية السياسية والعسكرية للجانبين العربي واليهودي حتى ندرك كيف تمكن أبطال الجيش العربي من المحافظة على عروبة القدس والضفة الغربية .
لقد كان عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل سويسرا عام 1897 بمشاركة كافة ممثلي الجاليات اليهودية في العالم من أجل إنشاء وطن قومي لليهود هو البذرة الأولى في تاريخ إنشاء الوطن القومي للشعب اليهودي في فلسطين حيث تم تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية بقيادة ثيودور هيرتزل بالإضافة إلى تشكيل ” الوكالة اليهودية “ لتنفيذ قرارات المؤتمر وتم تأسيس صندوق الإئتمان اليهودي من أجل جمع المال لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات لليهود في فلسطين وتمويل عمليات تهجير وتوطين وتسليح اليهود من شتى بقاع الأرض .
في عام 1901 التقى ثيودور هيرتزل مع السلطان عبد الحميد الثاني والتمس منه السماح لليهود بإقامة مستعمرات زراعية في فلسطين إلا أن السلطان عبد الحميد الثاني الذي كانت فلسطين إحدى ولاياته لم يقبل الدخول في مباحثات مع هيرتزل ” وبالرغم من تضارب الأنباء بشأن المباحثات وما صاحبها من إشاعات مغرضة تفيد أن السلطان عبد الحميد قد التقى بثيودور هيرتزل خمسة لقاءات كان أولها عام 1896 وأن تعداد اليهود منذ عام 1876 حتى عام 1909 أي إبان حكم السلطان عبد الحميد الثاني قد تضاعف ثلاث مرات وأن إمتلاكهم للأراضي قد تضاعف أربعة أضعاف ” .
إن ما يهمنا هنا أن هيرتزل قد أبلغ المؤتمر الصهيوني الخامس عن إعتقاده بأن الأمور ستسوى مع السلطان عبد الحميد إذا وجد بين يديه مالا يقدمه للسلطان من أجل السماح له بإقامة المستعمرات الزراعية في فلسطين ولقد تم جمع مبلغ مليوني جنيه إنجليزي تم تسليمها إلى هيرتزل الذي عاد لمقابلة السلطان عبد الحميد وتفيد المراجع التاريخية بأن السلطان عبد الحميد الثاني قام بطرد ثيودور هيرتزل من قصره بعد أن عرض عليه مبلغ المليوني جنيه ولم يلتق الإثنان بعدها .
إلا أن أخطر القرارات التي صدرت في دعم إستيطان اليهود في قلب فلسطين قد وردت في وثيقة كامبل السرية نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل بنرمان زعيم حزب المحافظين البريطاني الذي دعا كلا من فرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا عام 1905 إلى عقد مؤتمر سري بحضور ديفيد ولفسون رئيس المنظمة الصهيونية العالمية الذي خلف ثيودور هيرتزل . واستمرت مناقشات المؤتمر لمدة عامين وتم التوصل في نهاية المؤتمر إلى العديد من المقررات والتوصيات كان من أهمها إقامة دولة يهودية في فلسطين والسيطرة على المنطقة العربية الممتدة من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي والإبقاء على شعوب هذه المنطقة العرب المسلمين مفككة ومتأخرة والسيطرة على ثرواتها لا سيما بعد إكتشاف النفط بالإضافة إلى السيطرة على المواقع الإستراتيجية الهامة المتمثلة بمضيق هرمز ومضيق باب المندب وقناة السويس . ولقد نجم عن ( مخطط كامبل ) كل من إتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917 ومؤتمر فرساي عام 1919 ومؤتمر سان ريمو عام 1920 ومؤتمر سيفر عام 1920 ومؤتمر سان ريمو عام 1923 وتم تتويج هذا المخطط بقرار الأمم المتحدة الظالم رقم 181 بتاريخ 29/11/1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وإلغاء السيادة العربية على القدس وتبعه بتاريخ 15/5/1948 وثيقة إعلان دولة إسرائيل وبتاريخ 11/5/1949 تبوأت إسرائيل مقعدها في الأمم المتحدة بصفتها العضو 59 في المنظمة الدولية .
وإننا في بحثنا هذا سوف نركز على الدور البريطاني الذي ساهم في إيجاد مقومات ودعم مكونات دولة يهودية في قلب العالم العربي في فلسطين العربية عن طريق دعم كل من المستعمرات اليهودية ودعم المنظمات اليهودية المسلحة وتدريبها وتسليحها بدءا بمنظمة هاشومير والفيلق اليهودي والهاغاناه الذراع العسكرية للمنظمة الصهيونية العالمية والأرغون وشيرن والبلماخ وإنتهاء بتأسيس جيش الدفاع الإسرائيلي .
إن ما يهمنا هنا من خلال الإستعراض السريع للمنظمات اليهودية العسكرية أن ندرك بأن مجموع هذه القوات التي شُكلت أثناء الحرب العالمية الثانية قد بلغ في عام 1945 أكثر من 50 ألف فرد بالإضافة إلى المتطوعين اليهود في الجيش البريطاني والذين بلغ تعدادهم 23 ألف فرد ليصل عدد اليهود المدربين من ذوي الخبرة العسكرية والقتالية إلى 73 ألف فرد .
ولكي نوضح مقدار التفاوت في التسليح والتنظيم والعدد والعدة فإننا نعرض لكم مقارنة بسيطة بين تعداد الجيوش العربية التي خاضت حرب 1948 بعد إعلان بريطانيا إنتها الإنتداب في فلسطين في منتصف ليلة 14/15 /5/1948
حيث قامت مصر والسعودية والسودان واليمن بتجهيز ثلاث كتائب يبلغ تعداد أفرادها 5 آلاف مقاتل وقامت المملكة الأردنية بتجهيز ثلاث كتائب يبلغ تعداد أفرادها 4550 مقاتل وقامت العراق بتجهيز 4 كتائب يبلغ تعداد أفرادها 2500 مقاتل وقامت سوريا بتجهيز كتيبتين يبلغ تعداد أفرادها 1876 مقاتل كما قامت لبنان بتجهيز كتيبة واحدة يبلغ تعداد أفرادها ألف مقاتل أي أن إجمالي عدد المقاتلين من الدول العربية كان 14926 مقاتل .
يقابلهم على الجانب اليهودي قوات عسكرية جيدة التسليح من الهاغاناه وحرس المستعمرات يبلغ تعدادهم 40 ألف فرد وجيش ميداني مدرب على العمليات العسكرية وله قدرة كبيرة على الحركة يبلغ تعدادهم 16 ألف فرد وقوة ضاربة خفيفة الحركة عالية التدريب من البلماخ يبلغ تعدادهم 6 آلاف فرد وقوة من الأرغون وشتيرن ونيل يبلغ تعدادهم 5 آلاف فرد أي أن إجمالي المقاتلين اليهود هو 67000 فرد .
كان الوطن العربي يمر بحركات تحررية للتخلص من الإحتلال البريطاني والفرنسي في نهاية الحرب العالمية الثانية وكانت الدول العربية المستقلة حديثة العهد بالإستقلال لا زالت خاضعة ومقيدة بإرتباطات أجنبية أو معاهدات عسكرية تحد من تطلعاتها في الحرية الكاملة فمصر والعراق كانتا مرتبطتين بمعاهدات مع بريطانيا تتيح للقوات البريطانية الإقامة في البلدين وكان الجيش الأردني بريطاني القيادة وكانت القوات الفرنسية تقاوم بكل عنف الصرخات المطالبة بجلائها عن الأراضي السورية واللبنانية . وكانت السعودية واليمن تفتقران إلى أنظمة دفاعية . في ذلك الوقت كانت بريطانيا بعد أن أنهت تدريب المنظمات اليهودية وتأكدت من قوة هذه المنظمات ومقدرتها على الدفاع عن الأراضي والمستعمرات التي سلبتها من الفلسطينيين وأن أي مقارنة بين موازين القوى في الجانب العربي والجانب اليهودي تصب في صالح اليهود .
المستعمرات اليهودية إستراتيجية الإحتلال :
لقد اعتبر بناء المستعمرات اليهودية إنعكاسا للعقيدة الصهيونية التي تهدف إلى غرس اليهودي المهاجر في الأرض الفلسطينية بقوة السلاح وتثبيت وجوده . ونحن في استعراضنا السريع لهذه المستوطنت فإننا سوف نستعرض بعض البدايات التي تمت في القرن التاسع عشر حيث يرجع تاريخ أول محاولة استيطانية لليهود لعام 1859 عندما أقيم أول حي يهودي خارج سور القدس وسمي آنذاك باسم ( يمين موشي ) نسبة إلى اليهودي البريطاني ( موشي مونت فيوري ) الذي حصل على فرمان عثماني سنة 1855 بشراء الأرض وإقامة مستشفى عليها وفي عام 1859 تم تحويل المنطقة إلى مساكن شعبية لليهود وأصبحت نواة الحي اليهودي في القدس خارج سور البلدة القديمة . وبالرغم من قيام الحكومة العثمانية بإصدار قانون للحد من الهجرة اليهودية إلا أنها خففت تنفيذ هذا القانون تحت ضغوط كل من بريطانيا وفرنسا حيث شهدت فلسطين عددا من الهجرات اليهودية كانت الأولى منها على دفعتين الدفعة الأولى بين سنة 1882 وسنة 1884 وقام بتمويل هذه الدفعة الكولونيل جورج جاولر حاكم أستراليا السابق والسير لورنس أوليفانت وكانت الدفعة الثانية بين سنة 1886 وسنة 1890 والتي أمنت السلطات الإستعمارية البريطانية غطاء يهوديا لتمويل نقل المهاجرين إلى فلسطين وتوطينهم عن طريق البارون إدموند دي روتشيلد . وتبعتها الهجرة الثانية بين عام 1905 حتى عام 1918 تحت إشراف المنظمة الصهيونية العالمية . ومنذ إنشاء مستعمرة بتاح تكفيا وتعني بالعربية ” فتحة الأمل “ عام 1878 والتي تم استيطانها من قبل المجموعات اليهودية من المهاجرين عام 1881 شرق يافا كبلدة زراعية اشتراها اليهود من سكان قرية ملبس العربية وهي تعتبر بداية التاريخ الرسمي للإستيطان اليهودي في فلسطين تبعها إنشاء مستوطنات جديدة من قبل يهود أوروبا الشرقية بين عامي 1882 و1884 ولقد اشتهرت الكثير من المستعمرات مثل مستعمرة ( داجنيا ) والتي كانت تعرف بإسم أم جوني وباتت المستعمرات اليهودية تشكل موطىء القدم لإحتلال الأرض واستثمارها في تأمين وتدريب وتجهيز المهاجرين الجدد إلى فلسطين ومدهم بالسلاح . وأخذ شعار المحراث والسيف يمثل توجهات الصهيونية العالمية في بناء المستعمرات الجماعية والتي أطلق عليها بن غوريون ” البناؤون المقاتلون ” بحيث يكون سكان هذه المستوطنات اليهودية بمثابة مستعمرات من المقاتلين والبنائين في نفس الوقت بحيث يستولون على المواقع الحيوية ذات الأهمية الإستراتيجية ويحيلونها إلى قلاع وحصون ويمنعون أي تواجد غير يهودي فيها ويقاطعون اليد العاملة العربية ويعمدون إلى إغتصاب الأرض العربية وفق مخططات استراتيجية في بداية القرن العشرين تجعل إنشاء المستعمرات وخلق قوة عسكرية قادرة للدفاع عنها عملين متلازمين يمثلان الخطوة الأولى في تطلعات السياسة الصهيونية العالمية في ضم الأرض وبناء المستوطنات وخلق مجتمع صهيوني مسلح وتعميم نظام القوة المسلحة بين المستوطنات وتحولت مستعمرة “الشجرة” في الجليل إلى أول مستوطنة ذات قوة عسكرية مسلحة لا تكتفي بالدفاع عن المستعمرة فحسب بل قادرة على شن هجمات عسكرية وممارسة العنف ضد السكان العرب والعمل على ترويعهم تحت شعارات براقة مثل شعار النضال والكفاح وهو نفس الأسلوب الذي تمارسه إسرائيل اليوم في الضفة الغربية حيث خلقت بعدا ديمغرافيا أتاح المجال لإستيطان يتزايد يوما بعد يوم حتى شارف عدد المستوطنين اليهود على 700 ألف مستوطن مدججين بأسلحتهم الفردية كما أن إختيار مواقع هذه المستوطنات الإستراتيجية هو النقطة الأولى في السيطرة على كل المدن الفلسطينية الرئيسة وعلى الطرق الرئيسة والفرعية التي تربطها بالقرى الفلسطينية المجاورة وتمنحهم القدرة العسكرية على تقطيع أوصال هذه القرى والمدن ومنع تواصلها . فإسرائيل وبكل أسف تسيطر على الأرض العربية في الضفة الغربية وإن مشكلتها الآن هو التخلص من السكان الأصليين الفلسطينيين أصحاب الأرض الشرعيين وبناء على قرار التقسيم لعام 1947 تم تحقيق إنشاء الدولة اليهودية ولم يتم حتى هذه اللحظة إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة
_____________________________
انتهى نص د. توقة
ملاحظة من المحرر حول بدايات الاستيطان في فلسطين المحتلة : كان مواطنو قرية ” المطلة ” الفلسطينية في أقصى شمال فلسطين من الأخوة الدروز ـ الموحدون ، حيث عجزوا عن تسديد المكوس للسلطنة العثمانية فقامت الجندرمة التركية بطردهم من بيوتهم وقريتهم وأسكنت بدلاً منهم مستوطنين يهود ، وربما يفسر هذا الموقف التقليدي لبعض زعامات الدروز في فلسطين لاحقاً ، كرد فعل .. وهو الموقف الذي بدأ يتراجع منذ سنوات بخاصة بين الشباب الدروز وبعض قياداتهم المسنة المتنورة ، حيث يرفضون التجنيد في جيش الاحتلال ، كما رفضوا ذلك كليا في الجولان العربي السوري ، فضلا عن رفضهم للهوية ( الإسرائيلية )
التعليقات مغلقة.