الصعاليك عندما ترسم الجغرافيا السورية / نارام سرجون

 

نارام سرجون ( سورية ) الخميس 4/6/2015 م …

في كل معركة يحصي المتحاربون خسائرهم ومكاسبهم .. يمرون على أشلاء خطوط الجغرافيا ويتجادلون في الخسائر والأثمان .. ويحصون أرقام البشر ممن قطعت أجسادهم جسد الجغرافيا ودخلت كالمسامير في لحم الخرائط .. ولكني أبحث في كل معركة عن أجساد المفردات التي دخلت الحرب ومابقي منها .. وأبحث عما بقي من لحم اللغة .. ومن لحم القواميس .. فالمفردات هي جواسيسي في الحرب لأن الحرب لاتثقب فقط لحم الخرائط بل تثقب لحم القواميس .. فلكل طرف قاموسه ومفرداته .. ومن ينتصر لابد أن قاموسه ينتصر ولاشك أن مفردات الخصم تتعرض للابادة الجماعية عندما لايبقى من يحميها .. وتستسلم كغيرها للبنادق ..

منذ بداية الحرب على سورية منذ قرابة خمس سنوات ونحن نقاتل اللغة باللغة ونبارز بسيف الكلام الكلام .. وفي متحف الحرب السورية لاشك ستمر عيونكم الى جانب الدوشكا والسيارات المفخخة وسكاكين الذبح على محنطات لكلام كان في يوم من الأيام هو مايريد ان يكون ويحيا .. ستجدون في ذلك المتحف ان النظام قاب قوسين او ادنى من السقوط .. وستتاملون ساعات الصفر .. وستجدون محنطات “للأيام المعدودة” .. وللحرب الأهلية السورية .. ومحنطات بلانهاية لأحلام أدوغان للصلاة في المسجد الأموي .. ومحنطات لنفاذ صبره .. وللمنطقة العازلة .. وستجدون الانشقاق وقد شنق نفسه .. متحف الحرب لم يعد يتسع لمحنطات الكلام والقواميس التي كانت أرحامها تقذف كل يوم علينا مولودا جديدا قبيحا ..

اليوم سأعرفكم على مخلوق جديد مشوه خرج منذ اسابيع من رحم أمه واسمه “تقسيم سورية” .. ولاشك أنني سأسجل اعجابي بقدرة قواميس المعارضة والخصوم على هذا الانجاب المتلاحق والتلقيح الصناعي والاستثمار الخلاق لكل انجاز ميداني وتحويله الى اساس لمصطلح جغرافي أو ديموغرافي أو سياسي .. واقناع الناس أنه مخلوق ولد ليكبر وانه سيحيا الى يوم الدين وأنه الوحش الذي سيأكل من لحم سورية حتى تتقطع ..

قبل كل شيء .. هذا المصطلح المعبأ بذخيرة الحرب النفسية والذي ترضعه القنوات الفضائية من اثدائها بضعة مرات في الساعة .. ويقطر الفيسبوكيون الماء في عينيه .. لن يعيش طويلا كغيره .. وسيتلقى صدمة عنيفة خلال هذا الصيف الساخن الذي تتحضر له المنطقة ..

التحولات المؤقتة في الجغرافيا لاتلد جغرافيا .. ولايخرج من رحمها صبيان وبنات لدويلات جديدة .. التقسيمات للحم الجغرافيا لاتصنعها الا الحروب الكبرى بين الدول .. ولانجاز خطوط تقسيم ثابتة بين الدول لابد من حرب كبرى .. ومن لايصدق فليسأل اي بلد في التاريخ ان كان انشطر الى دويلات دون وقوع حرب كبرى .. وتركيا العثمانية هي أكبر دليل فقد سبقت تساقط لحمها – وهو لحم مسروق من الشرق العربي – حرب هائلة عالمية .. وانشطار لبنان وفلسطين والاردن عن سورية كان بوجود قوة مهيمنة محتلة فرنسية بريطانية .. وألمانيا انشطرت بعد حرب عالمية رهيبة دخلت بعدها جيوش الحلفاء برلين .. وفي كوريا انشطر البلد الى كوريتين بعد حرب طاحنة دخلت فيها اميريكا بنفسها ضد الصين .. والهند انفصلت عنها الباكستان برعاية المحتل الانكليزي الذي اشرف بنفسه على تقطيع الهند .. وفي يوغسلافية كذلك اضطرت الولايات المتحدة الى خوض حرب بنفسها في البلقان لتمزيق بلاد جوزف بروس تيتو .. ومصر انفصلت عن السودان باشراف القوة المحتلة البريطانية .. وفي العراق جاء بوش بنفسه ليقص أجنحة الثور المجنح ليفصل ثيابا على مقاس البرزاني وأبي بكر البغدادي اللذين ارتديا ثيابهما في عهد اوباما .. الحالة الوحيدة التي تتفكك فيها الدول دون حروب هي الدول التي يتم تجميع قطعها اللامتجانسة بالحروب .. مثل الاتحاد السوفييتي الذي كان مكونا من هجين من دول مختلفة باللغات والثقافة والدين ولم تجتمع تاريخيا في جغرافيا واحدة .. ويشبه اختلاط لحم الجغرافيا فيها اختلاط لحم الحديد بلحم الخشب ..

في سورية حرب لكنها لاتزال حربا لم تجرؤ دولة واحدة على الدخول فيها بجسدها .. وهي حرب يمكن أن تنتج عنها اي نتيجة .. الا التقسيم .. لأن شروط التقسيم تفتقد الى أهم عنصر وهو عنصر القوة الخارجية الطاحنة التي تدخل بنفسها .. أما تلوي خطوط التماس والجغرافيا بين المتحاربين والانسحابات بينهم فانها لاتصنع خطوط تقسيم مهما حاولت الدعاية السوداء تسويق هذا الأمر نفسيا على أنه قدر وأنه نتيجة قادمة حتمية .. فقد لاحظت أن هناك من يكرر هذا التحذير من باب حرصه على مابقي من البلد والبعض من باب استعراضه أنه قادر على التنبؤ بالمستقبل .. بل ويتحدث بعضهم عن خطوط التقسيم التي ستمر على كتف حمص وعن قطعة من لحم سورية في فم الكلب السلجوقي وعظمة في فم الكلب البغدادي .. ولكن أين الحقيقة .. ومتى يحدث التقسيم؟؟ وماهو الاستعداد اذا لوح أحد بالتقسيم أو اقدم على دفعه بالقوة العسكرية؟؟

 

الاتراك يعرفون ان أول بوادر التقسيم يجب أن تنطلق من عمل دولي مشترك .. وحاولوا بالتعاون مع عرب الخليج المحتل بالتنسيق مع الغرب استدراج العالم في مجلس الأمن الى فكرة المناطق العازلة وحظر طيران .. لأنها ستكون مظلة دولية ترسم اول جرح في جسد الجغرافيا السورية وتدخل من خلالها التدخلات الدولية والجيوش بين الجرح والجرح .. وستتبرع أن يكون جيشها هو اداة التنفيذ بكل سرور .. ولكن حتى هذه اللحظة يوجد فيتو اسمه في الكواليس (فيتو حرب) .. وهو انذار روسي ايراني سوري بأن دون ذلك القرار والخطوة حرب كبرى بارادة سورية غير قابلة للنقاش .. ولذلك تفكر تركيا والغرب بخطوات بديلة .. وكلها لاتفي بالغرض اطلاقا .. لأن لحم الجغرافيا لاتقسمه العصابات المسلحة بل الجيوش الكبرى .. فالحرب على الارهاب حاولت اقامة حظر جوي بطريقة غير مباشرة بمنع تدخل الطيران السوري فوق مناطق داعش ولكن هذا ببساطة لايكفي .. لأن القرار الدولي ضد داعش وليس ضد الدولة السورية وبالتالي فان الطيران الاميركي لايستطيع تنفيذ ضربات جوية ضد القوات السورية وهي التي سيكون ضربها لافراغ الأرض من القوة البرية سببا في تكريس داعش التي في النهاية ستضطر الى خوض حرب برية مع قوات لم تنكسر بضربات جوية تبيد معداتها ومدرعاتها .. وانما تعرضت لخدوش عسكرية في مواجهات مع داعش ..

وهنا نسأل عن استعداد الدولة السورية في حال وجود نية تقسيم .. ولست هنا في حاجة للقول بأن مجرد الاعلان عن دخول خطوات فعلية حيز العمل فانها اشارة لانطلاق الحرب المباشرة بالسلاح الاستراتيجي العابر للحدود .. والقيادة السورية لم تدخر سلاحها الاستراتيجي من اجل دوشكا (ابو محمد الجولاني) صديق الجزيرة وأحمد منصور .. وكل سوري يعلم أن السلاح الاستراتيجي لامعنى له لأن يبقى في المخازن اذا لم يحم وحدة البلاد وشرايينها كلها ولم يمنع خطوط التقسيم .. وهذه ربما لأول مرة نعرف ماذا عنت رسالة كتبتها صحيفة الديار بعنوان وصية الرئيس الأسد .. والتي قيل يومها ان الأسد أوصى اذا ماتعرض للاغتيال بأن تعاقب العواصم المتورطة .. ولكن الرسالة التي ارسلتها القيادة السورية لم تكن تعني الرئيس الاسد بل حياة الوطن السوري .. بأن اي محاولة لاغتيال الوطن السوري الموحد اثر كلام عن التقسيم بالحرب الاهلية والتدخلات العسكرية يعني ان يكبس العسكر على زر الحرب الكبرى الدولية وان يتم توزيع الصواريخ والقنابل الاستراتيجية بسخاء على عواصم ومدن المحيط السوري بحيث يكون دم سورية لعنة على كل دولة تتورط بدمها ولحم جغرافيتها المقدس .. وهي رسالة وافقت عليها روسيا وايران اللتان تحسان ان تقسيم سورية سيتلوه تقسيم ايران ومن بعده خوض الحرب في وسط اوراسيا ونهاية روسيا .. ولااعتقد ان اردوغان يجهل حقيقة ان استانبول ستعود خلال ساعات الى ايام محمد الفاتح خرابا في خراب ان فكر بالتقسيم القسري وان حصة استانبول وحدها ستكون الف صاروخ في اليوم على الأقل .. أما تل ابيب فلن نطلق عليها صاروخا واحدا لأن حليفنا حزب الله لديه مايكفيها لتندثر .. وتكون اثرا بعد عين .. دون أن ترف لنا عين قلق أو ندم .. لأنها ستكون لعبة الموت .. فماذا تعني الحياة لشعب مقطع الأجزاء ؟؟ ..

لذلك مهما حاول الصعلوك التركي والفرنسي وغيرهما القول بأن سورية مقبلة على تقسيم وقدما لنا الصعلوكين الجولاني والبغدادي كدليل على القوة التي تقسم سورية فاننا نعيذهما اولا الى علم الجغرافيا التاريخية وتاريخ الجغرافيا .. وبأن صعاليك الصعاليك لايصنعون دولا ولاخطوط تقسيم .. لامن تدمر ولا من ادلب ولا من أريحا .. ومن يريد التقسيم فليأت بنفسه وليجربنا .. وهذه المناوشات مع داعش والنصرة ليست تقسيما .. وليس لي ان اقول الا عبارة واحدة سمعتها في لقاء مع خبير وسياسي غربي في الاسبوعين الماضيين اذ قال بمنتهى الصراحة: هذه القوى الجهادية تخرب لكنها لاتصنع خطا واحدا في الجغرافيا وحدها .. انها تتقدم ولكنني لست مرتاحا لتكتيك السوريين في الانسحاب السهل أمامها .. لابد ان في الأمر شيئا .. هذه أول مرة ارى انسحابا أتوجس منه ولو كنت مع الجهاديين لتريثت وحللت .. لأن هذا يدل بقوة على ان هذا الصيف صيف غير عادي .. فلابد أن للنظام قولا سيقوله في هذا الصيف ..

 

وقد قال السيد حسن نصر الله شيئا عن التعبئة العامة .. وهي اول رسالة تقول ان الألعاب الخطيرة نتحضر لها بتعبئة عامة في حزب الله.. وفي سورية .. والحقيقة ان اي نهوض لخطة تقسيم يعني أن قرار التعبئة العامة سيكون على الطاولة للتوقيع كما توحي الرسالة ..

لذللك لن نذهب اليوم في رحلة لاصطياد اللغة والمفردات لنعرف كيف تسير الحرب في سورية ولن نستجوب المفردات لتقول لنا ماتعلمه عن المفردات التي تجسست عليها .. ولن نستمع الى قلوبها واصوات تنفسها لتقول لنا متى ستموت ..ولكن لابد من القول بأن الشعارات عندما تتغير من اسقاط النظام والايام المعدودة الى شعارات التقسيم فان هذا يعني الاعتراف بالعجز المطلق عن تلبية نداء الشعارات واللجوء الى شعارات بديلة أكثر واقعية .. فصار بدل اسقاط النظام هو اسقاط نصف النظام بتقسيم البلد .. وهذا الشعار سلفا أكثر ضعفا بكثير من شعار اسقاط النظام .. لأن ظروف شعار اسقاط النظام الدولية كانت افضل بكثير من ظروف اسقاط نصف النظام ..

ولذلك لابد التذكير بعبارة قلتها في بداية الاحداث من اننا ستغرق سورية في البحر ولن نسلمها للخونة من جماعة مجلس الحكم .. واليوم لابد من القول: سنموت جميعا ولن نعيش الا في سورية الواحدة الموحدة .. فبلادنا ليست تجميعا من لحم الحديد ولحم الخشب بل من لحم القلب مع لحم القلب .. وسنغرق الشرق كله في البحر المتوسط ولن نسمح بتقسيم سورية .. وسنقلع بالصواريخ عيون العواصم التي تفكر بالتقسيم .. ومن لم يصدق فليجربنا ..وليجرب قلوبنا ..

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.