مقال نظري هام … فلسفة الدولة كنظام و السيادة كفعل و المواطنة كممارسة
الأردن العربي ( الجمعة ) 5/6/2015 م …
يخلط العديد من الناس بين الدولة و السلطة، و هذا الخلط مرده ممارسة الدولة للسلطة. لذلك يبدو من الضروري أن نميز بين السلطة و الدولة. فالدولة هي شكل من أشكال التنظيم السياسي الذي يمارس السلطة. في حين أن السلطة تتجاوز حقل الدولة و تمتد إلى مختلف مجالات الوجود الإنساني، فنحن نتحدث مثلا عن سلطة مسؤول معين و سلطة الطبيب أو سلطة الأستاذ… ويمكن أن نميّز بين
ثلاث مقاربات في تحديد السلطة:
– المقاربة المؤسساتية: والتي تقوم على المماهاة بين السلطة والدولة، فنحن نندّد مثلا بالسياسة القمعية للسلطة، وبالتالي المماهاة بين السلطة والحكومة فنميّز مثلا بين السلطة والمعارضة. كما تقوم هذه المقاربة على المماهاة بين السلطة والإدارة فنتحدّث مثلا عن السلطات العامة.
– المقاربة الجوهرية: والتي تقود إلى اعتبار السلطة شيئا يمكن امتلاكه أو خسرانه، شيئا يمكن أن نوسعه وننميه أو حتى نسرف فيه ونبدده.
– المقاربة العلائقية أو التفاعلية: حيث لا تتقدّم السلطة كشيء ولكن كعلاقة، والتحاليل المعاصرة تسير في هذا الاتجاه وهو المعنى الذي يسير فيه “ميشال فوكو” عندما يقول :”ليست السلطة شيئا نكتسبه، شيئا ننتزعه أو نتقاسمه، شيئا نحافظ عليه أو نخسره، بل إنّ السلطة تمارَسُ من مراكز لا يمكن حصرها وفي لعبة علاقات لا متساوية ومتحرّكة”.
و هذا يعني أن الدولة لا تجسّد كل أنواع السلطة في المجتمع، لذلك يرى فوكو أن السلطة باعتبارها ممارسة، لا يمكن أن تتحدد انطلاقا من تحليل أجهزة الدولة، فالسلطة مبثوثة في كل مكان و لا تتحدد إلا باعتبارها موضوع صراع : صراع من أجل السلطة، يسميه بالنديي بالمنافسة من أجل السلطة، و صراع ضد السلطة، يسميه الفكر السياسي المعاصر مراقبة السلطة. ذلك أن السلطة، عند فوكو، هي علاقات هيمنة لا تمارس إلا على رعايا أحرار، إذ ليس هناك تعارض جوهري بين السلطة و الحرية، و لكن يتعلّق الأمر بلعبة أكثر تعقيد، تتعلق بعلاقة إثارة متبادلة و استفزاز دائم. أما بيردو فيرى أن السلطة سابقة تاريخيا على الدولة بل أنها ساهمت في تشكيلها، و يلاحظ أن الدولة ساهمت في توسيع السلطة السياسية و تحديدها في ذات الوقت.
و التمييز بين السلطة و الدولة هو تمييز أظهرته بجلاء أعمال علماء الاجتماع و الأنتروبولوجيا. فالسلطة في المجتمعات البدائية تظهر أساسا في شكل قوة العادات و التقاليد التي يجعلها رئيس العائلة و رجل الدين محسوسة و عينية، و هذه السلطة العائلية و الدينية تعطى في مستوى ثان إلى رئيس مما يجعلها ذات صبغة فردية. لكن هذه السلطة البدائية تبقى عاجزة على تبرير ذاتها، فالسلطة الفردية للرئيس كانت غير قارة و تمثل موضوع تنافس و صراع. ذلك هو داعي نشأة الدولة بالنسبة لعلماء الاجتماع، إذ تظهر الدولة باعتبارها ممارسة لسلطة مستقلة عن شخصية الرئيس، يقول بيردو :« في الدولة تكون السلطة مؤسّساتية، أي أن شخص الحاكم لا يقوم إلاّ بممارستها، في حين أن الدولة هي المالك الحقيقي لهذه السلطة ».
و يرى هوبز أن الدولة تنشأ عبر التعاقد. فالدولة تمكن الأفراد من تحقيق الأمن و ضمان البقاء و تخلصهم من حالة الفوضى التي كانوا عليها في حالة الطبيعة. فعبر التعاقد تتحقق دولة الحقوق، حالة عقلانية يكون فيها القانون و الحق أساس العلاقات بين الأفراد. ذلك أن صراع الانفعالات قبل تأسيس الدولة يجعل الأفراد يعيشون فوضى مطلقة حيث يهيمن الحقد و العدوانية، و الأفراد يتعاقدون لتجاوز حالة الحرب المزرية التي تهدد بقاء كل فرد، لذلك يكون الانتماء إلى الدولة مع هوبز قرارا من قبيل حسن التقبل، رغم كون الدولة تمثل تنينا كبيرا أو الاها فانيا يتمتع بسلطة مطلقة.
أما روسو فقد كان يبحث عن الشروط التي تكون فيها الدولة شرعية، لذلك فإن فكرة سيادة الشعب لنفسه كانت فكرة مركزية في فكره السياسي، فما يسعى روسو إلى تأسيسه هو دولة قائمة على القانون. ذلك أن القانون و الحرية عنده متلازمان، و الدولة التي ينظّر لها روسو هي دولة ديمقراطية، يؤسسها على مفهوم الإرادة العامة و الحرية المدنية كماهية ميتافيزيقية للإنسان في الحالة المدنية. لذلك تنشأ الدولة عنده عن عقد يتعاقد فيه كل الأفراد دون استثناء، تتأسس الدولة على الحق لا على القوة مثلما هو الشأن مع هوبز.
و ما يمكن أن نستخلصه من هذه التحاليل هو فكرة وظيفة إيجابية للدولة. فالدولة أداة ضرورية لتجاوز العنف الطبيعي و الاعتباط السائد في حالة الطبيعة ( هوبز / لوك / هيقل )، إذ تمكن الإنسان من تجاوز عدم الاستقرار و الصراع لتمثل في أحشاء المجتمع عامل نظام يبني الاستقرار، فالدولة تسعى إلى تجاوز العنف و ضمان بقاء الأفراد. لكن الدولة تؤسس أيضا الحرية بما أنها تنظر في الصراعات انطلاقا من الحق و تحرر العبيد، تلك هي الوظيفة الأولى للدولة عند سبينوزا، فغاية الدولة هي الحرية. و هذه الوظيفة الإيجابية للدولة تظهر في شكلين من أشكال الدولة : دولة الحق و الدولة الديمقراطية. فدولة الحق هي الدولة التي يتلازم فيها القانون و الحق بشكل يضمن احترام الأفراد، ذلك أن دولة الحق هي شكل حقوقي يضمن الحريات الفردية و كرامة الإنسان ضد العنف و القوة، دولة تفترض أن فعل الدولة خاضع لقواعد ثابتة يكون بإمكان الأفراد فرض احترامها. أما الدولة الديمقراطية التي تجد جذورها في اليونان و تحديدا في اثينا، فهي الدولة التي يكون فيها الشعب هو الممارس الفعلي للسيادة.
غير أن الفوضويون ذهبوا عكس ذلك، إذ يرفضون الدولة و ينادون بضرورة إعادة بناء المجتمع دون دولة، ذلك ما دعا إليه برودون ( 1809 / 1864 ) و باكونين ( 1814 / 1876 )، ذلك أن الدولة حسب برودون تمثل خطرا على حرية الإنسان، فالدولة و الحرية عنده متناقضان.
أما ماركس، فعلى خلاف الفوضويين، لم ينادي بضرورة التخلي عن الدولة، ذلك أن الدولة عنده ستضمحل تدريجيا مع انتفاء الصراع الطبقي الذي أدى إلى ظهورها. إذ يرى ماركس أن الدولة أداة في خدمة الطبقات الحاكمة، فهي وسيلة قمع و هيمنة، إذ هي عموما دولة الطبقة المهيمنة إقتصاديا، لذلك فإنها ستضمحل مع انتفاء الصراع الطبقي. و هكذا، رغم اختلافه مع الفوضويين، فإن ماركس يتفق معهم في نفي الوظيفة الإيجابية للدولة.
لكن إذا كان النقد الماركسي للدولة يجد ما يبرره في الممارسة السياسية لبعض الدول الاستبدادية، و إذا كانت الدولة قادرة على الاغتراب عن غايتها النبيلة، فإنه يجب أن نعترف مع ذلك بكونها تمنع على الأقل الأفراد من الوقوع في الفوضى العامة. لذلك و وعيا بإمكان اغتراب الدولة دعا العديد من الفلاسفة إلى ضرورة نشر الوعي السياسي الحامي لمكتسبات المجتمع المدني و حقوقه، فيكون المواطن مراقبا للدولة خشية عودة النظم الاستبدادية، و من هذا المنطلق حذّر هيقل من الخلط بين الدولة و المجتمع المدني الظاهر بجلاء عند منظري العقد الاجتماعي، في حين أقر سان سيمون بأن المماهات بين الدولة و المجتمع المدني تؤدي إلى دولنة المجتمع و بالتالي هيمنة الدولة على مختلف أبعاد الوجود الاجتماعي، مما يولد نوعا جديدا من الاستبداد السياسي نعته توكفيل بالاستبداد الناعم. و هو ما يطرح مشكل علاقة الحق بالعنف.
وبالتالي أين يكمن جوهر العلاقة بين الحق كفعل و العنف كسلوك مكتسب ؟
إن العنف يتحدّد في الاستعمال الشائع باعتباره مرادفا للقوة غير أنّ التحديد الدقيق له يتمثل في اعتباره الاستخدام المبالغ فيه للقوة. ويبدو العنف مرتبطا بالسلطة بما هي فعل تأثير ولكنه أيضا يهدّد وجودها واستمراريتها في ذات الوقت. ومادام العنف يمثل إحدى مكوّنات السلطة وبالتالي محايثا لها، فإنّه يبدو من أجل غاية نبيلة من حيث هو ممارسة سلطوية، بما أنه سيكون في خدمة العدالة. ويبدو أنّ العنف لصيق بالعمل السياسي ومرتبط بكلّ اجتماع إنساني مثلما يذهب إلى ذلك العديد من المفكرين كـ”ماكس فيبر” و”كارل سميث” و”جوليان فراند” ممّا جعل “بول ريكور” يتحدّث عن مفارقة في الوجود السياسي للإنسان فالإنسان ينبذ العنف أخلاقيا في حين أنّ وجوده السياسي يرتبط بالعنف، مفارقة تفسر اختلاف المنظرين السياسيين في تناول علاقة الحق بالعنف.
فبالنسبة إلى روسو لا يمكن أن يختزل الحق في القوة، ذلك أن القوة عنده، هي أساسا قدرة مادية و لا يمكن أن ينتج عنها أي فعل أخلاقي، لذلك فان حق الأقوى عنده هو حيلة تختفي تحت اسم الحق لتحقيق رغبات ترتبط بالمصلحة الخاصة، فحق الأقوى هو تناقض في الحدود لأنه إما أن يكون هناك حق، و بالتالي يتعارض مع القوة وإما أن تكون هناك قوة، و لن نكون عندها في حاجة إلى قانون يضبط الحق. ذلك أن القوة تجبر على الطاعة بضرورتها في حين إن الحق يجبر على الطاعة بإلزام قانوني أو أخلاقي. لذلك يرفض روسو كل سلطة قائمة على امتيازات طبيعية أو على حق الأقوى، و السلطة الشرعية بالنسبة له تنشأ عن توافق، عقد اجتماع غير متبوع بأي عقد خضوع، و الشعب ليس فقط مصدر السيادة بل هو من يمارس هذه السيادة، التي تبقى بالنسبة لروسو غير قابلة للتجزئة، فصاحب السيادة و الشعب ينتميان إلى نفس الإنسانية و لكن منظور لهما من علاقات مختلفة، أي أن كل فرد يتعاقد مع ذاته كعضو من المجتمع، و طاعة القانون هي الحرية.
غير أن هذا التصور الأخلاقي للقوة الذي يقره روسو يقابله عند سبينوزا المفهوم السياسي للحق الطبيعي. فالحق الطبيعي للفرد عند سبينوزا هو قوته و هذا المفهوم يبدو في «رسالة في اللاهوت و السياسة» قريبا من تصور هوبز الذي يقر بأن الحق الطبيعي ينحى إلى نفي ذاته، بما أن قوة كل فرد، بما هي مطلقة تنتج صراعا عاما، «حرب الكل ضد الكل». لكن في مجمل الرسالة لا يتبصر سبينوزا فكرة التحول إلى السياسي انطلاقا من تنازل كل فرد عن حقه الطبيعي، فالحق الطبيعي لا يمكن أن يختزل في تمثل أخلاقي و لا يمكن اختزاله و الحد منه سياسيا. و علم السياسة الواقعي عند سبينوزا هو الذي يأخذ حق الانفعالات بعين الاعتبار، فالانفعالات لا يمكن تجاوزها، و لا يمكن اعتبارها رذائل، و السياسة لا يجب أن تنسى أن العقل يبدأ بالحساب و الحيلة، ثم إن العقل يبحث عن مصالح كل فرد و لا يمكن أن يسير ضد القوة، و إذا كانت السياسة تتمثل في البحث عن الوسائل التي تمكن الأفراد من العيش في مجموعة وفق قوانين العقل، فإن هذه القوانين تقتضي توحيد القوى، تقتضي تكوين علاقات متآلفة تزيد في قوى فعل و فهم المجموعة و بالتالي قوى فعل و فهم كل فرد. و الأخلاق عند سبينوزا ضرورية لبناء علم السياسة لأنها تتعلّق بمعرفة الإنسان «كما هو» بانفعالاته, بتجاربه و عقله. و ما على السياسة تسييره هو اجتماع البشر تحت قيادة العقل.
لكن يجب أن نميز بين القوة التي تبقى في انسجام مع وظيفتها، ضمان البقاء و بالتالي حماية الاجتماع، و الإسراف في استخدامها الذي يجعل منها عنفا، و إذا كان موقف سبينوزا متناغما مع حقيقة الإنسان إذ أن منع الإنسان من استعمال القوة هو استدلال فاسد، فالإنسان يملك القوة من حيث هو إنسان و أن نطرد منه القوة باسم الأخلاق هو أن «نشوهه تماما كما لو طردنا منه العقل» مثلما عبر عن ذلك جوليان فراند، فإن العنف هو ما لا يمكن القبول به، فالقوة تبقى مشروعة في المجال السياسي ما لم يتجاوز استعمالها حدود القانون، و لكن عندما يحل الإرهاب و تتحول القوة إلى عنف يهدد النظام الاجتماعي فإن استعمال العنف ضد هذا العنف يكون مشروعا بالنسبة للدولة أو الأفراد على حد سواء. لذلك أقر المنظرون السياسيون أن الديمقراطية هي النظام السياسي الكفيل بحماية المواطنة.
إدا بما يمكننا أن نفصل بين السيادة و المواطنة ؟
إن فهم المواطنة يقتضي تحديدها في علاقاتها بالسيادة السياسية وبالديمقراطية وهو ما تفطّن إليه أرسطو عندما أقرّ “المواطن كما حدّدناه هو على الخصوص مواطن الديمقراطية” والديمقراطية ليست شيئا آخر عدا سيادة الشعب للشعب، وهذا يعني أن المواطن هو عنصر فاعل في الحياة العامة، عنصر فاعل في المدينة. وفي النظام الديمقراطي المواطن هو من يشارك في السيادة الشعبية، فيمارس حقّ الانتخاب ويختار التوجهات العامة في تدبير شؤون الحياة السياسية.
المواطن مسؤول إذن عن الحياة المدنية، فهو من يمارس المواطنة التي تتحدّد في هذا المنظور باعتبارها علاقة ولاء للسلطة السياسية وحماية للمواطن من هذه السلطة بما في ذلك الحماية الدبلوماسية للمواطن في غير وطنه. فالمواطنة هي المشاركة في الحياة السياسية، هي ممارسة وضمان للحقوق المدنية والسياسية، والمواطن هو فردٌ ينخرط في سلطة الدولة وفي حمايتها، وبالتالي يتمتع بحقوق مدنية ويقوم بواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها. وفكرة الانتماء هذه تحيل إلى كون المواطنة ترتبط عموما بهوية وطنية خاصة، وبالتالي ترتبط المواطنة بالتحيّز الإقليمي والتاريخي الذي يعين متغيرات انتماء الأفراد.
وهكذا يمكن أن نستخلص مما تتقدم أن المواطنة تتحدد في ثلاث مستويات:
– المستوى الأوّل تتحدّد فيها المواطنة باعتبارها مثالي “بمعني قيم محفزة.
– وتتحدّد في مستوى ثاني باعتبارها مجموعة متمفصلة من المعايير السياسية والحقوقية، أي مجموعة من الحقوق والواجبات التي تضفي الواحدة منها الشرعية على الأخرى وتسهر السلطة السياسية على رعايتها بطريقة ما.
– وهي في مستوى ثالث مجموعة الممارسات الفعلية التي يقوم بها المواطنون ليشاركوا بطريقة فعالة في تنشيط الحياة الجماعية في إطار الدولة.
وباعتبارها قيم ومعايير وسلوكات اجتماعية فعلية لا يمكن القول بأنّ المواطنة طبيعية بل هي عنصر ثقافي يـُبنى تاريخيا وبالتالي مكسب يُمرّر كي يتواصل ويتطوّر، ولذلك ترتبط المواطنة بالديمقراطية وبالتالي بالسيادة.
غير أنّ ارتباط المواطنة بالسيادة يجعلها على كفّ عفريت إذ تكون وضعيتها حرجة للغاية ويمكن أن يفقدها الفرد كلما عمد إلى نسيان طبيعتها أو كلّما فسدت الديمقراطية فالسيادة عند “روسو” كما هو الحال عند “منتسكيو” غير قابلة للقسمة ثم هي مطلقة بما أنها فوق القانون، إذ هي التي ترسي القانون، والخطر يتأتى من ربط السيادة بالدولة إذ قد تتماهى السيادة مع الدولة وهذه المماهاة قد تؤدّي إلى تصوّرات تجزّئ السيادة مثلما هو الشأن مع “غروتيوس” الذي يحدّد السيادة باعتبارها مجموعة مهام يمارسها صاحب السيادة مثل سلطة “صكّ العملة”، سلطة إقامة العدالة… وكلّ المهام التي تقوم بها الدولة والتي تسمى في السجلّ السياسي الحقوقي المهامّ الملكية التي تؤسّس قوة الدولة والتي يمكن التفريط فيها، والسيادة بهذا المعنى تكون قابلة للقسمة ولذلك كان “روسّو” قد انتقد تصوّر “غروتيوس” للسيادة وأقرّ بكون السيادة كاملة وغير قابلة للقسمة. ذلك أنّ السيادة في معناها الدقيق هي السلطة العليا، و الذي يمارس هذه السيادة ليس له سلطة فوقه، فمهامه لا ترتبط بأي سلطة أعلى منه، وهو ما يتضمن كون صاحب السيادة حر بصفة كاملة و مستقل.
وهذه الاستقلالية و الحرية للسيادة تتمظهر في مستوى الحق التأسيسي في الدول الديمقراطية، فالشعب حر في أن يشرع القوانين التي يريد، وحر في أن يراجع الدستور متى شاء، بل و حر حتى في تجاوز الدستور حسب بعض الحقوقيين. كما تتمظهر هذه الاستقلالية في مستوى القانون الدولي فكل شعب حر في تقرير مصيره و يتمتع بمساواة حقوقية مع بقية الشعوب. ذلك انه إن كانت سلطة السيادة عليا فإنها بالضرورة غير قابلة للقسمة وهي حق غير قابل للتصرف إذ لا تستطيع أن تكون عليا و أن تتنازل عن جزء من سلطتها لفائدة أي جهة أخرى في نفس الوقت. و من هذا المنطلق يميّز المنظرون الثوريون في الحق التأسيس بين السلطة العليا ( السيادة) و أجهزة الدولة. فبالنسبة لـ”روسو”، الدولة لا تمثل صاحب السيادة الفعلي فصاحب السيادة هو الشعب الذي لا يقاسم و لا يفوّت في إرادته، يقول روسو «إن السيادة التي ليست سوى ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أبدا أن تكون محل تنازل». أمّا الدولة فهي من يعطي القوة الفعلية لهذه الإرادة، ذلك أنّ روسو يعتبر أن الشعب هو صاحب السيادة من جهة كونه يمثل الإرادة العامة، و سلطات الدولة ليست إلا تعبيرات عن هذه الإرادة فالدولة لا تتكلم و لا تفعل إلا باسم الشعب و بالتالي تجد الدولة دائما حدا داخليا لفعلها. و إذا كانت السيادة غير قابلة للقسمة أو التصرّف فيها، فإننا لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن سلطة الدولة التي يمكن أن تقسم و يمكن أن يفوت فيها جزئيا, لذلك فإن كل خلط بين السيادة و سلطة الدولة يؤدي إلى النظم الكليانية و بالتالي تهديد المواطنة بما أن المواطنة لا تتحقق إلا في النظام الديمقراطي، لكن النظام الديمقراطي السليم الذي يسعى إلى تحقيق العدالة و المساواة.
و يجب أن نلاحظ أنه ثمة اليوم عدو آخر يترصد بالمواطنة و السيادة معا،إنه هيمنة الاقتصاد و السوق الكوني على السياسي، هيمنة تتجلى في العولمة كادعاء للكونية. وأول تداعيات العولمة على المواطنة تتمثل في تحويل المواطن إلى مستهلك في سيرورة تحويل وجهة عندما لا يتعلق الأمر بتحويل مقصود و معلن. و هذه العملية تنخرط في نزعة قوية تتمثل في الحط من شأن السياسة في مقابل إرادة الرفع من شأن السوق باعتباره المجال الكوني لسيادة المواطن. و هكذا تنحط المواطنة إلى ابخس تعبيرة عنها، و تتوقف حرية الاختيار لدى المواطن عند أنواع الاستهلاكيات في السوق, أما صناديق الاقتراع و بطاقات الانتخاب فتبدو في إيديولوجيا السوق تخلفا. و هذا الانزياح في معنى المواطنة الذي لا يكاد يرى, إذ يمرر باسم الديمقراطية ذاتها، يطرح مشكلا خطيرا على الإنساني، مشكل سلب عدد متزايد من الأفراد من مشاركتهم في السيادة، خاصة و أن الخيار الاستهلاكي لا يمثل خيارا عقلانيا بالنسبة للمصلحة العامة، لان المصلحة العامة لا تختزل في مجموع المصالح الخاصة بكل فرد، وهو بالذات ما تروج له الفردانية في النظم الديمقراطية المعاصرة حسب “توكفيل”. و هكذا فإن الأفراد الذين ليس لهم الإمكانات المادية التي تمكنهم من الاندماج في المجتمع الاستهلاكي يجدون أنفسهم مستبعدين و محرومين من حق التعبير في الحقل العام مثلما عبر عن ذلك “هابرماس”, والمواطنة التي كانت تمكن من تجاوز اللاعدالة في مختلف أصنافها و مختلف أبعاد الوجود الإنساني و التي كانت تمكن كل فرد من حق مساو في ممارسة السيادة الشعبية تركت مكانها للاستهلاك, و يبدو أن مجتمع السوق يعيد اليوم تأسيس نوع من حق الانتخاب الضرائبي في واقع تفشي الفساد السياسي في الديمقراطيات المعاصرة.
لقد مكننا كانط من الربط بين مستويات المواطنة، بين مواطن الدولة والمواطن العالمي بطريقة تسمحُ بالمصالحة بين الحق وكرامة الإنسان، بين هوية وسيادة الشعوب وتآزر كلّ متساكني الكوكب بما في ذلك اللاجئين السياسيين الذين حرموا من حق حماية دولة خاصة. ذلك أن المواطنة العالمية عند “كانط” تقتضي الاعتراف بالآخر كآخر، فالآخر في هذا المنظور الكانطي ليس غريبا بصفة مطلقة وليس هو نسخة مطابقة للذات، والعالمية التي ينادي بها “كانط” تصالح بين خصوصية الشعوب والغيرية، تصالح بين الهوية والاختلاف، تبرز الكوني في الخصوصي والخصوصي في الكوني. ذلك هو شرط الحوار الأصيل الذي يمكننا من تجاوز المفارقة التي أحالت إليها “حنّا أرانت” بين الحقوق الكونية والتجمّعات الخصوصية، حسبنا فقط أن ننتبه إلى الاستبداد الناعم الذي شخصه “توكيفيل” والذي هو بصدد بسط سلطانه بخطى حثيثة في الديمقراطيات المعاصرة. ولكن علينا أيضا أن نحترس من العولمة والفضاءات الجديدة التي أنتجتها لتفعل فيما بعد الحدود الجغرافية وما قد تمثله من خطر على السيادة وبالتالي على المواطنة التي لا تتحقق إلا في ظلّ الديمقراطية، فالمواطنة تتكون عبر الحوار وتبادل الأفكار وهو ما يقتضي تفكيرا مناسبا حول دور الاعلام في المدينة، خاصة وأن الاعلام اليوم يتموضع في مشهد السوق ولا يهتم أبدا بتبادل الأفكار وإنما يهتمّ بخطابات الأوغاد والحمقى مثلما عبر عن ذلك “ميشال هنري” في كتابه “البربرية”، ثم إن دكتاتورية وسائل الاتصال تمنع كلّ نقد باسم حرية الصحافة. ونخشى اليوم من أن تهيمن الديمقراطية الاتصالية وأن تهيمن وسائل الاعلام فتغيب الديمقراطية، لذلك يجب استغلال العولمة لنعلن الواجب الملح اليوم، واجب رفعه “كانط” منذ الحداثة يتمثل في بناء مواطنة عالمية تتأسّس على الثلاثية: حرية، مساواة، وإخاء، لأنه أن يكون الواحد منا مواطنا عالميا هو أن يعرف وأن يفهم وأن يشارك في حوارات المدينة الذي تمثلها اليوم “القرية العالمية” واللاّتجانس ليس حاجزا وإنما هو مثلما بيّن ذلك “إدغار موران” عامل محرّر : “إنه يجعل الامبراطوريات القديمة والحديثة تنهار ويفضل التجارب والوضعيات الجديدة”.
التعليقات مغلقة.