الفلسطيني عبد المحسن قطّان … “قَطَّانٌ” في عمله .. “مُحسِنٌ” في حياته

نتيجة بحث الصور عن عبد المحسن قطان

بثينة حمدان  ( فلسطين ) الجمعة 3/8/2018 م …                       




هو “قطّانٌ” يزرع القطن ويبيع جزءً منه تاركاً الباقي للاحسان وتقديم العون لبلده وشعبه، بل وكان عبداً للاحسان ومحسناً حتى في رغبته بأن تحتل مؤسسة عبد المحسن القطان مساحة في صفحات القبس الجريدة التي يحب وتابعها على مدى عمره، نعم لاسمه ولقبه معاني في حياته. لقد دعاني الراحل لأكتب عن المبنى الجديد الضخم الذي افتتح مؤخراً، لكنه رحل قبل الموعد، ويبدو أن القدر شاء أن تكون مقابلته الأخيرة لصحيفة القبس. وفي غيابه لبّيتُ الدعوة، تجولت في أول مبنى أخضر في فلسطين، كان صرحاً ثقافياً يستحق كل سنوات التعب وجدير بأن يرفع اسم صاحبه المُحسن الكبير. في أكثرمن سبعة آلاف متر مربع، كانت تفاصيل حياته وطموحاته تتجسد فهذه مكتبة ليلى مقدادي زوجته، وجاليري لاحتضان المعارض الفنية ومسرح وعدة استوديوهات ومساحة ستكون فضاء تجريبياً للعمل مع الأطفال والمعلمين، وبيت للضيافة وفضاءات خارجية عديدة.

طفولة في المزاد

عاد عبد المحسن بعد 51 عاماً من الغياب إلى يافا بدعوة من جمعية يدعمها، صار منزل العائلة قرب مستعمرة “بيت يام” الاسرائيلية، شاء القدر أن يصل في الفترة الذي عرض فيه المنزل للبيع في المزاد العلني بحجة أنه “أملاك غائبين” حسب القانون الاسرائيلي العجيب! غائبون بل حاضرون عاجزون عن استعادة المكان فقد صادر الاحتلال معظم المكان! قال بأسف: “أخذوا كل البلاد!!!!”، وأراده القدر أيضاً أن يحصل على الهوية الفلسطينية قبل خمسة سنوات فقط من وفاته بمساعدة سلام فياض رئيس الوزراء آنذاك وحسين الشيخ وزير الشؤون المدنية.

ماوتسي تونغ التواضع في صورة!

لم يتفرغ يوماً للعمل السياسي ولم ينتمِ لأي حزب سوى حزب البعث لفترة قصيرة، ومع ذلك اختاره الراحل أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ليرافقه في زيارة إلى الصين للتعريف بالقضية الفلسطينية، فحظي الشاب الصغير برحلة توازي في مضمونها عظمة سور الصين؛ تجول الوفد في أرجاء الجمهورية وعقدوا ندوات ولقاءات عديدة، والتقوا بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ وتبادلوا معه حديثاً امتد لأربع ساعات، ترك أثراً كبير لدى عبد المحسن، وسلب لُبّهُ حين طلب الزعيم الشيوعي صورة مع الوفد الفلسطيني! قائد تاريخي يرغب بصورة مع وفد بالكاد يبدأ رسم تاريخه الوطني!

في اللقاء عبّر الشقيري عن اعجابه بمؤلفاته عن الشيوعية والديمقراطية، فعلّق الزعيم الذي يعتبر فلسطين مثل جزيرة فرموزا لابد من استعادتها: “لا يجوزللزعيم أو القائد أن يمضي جُلّ وقته بين الكتب، فقد ترتفع الكتب ويأت وقت لا يستطيع فيه النظر، لابد من الجمع بين الأمرين، عدم الاكتفاء بالقراءة والكتابة”.

راتب موظف.. لتعليم الفلسطينيين

خلال عمله الحكومي في الكويت وعمل زوجته ليلى المقدادي في حقل التعليم، وفي الوقت الذي كانا يساهمان بتعليم اخوته قررا اقتطاع ما يفيض من رواتبهما لصالح دعم تعليم الفلسطينيين، وهكذا بدأ رحلة دعم التعليم مُبكّراً من فائض راتب وليس من أموال رجل الأعمال لاحقاً، اقتطاع الوفي والمؤمن بالتعليم طريقاً للتحرر، اقتطاع من الراتب.. اقتطاع من أجل حياة كريمة. وسرعان ما تحولت الفكرة مع اتجاهه للعمل الخاص إلى مؤسسة لدعم التعليم، فكانت مؤسسة عبد المحسن القطان التي تدعم اليوم التعليم وتركز على الأطفال والمعلمين والمبدعين الشباب عبر فروعها في رام الله وغزة ومشاريعها في لبنان وبريطانيا.

الكويت.. المقر الدائم للفلسطينيين

كان مُقَرَّباً من القيادي الشهيد أبو اياد صلاح خلف وهو برأيه “صاحب الشخصية القوية والكاريزما والأكثر حكمة بين القيادات الفلسطينية”. كان بيته في الكويت محطة جذب للقيادات الفلسطينية، ومقرباً من الرئيس الشهيد ياسر عرفات بل ومتقاربين في السكن، وعند اجتياح بيروت تمتنت العلاقة أكثر لاسيما مع تقديم القطان الدعم المادي والمعنوي للثورة الفلسطينية، يرى القطان في عرفات كاريزما ورجل علاقات عامة ومِقدام لا يهمه شيء، وقال: “نشتاق إلى أبو عمار بعد الذي نراه اليوم”. يذكر أيضاً أن أبو عمار لجأ إليه  حين كان الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية ضعيفا يعمل بميزانية نصف مليون دولار بينما مطلوب منه أن يدعم جميع الفلسطينيين فهو “شبيه بصندوق الدولة المرتقبة”، وقال: “جاءني أبو عمار وهو مستاء من ضعف الصندوق، وطلب مساعدتي، وعينني محافظاً لفلسطين في الصندوق عشرين عاماً. تضاعفت ميزانيته ووصلت المعونات لمائة مليون دولار”.

رياح التغيير.. والمبدأ ثابت

التقى القطان وعبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وحسيب الصباغ رجل الأعمال الفلسطيني مع أبي عمار والراحل القيادي جورج حبش -مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-، واتفقوا على صياغة رسالة تطالب بتنحي أحمد الشقيري عن رئاسة المنظمة لاسيما مع بداية تشكيل حركة فتح لتقود العمل الوطني والكفاح الشعبي، قال القطان: إن الشقيري كان شهماً ووافق، وتم تشكيل لجنة لعقد المجلس الوطني وصياغة الميثاق الوطني.

اجتمعت اللجنة في عَمّان وكان القطان مع اشراك العسكر في المجلس، وقد وصل العدد إلى مائتي شخص التقوا في مقر الجامعة العربية في القاهرة، وعلى الهامش التقى القطان مساءً ببعض القيادات التاريخية الفلسطينية وهم خالد الحسن والشهيد صلاح خلف “أبو إياد” وشومان والصبّاغ، تحدثوا عن مشاوراتهم مع الفصائل، والتي توصلوا فيها لاختيار القطان رئيساً للمجلس، وهو ما جعله يتسائل سيما وهو أصغرهم! وحتى صباح اليوم التالي أي يوم انعقاد المؤتمر ظل رافضاً، لكن توافق الفصائل والواجب الوطني جعله يوافق وهو ابن الثانية والثلاثين عاماً.

حدد السياسي الشاب آلية الحديث للصحافة، وطرح تأسيس لجنة تنفيذية جديدة، فوافقت فتح في المساء ورفضت في اليوم التالي، وأخبره بذلك القيادي خالد الحسن، أصر القطان على ضرورة الاتفاق على قيادة واحدة بشرط أن يكون كل السلاح والمال بيد القيادة والحرية للجميع في النقد، فشل الاتفاق، وهكذا انسحب القطان من المجلس الوطني وهاجم الحضور قائلاً لهم: “أنتم لستم أهلاً لقيادة الشعب الفلسطيني”، كان هجوم شاب متحمس لقيادة شابة مازالت تبدأ طريقها في الكفاح.

رغم محاولات العديد من القيادات مثل أبو يوسف النجار وأبوا إياد والشهيد كمال عدوان وأبو عمار مطالبين ببقاءه، لكنه ثبت على المبدأ وقال: “كي أضحي عليهم أن يضحوا، لكنهم لم يستطيعوا وخافوا، لم يكن لديهم النضج الكافي في أواخر الستينات، انسحبتُ رئيساً وبقيت عضواً في المجلس الوطني”.

من السياسة إلى الوطن

خلال الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، التقى القطان وشومان والصباغ في منزل القطان في لندن للبحث عن فكرة يتم من خلالها تقديم دعم للوطن ومساعدة الفلسطينيين على الصمود، كان الاقتراح جمع الأموال وصرفه في مجال الدعاية في أمريكا من أجل خلق رأي عام ضاغط، لكن القطان وجد أنها فكرة غير مجدية وتأثيرها مؤقت، واقترح وقفية للشعب الفلسطيني دائمة تقدم دعماً في مجالات الصحة والتعليم والتنمية، وهكذا تم تأسيس مؤسسة التعاون عام 1987 والتي مازالت قائمة إلى هذا اليوم، وهي من المؤسسات الأهلية الكبرى في فلسطين والتي لم تعتمد على التمويل الخارجي المشروط أو المرتبط بالوضع السياسي، بل على وقفية وتمويل أفراد. قام الثلاثة بفتح الوقفية فدفع الواحد منهم مليوني دولار ثم تم جمع الاموال من الفلسطينيين من أنحاء العالم، وعرب من الكويت ومنهم أمير الكويت، ومن السعودية. كان القطان رئيس مجلس الادارة وبقي حتى وفاته عضواً فخرياً، قد لا يتدخل لكنه يحاول ايجاد الحلول والمساعدة حين يُطلب منه ذلك.

الخلاف مع الختيار.. في حب الكويت

اختلف القطّان مع أبي عمار على قضيتين لكن بقيت الصداقة هي الرابط الثابت، فقال: “اختلفنا على احتلال الكويت وعلى اتفاقية اوسلو”. حاول القطان وعدد من اصدقاءه ثني أبو عمار عن موقفه من الغزو العراقي للكويت، لكن دون جدوى، فأصدر القطان وادوارد سعيد وابراهيم أبو لغد وشفيق الحوت بياناً صحفياً يبين موقفه الرافض للغزو وشجب لموقف القيادة الفلسطينية منه وهو ما ساعد الفلسطينيين المقيمين في الكويت لاحقاً، واستقال من عضوية المجلس الوطني عام 1991 اثر هذا الموقف. أما الخلاف الثاني فكان حول اتفاقية أوسلو فقد كان يرى أنها تحتوي على نقطتين ستكسر الفلسطينيين وهي القدس كونها قضية مؤجلة فقال: “لا يجوز أن يتغير من معالمها شيء” وثانياً ضرورة وقف الاستيطان بالمطلق، وأن وعود بيريز في هاتين القضيتين كاذبة.

كانت القيادة الفلسطينية الجديدة والتي وافقت على أوسلو برأيه “قيادة غير مطلعة على العالم، ولا تجيد الانجليزية، ولا تعرف كيف يفكر العالم، وهذه كانت النتيجة، ولو رفضوا أوسلو ماذا كان سيحصل؟”.

وصيته؛ الثروة للانسانية

بدأ القطان بمليون دولار خصصها لمؤسسة القطان ثم ضاعف المبلغ إلى خمسة وإلى واحد وعشرين مليون دولا. ققبل وفاته أخبرني أنه يحلم بتخصيص ربع ثروته لمؤسسة القطان فكان ايمان العائلة بالفكرة أن ضاعف المبلغ لأكثر من هذا الربع، واليوم للمؤسسة وقفية قيمتها أكثرمن مائة مليون دولار كي تحافظ على استقلاليتها وبقاءها، والوقفية تعني أن عائلة القطان هي المتبرعة الوحيدة. ولم يكتفي بذلك فقال لي: وصيتي تخصيص ربع ثروتي للمؤسسة، ثم كل من يعمل معي من سائق إلى مدير، ثم أولادي وبناتي الذين ستكون حصتهم الأقل.

وأكد القطان أنه: “يجب أن يزيد التواضع مع زيادة المال، المال هو قوة اضافية، هناك من يبحث عن جمع ومراكمة الثروة، لكنني لم أفكر بهذه الطريقة في حياتي، لم أفكر يوماً أن أكون رجل أعمال، ولم أبحث عن منصب سياسي، حلمي أن أتعلم تعليم جيد وأردت أن أكون بالعمل العام دون إهمال العمل الثقافي، أنا قارئ ونشيط ثقافياً”.

حكيم المال والسياسة

رحل المحسن الكبير والحكيم في المال والسياسة، ورغم ذلك فإنه لم يبحث عنهما، بل وقال أنه ليس رجل اقتصاد، فمن هو إذن؟ إنه الذي بكى زوجته التي رحلت قبله بعامين، في قلبه حب كبير لها أوجزه بدموعه وبكلمتين: “ليلى قمة التواضع”، إنه الذي بكى القيادات الفلسطينية التاريخية منها عبد القادر الحسيني والشهيد الصديق كمال ناصر.

إنه الذي نظر للمال وسيلة فقط وقال: “المال متل الحمار اذا لم تركب عليه، فإنه يركب عليك”، وقد بقي من طموحه الحلم الكبير: تحرير فلسطين، أما طموحه الشخصي فكان المساهمة بترقية التعليم وقال: “مستعد لعمل كل شيء كي يرتقي التعليم وبدون تقدمه لا أمل لنا، التعليم عربياً ليس متقدم فهو ينتج فقط موظفين”.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.