نحو مجتمع شرق أوسطي حداثي ناهض / سليم نقولا محسن
سليم نقولا محسن ( الأربعاء ) 22/8/2018 م …
**تجتاح المنطقة أوضاعاً كارثية، تتمثل في ما تشهده من استهداف إمبريالي أمريكي صهيوني معلن ومباشر ودائم لشعوبها يَجمَحُ إلى نزع هويتها واحتلال أرضها؛ وإسقاط معتقدات بلادها: المجال الحيوي الحضاري لتحركها ووجودها في كل ما يعنيه روح هذه المعتقدات من وحدة الشعوب، وعمق التاريخ المشترك، والعقائد الرسالية والقيم وسيرورة الحياة؛ والى تحصينها في مواجهة التجزئة والخنوع والتخلف، وان هذا يتطلب عودة الشعوب إلى ممارسة دورها السياسي واستنهاض ذاتها، بعد أن تأكد عَجز النظام العربي الرسمي في مجمله عن ألاضطلاع بمسؤولياته.
وكانت الحروب المعلنة عليه على تعددها واختلافها، بمثابة تجارب مَعرفية خاضتها الشعوب العربية في مسيرتها الاستنهاضية، تضاف إلى سلسلة تجاربها، لتنظرَ على ضوئها في صواب تحركها من خطئه، ولم تكن هزائم الجيوش العربية الظاهرة أمام المعسكر الغربي الأمريكي الصهيوني، هي هزيمة للشعوب العربية كما تُصَوّر، بل كانت اكتشافاً لحضور آخر في ساحة الكفاح القومية والعالمية،
إذ أن فترة وجيزة من النضال النهضوي الوحدوي الذي عاشته البلاد، وقادته طلائع ونخب من شعب بلاد العرب وقياداته، وإن كان يؤسس لاحتمالات النصر المستقبلي- فإنه لم يكن ليستطيعَ واقعاً من اختراقِ المُحَرّّم في قوانين الشرعية الدولية المُعتمدة لصالح إبقاء تفوق الغرب، ومن تجاوز التخلف الطويل لمجتمعاتها، ليُصَنّع هذا النضال بشروطه النصرَ المُؤمَل لشعوبه في مواجهته لهمجية أطماع الغرب، هذه الأطماع المستندة على قرون من التطور التقني وعقلية العنف المتفوقة، وكان طبيعيا أن تنطلق المقاومة الشعبية العربية والفلسطينية المسلحة في أحد المراحل، لمواجهة العدوان ونتائجه كإعلان عن عودة الشعوب إلى ممارسة دورها السياسي النضالي، وإعلان برامج التقدم.
لقد كانت نكبة 48 في اغتصاب فلسطين، عقب الحرب الكونية الثانية، وبداية الاستقلالات العربية، مؤشرا يُوضح ما هو مرسوم ومسموح به من معالم المستقبل العربي، وما ينتظر مساره من نكبات بدءا بانفصال الوحدة عام 61 إلى الإصرار في نيسان 2003 على احتلال العراق وشرذمته، ومن ثم الحرب العدوانية على سوريا/2011، التي أعقبتها اليمن، سبقه ما تخلل هذه الفترة من انحرافات مَنهجية في الأداء السياسي لدى معظم السلطات، سمح بأن يؤدي إلى ظاهرة قفز أداء القوة العسكرية إلى السلطة، وتعاظم دور السلطويات في الانفراد السلطوي وإجراءات تنحية الشعوب وقمعها، مما أوصلها إلى منزلق التعثر والانكفاء الإقليمي والخضوع إلى الاملاءات الدولية بما أعقب ذلك من تداعيات سلبية على التكوينات الفكرية السياسية، راينا ملامحها بانخراط بعض ممن يسمون نخب بأوهام التعايش السلامي مع المُغتصِب ومع مشاريعه السياسية والاقتصادية، إلى الارتباط بالمعاهدات المذلة.
لقد كان لمأزق التكوين الذهني للنخب العربية في ارتداداته، دورا في منع تقدم المنطقة وشعوبها، بما أسَسَ هذا لرضوخ هذه النخب وسقوطها في هاجس هجر عقائد شعب البلاد ومعطيات حضاراته إلى الحداثة، والانكفاء إلى الفئوية، والمذهبية، والعشائرية والإقليمية، أو الهروب إلى الالتصاق العضوي بالغرب الإمبريالي الكوني المُبهر وإلى تبني مهام ترويض الشعوب العربية – ومقاولة- تبرير الاحتلالات واستقدامها، وشرعنه ممارسات الخونة والعملاء، كما حدث في فلسطين والعراق وسوريا، والعديد من الدول العربية.
ورغم كون الأنظمة السياسية في دول المنطقة تعمل وفق منظومة هرمية سلطانية ساهمت في صياغتها تاريخيا الظروف الموضوعية لأشكال الإنتاج وعلاقاتها، وما تبعها من فترة الاحتلالات، وهي موصوفة من المنظور الغربي بالاستبداد، أكانت ملكية وراثية أم جمهورية – صالحة، وطنية، أو طالحة- فان الغرب الإمبريالي، وبعض القوى المتسيسة المتغربة في أوطانها، لم يزالوا يبيحون لأنفسهم أن يَهبوا التوصيفات: المثالية الديمقراطية الإنسانية، أو الوحشية الديكتاتورية والاستبدادية في استنسابية انتقائية مفضوحة لا وطنية، توصف الفضيلة وتخصصها – من معيار غربي- لأشد سلطات المنطقة ارتباطا وعمالة، وتضاد مع شعوبها.
إن ما تتعرض له شعوب المنطقة، من محاولات طامحة لاستئصال وجودها القومي الإنساني، إنما يستدعي من قواها الواعية ضرورة العمل لمواجهة الإظلام الجديد، الذي تدبره بدهاء السياسة الإمبريالية بما يتوافق مع مصالحها الكونية الراهنة: المتمثلة في مصادرة ثروات الشعوب وجهدها المتراكم، وامتلاك المساحات الجغرافيات الخالية بإبادة الفائض من الشعوب، وذلك عبر تصدير منظوماتها الفكرية ذات الأغراء الظاهري بإشاعة أحلام الديمقراطية والحرية والرخاء عبر مشاريع سياسية إقليمية مستقبلية كاذبة ما فوق قومية، وما دون وطنية لا أرض لها، تهدف إلى تفتيت المنطقة وإشغالها في حروب وفتن مستديمة، تؤَسَسُ بَرامجها على تواجد الكيان الصهيوني كقوة ضاربة عالية التقنية، وبعض الدول الملحقة كمنصات لوجستية لا تقل ضراوة، يغذي بقاءها التواجد الأمريكي وغرف عملياته الناشطة في العديد من البلاد كاليمن والعراق المتقاتل المُحتل وغيرها، إضافة إلى القواعد العسكرية المنتشرة، أو البدائل العميلة، في إطار ما يُسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير.
إن فشل العديد من الأنظمة في الحفاظ على حقوق شعوبها الوطنية، وخضوعها لاملاءات القوى العالمية، قد أسقط مشروعية حاكميتها، وإن هذا يقضي بعودة شعوب المنطقة إلى ممارسة نوع آخر من مهام الكفاح السياسي اليومي عبر مطلبية التحرر والإصلاح، والى الارتقاء به إلى كفاءة تطور العدو التقني لمجابهته بمستوى الفعل القهري الممارس ضدها والى تأكيد مشروعية دعم المقاومة في فلسطين وسائر الدول الرازحة شعوبها تحت نير التسلط كساحات نضال مفتوحة، من أجل تحرير فلسطين المغتصبة، والعراق الخاضع لقهر تداعيات الاحتلال ومخلفاته، كطريق قويم لتطوير المسير نحو مجتمع شرق أوسطي حداثي ناهض.
التعليقات مغلقة.