أردنيون.. ليسوا عابرين / توجان الفيصل
توجان الفيصل ( الأردن ) الجمعة 12/6/2015 م …
المختلفون في كل شأن يُجمعون على أن الفقر والحرمان، والجائر منه بالذات بمعنى الناتج عن سياسات فاسدة أو خاطئة، يُشكل أكبر عامل تجنيد لصالح التطرف، كما لصالح العنف الفردي أو الجمعي بصوره الجرمية أو بصوره الثورية، ومع ذلك يجري التفنن في توصيف وتصنيف الفقر ووضعه في خانات معدة سلفاً وبحجوم محددة سلفاً – تماماً كأرقام العجز في الموازنة وكتوصيفات المديونية – بما يخدم المزيد من الجباية أو رفع الأسعار أو تبرير الاقتراض أو تسول المعونات، ويجري تناسي الإنسان باعتباره مكون الرقم.. والإنسان معادلة أزلية مدخلاتها تحتم مخرجاتها ولا مجال للفرار من النتيجة.
وآتي لبعض أوجه استسهال اللعب بالأرقام التي مكوناتها بشرية، فآخر التقديرات الرسمية الأردنية لنسبة الفقراء من الأردنيين توقفت عند العام 2010، وعند نسبة 14.4%، أي لخمس سنوات لحينه جرت فيها سلاسل رفع كبير لأسعار( وأيضاً للضرائب التي توضع كنسبة على تلك الأسعار) أهم سلعة إستراتيجية تتحكم في أسعار بقية السلع والخدمات، وهي المشتقات النفطية، وهذا غير رفع الجبايات الحكومية الأخرى. ولم يخطر للحكومات التي توالت منذ العام 2010 أن تتساءل عمن انضم لجموع الفقراء هؤلاء من الطبقة الوسطى المعترف بكون غالبية من بقي فيها يقبعون على حدود الفقر..أي أن أرقام الفقر قابلة للتغير خلال أشهر وليس سنوات!.
وعلى عتبة وعد الحكومة بإصدار تقديرات جديدة، تقرير جديد للبنك الدولي يقول إن 18.6% من الأردنيين مهددون بالانضمام إلى الفقراء ليصبحوا 33%، أي ثلث الأردنيين! واللافت هو التسمية العجيبة التي يجترحها البنك الدولي لهؤلاء وهي “الفقراء العابرون”، ويصر على أن هؤلاء يختلفون عن الفقراء كونهم “يختبرون الفقر لفترة ثلاثة أشهر أو أكثر في السنة”!.
من يختبر “الفقر” لثلاثة أشهر كحد أدنى أو يزيد كل عام حتماً سيخرج بواحدة أو أكثر مما يلي وغيره: ديون تؤدي فوائدها لتآكل الدخل الشحيح أو تقضي على أصول “المختبر” بالبيع المضطر أو الرهن وكلاهما بخس يؤدي للإفلاس..أو يتفاقم مرض يتوقف علاجه فتتضاعف كلفه فيما بعد، أو يقضي به المعيل (مرجح لعامل السن) فتستقر الأسرة في الفقر..أو يوقف تعليم أحد الأبناء أو جميعهم (فترة اختبار الفقر تكون في الخريف والشتاء البارد مع بدء الفصول الدراسية وتثبت دراسة حديثة أن 75% من الأسر الأردنية لا تقدر على تعليم جامعي واحد) ما يحكم على الأسرة بتأهيلات لأبنائها تكرّسهم فقراء.. أو تؤدي ضغوط “الاختبارات” للطلاق الذي يسقط الأسرة في الفقر وقد يسقط بعض أفرادها في خانة الجريمة كجناة أو كضحايا.
ونترك قائمة الاحتمالات المرجحة للفقر هذه والتي لا يبدو أنها تهم لا الحكومة ولا البنك الدولي، ونأتي لردة فعل هذا الذي يمر كل عام بما لا يقل عن ثلاثة أشهر، اختبار الفقر بكل أوجاعه وإذلالاته، فقط لنذكر بما يتداول من أثر اختبارات مشابهة في سجون الاحتلال أو سجون الأنظمة، على قيام داعش أساساً وعلى استقطابها للأتباع.. ونترك الحديث المكرر عن الشباب في إقليم مضطرب، لنأتي للحديث عن أرباب أسر مستورة، الأرجح أنهم لن يصرّحوا لباحث الحكومة أو البنك الدولي بفقرهم الذي لا يرتب له أية حقوق.. أي نتحدث عن أعزة، أو أقله “مستوري” القوم الذين يسقط عنهم الستر فجأة، وهذا أحدهم:
أوائل الشهر الحالي عرجت على مركز تسوق كبير- ولكنه من الأرخص لكثرة بيعه بحيث ينافس المؤسستين الاستهلاكيتين الحكوميتين- لشراء الشاي ففوجئت بازدحام المشترين الذي ذكرني بكوننا في بداية الشهر وأن الرواتب والأجور قبضت، وبكون رمضان سيحل في منتصف الشهر، ما يلزم محدودي و”مهدودي” الدخل (بالاستعارة من رسام الكاريكاتير عماد حجاج) أن يتمونوا لرمضان بما لا يكسفهم بالنكوص عن دعوة أو سداد دعوة إفطار لأقرباء أو أنسباء مما يجري في النصف الأول من رمضان، فيما تزاحم كلف العيد على الراتب المقبوض في نصفه الثاني. ولكوني تورطت في الزحام فقد أضفت للشاي بعض ما يغنيني عن خوض زحام آخر ولكن بكم يتيح العبور بسرعة من “الكاش” المخصص لما يقل عن عشرة مشتريات.. وهنالك شهدت رب أسرة شاباً وزوجته وطفلاً، حزم مشترياته التي لا تزيد أو لن تزيد كثيراً على العشر قطع.. كان الرجل يقف مسمراً والفاتورة بيده، وأربع أوراق بعشرة دنانير مفرودة كورق اللعب في يديه، وينظر لها بمزيج من الألم والقهر والكرامة الجريحة، فيما زوجته تراوح مضطربة بين إعادة بعض أكياس المشتريات من العربة في تمهيد لحال عدم كفاية “الفكة”، ونبش ما في محفظتها من”فكة” في محاولة لإكمال الفاتورة.. و”الكاشير” وقف صامتاً متفهماً لتسمّر المشتري المصدوم، وكذلك بضعة المشترين أمامي وخلفي، كما في طابور عزاء.
رب الأسرة هذا- ومثله كثر- ينبغي أن يستوقفنا خياره في لحظة ما شبيهة بهذه أو تستعيد غيظها المكظوم، بأكثر مما يستوقفنا شاب متطرف أو مضلل أو مغامر منحرف.
التعليقات مغلقة.