قاعدة الذهب و الليرة التركية و انهيار الدولار: الجزء(1) / د. مروان الزعبي

د. مروان الزعبي ( الأردن ) الأحد 2/9/2018 م …




*خبير مالي واقتصادي أردني …
الدولار سينهار لا محاله والعالم بدء يفيق من صحوته، كنت قد توقعت ذلك واشرت له في مقالتي بتاريخ 3-1-2018 بعنوان “الدولار الامريكي وسرقة العالم” . الولايات المتحدة تعيش حاله غير مسبوقه من الرعب جراء بدء انحسار الدولار الامريكي بسبب صحوة العالم على المصيبة التي حلت به وسعية للاستغناء عنه، وفي هذه المقالة استكمل الحديث عن الانهيار المنتظر للدولار الامريكي مبتدءا بالحديث عن تطور اسعار الصرف في التاريخ الحديث .
مرت اسعار الصرف بثلاث مراحل خلال القرنين الماضيين، المرحلة الاولى بدات في بريطانيا في بداية القرن التاسع عشرحيث ربطت الحكومة البريطانية عملتها بالذهب من ناحية سعر الصرف وحجم النقد المصدر. لم تصدر بريطانيا العمله الا بحجم ما تمتلك من الذهب. في عام 1870، لحقت فرنسا والمانيا والولايات المتحدة بريطانيا ثم في عام 1900، تبنت معظم الدول هذه القاعدة باستثناء الصين والمكسيك. على الرغم من الصعوبات التي واجهتها تلك الدول في تطبيق هذه القاعدة، الا انها تمسكت بها و انقذتها من الانهيار في عدة مناسبات لانها ضمنت الاستقرار في التبادل والتجارة فيما بينها. وبقي الحال على ماهو على الرغم من اندلاع الحرب العالمية الاولى في بداية القرن العشرين والكساد العالمي في الفترة 1929-1933، لكن الضربة القاضية لهذا النظام جاءت بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية حيث اضطرت بريطانيا قبلها و خلال الفترة 1939-1942 لبيع كميات كبيرة من الذهب لاميركا وغيرها لتمويل الحرب. عندها اتخذت بريطانيا قرار بالتخلي عن هذه القاعدة لانها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها بسبب انخفاض مخزون الذهب بشكل كبير.
المرحلة الثانية سميت بنظام بريتون وودز نسبة الى هذه المدينة بولاية نيو هامشير في الولايات المتحدة، وهي المكان الذي عقد فيه مؤتمر لمعالجة هذه المشكلة في عام 1944 وتمخض هذا المؤتمر عن تاسيس الصندوق و البنك الدوليين وبدء العمل بنظام جديد لاسعار الصرف بحيث يتم ربط الدولار بالذهب بسعر صرف ثابت ويتم ربط بقية العملات بالدولار الامريكي و تعهدت الحكومات بصرف العملات مقابل الذهب و حرية تصدير و استيراد الذهب حتى لا تتعرض الدول الى التضخم او الانكماش. حيث ان الدول التي امتلكت الذهب بكميات كبيرة تغرضت للتضخم عندما اصدرت ما يوازي الذهب من العملات اما الدول التي لم يكن لديها كميات كافية من الذهب عانت من الانكماش لانها لم تكن قادرة على اصدار العملات بشكل كاف لتمويل الاقتصاد.اتسمت هذه الفترة بارتفاع قيمة الدولار من الولايات المتحدة بسبب ازدياد الطلب عليه وهو مالم يعجب الولايات المتحدة لان العديد من الدول اشترت الذهب من الولايات المتحده مقابل الذهب المرتفع وادى بها الى التخلي رسميا عن هذا النظام في عام 1973. اما المرحلة الثالثة و الاخيرة فلقد اتسمت بالفوضى في اسعار الصرف حيث اصبحت العملات معومه ولا يحكمها اي شيء. و فيما يلي ابرز الملاحظات على تطور الية سعر الصرف:
اولا: اتسمت المرحلة الاولى بالانضباط من حيث احترام الدول لاسعار الصرف الثابتة وعدم اصدار العملات الا في حدود ما تمتلك من الذهب وعندما حصلت اختلالات في اسعار الصرف نتيجة تغير الاساسيات الاقتصادية، سعت هذه الدول الى تصحيحها دون التخلي عن هذه القاعدة من خلال تعديل اسعار الصرف.
ثانيا: المرحلة الثانية كانت بداية المؤامرة حيث اتسمت بالتخبط والتحكم من قبل بريطانيا والولايات المتحدة وادت الى فرض الدولار على العالم كمرجعية لاسعار الصرف و كعملة احتياطية والى بداية تراجع الذهب كمرجعية الامر الذي ادى الى احساس كافة دول العالم بالحاجة للاحتفاظ بالدولار لغايات التبادل و التجارة والدفع. لقد شكلت هذه المرحلة بداية الانحدار الاخلاقي و الابتزاز الامريكي لكافة دول العالم. في البداية كانت الولايات المتحدة، و بحسب الاتفاقية، تقبل تحويل كل دولار قدم لها الى ذهب.
ثالثا: قمة الفوضى والابتزاز حصلت في المرحلة الثالثة عندما تخلت الولايات المتحدة عن نظام بريتون وودز ورفضت تحويل الدولار الى الذهب بعد ان كانت قد اصدرت كميات هائلة من الدولار المنتشر في كافة انحاء العالم مقابل حصولها على الذهب والاصول الحقيقية. والغريب في الموضوع ان كافة دول العالم ومنذ ذلك الحين لم تجرؤ على مواجهة الولايات المتحدة.
رابعا: لم يعد الدولار يشكل خطرا على الولايات المتحدة بعد ان رفضت تحويل الذهب الامر الذي ادى الى اكتنازها كميات كبيرة منه مقابل بيعها كميات هائلة من الدولار ويعتبر ذلك بمثابة سرقة لبقيه دول العالم التي احتفظت باوراق نقدية مقابل بيعها سلعة ثمينة ذات قيمة ذاتية.
خامسا: وهنا تجدر الملاحظة بان كل دولار موجود خارج امريكا يعتبر بمثابة منحة او مساعدة ماليه مقدمة اليها من الدول المحتفظة به لانها دفعت ذهب او اصول حقيقية بالمقابل ولم تعد الدول تستطيع اعادة الدولار المفروض عليها لانها تحتاجه كعملة احتياطية و لغايات ميزان المدفوعات . و اليوم يوجد مئات المليارات الموجودة خارج اميركا ولذلك تعتبر المصدر الرئيسي للمساعدات التي تتلقاها اميركا من الخارج وهي برايي بكثير عن المساعدات التي تقدمها اميركا لبقية دول العالم. فعلى سبيل المثال، بلغ النقد المصدر في عام 2013 (72) مليار دولار، منه في امريكا (24) مليار و (48)مليار خارج امريكا ويلاحظ ان الدولار خارج امريكا يساوي ضعفه في الداخل واستمر هذا الوضع لغاية يمنا هذا. واقول هنا ان المساعدات التي تلقتها امريكا من بقية دول العالم بلغت 48 ملبار دولارحتى نهاية عام 2013.
سادسا: جرى كل ذلك تحت انظار كافة دول العالم و انظار صندوق النقد الدولي و البنك الدولي اللذان من المفترض ان يضمنا الاستقرار النقدي والمالي، وان يدافعا عن مصالح الدول وخاصة الضعيفة منها. و هذا ما يثبت فشلهما في اداء واجباتهما و اشتراكهما في هذه المؤامرة.
سابعا: السؤال المطروح اليوم هو “ماذا يحتاج العالم اليوم لتحقيق العدالة”؟ و الجواب يكمن في ان العدالة وكل العدالة تقتضي الى اعادة كافة دولارات العالم الى موطنها وان على الولايات المتحدة ان تدفع الذهب بالمقابل. يقع على عاتق كافة دول العالم خاصة الصناعية مسؤولية ايجاد بديل للدولار واليورو وغيرهما من العملات. يجب ان لا يصدر هذا البديل عن دولة بعينها لان ذلك يعتبر بمثابة تحويل للثروة لهذه الدولة وانما عملة مستقلة صادرة عن جهة مستقلة، وهو امر شبه مستحيل التطبيق من الناحية العلمية لان امريكا ستعتبر ذلك بمثابة اعلان حرب عالمية ثالثة عليها.
ثامنا: اما البديل، فيمثل في محاكاة التجربة الاوروبية من قبل بقية دول العالم بحيث تحصل تكتلات اقليمية يجمع كل تكتل عملة واحدة تستخدم و تقبل هذه العملة للدفع. وهذا البديل لن يحل المشكلة باكملها لكنه يعيد جزء من الدولارات الى امريكا بالقدر الذي يستغني عنه التكتل من الدولارات. لكنه يعتبر خطوة اضافية بالاتجاه الصحيح. ومن الناحية الاقتصادية، لن يقبل العالم التعامل مع عملات الدول الضعيفة على انها عملات صعبة.
تاسعا: البديل الثاني، ان لا تقبل اي دولة التعامل بالدولار وان تبدي بقية دول العالم الاستعداد التعامل بكافة العملات. وبهذه الحالة سيتم الاستغناء عن كميات اكبر من الدولارات التي ستعود الى موطنها. وسيصبح الدولار مثله مثل بقية العملات. هذا الحل لن تقبله امريكا و ستقاومه بقوة السلاح.
في المحصلة، فانه لا بديل عن الاستغناء عن الدولار لانه يجب على دول العالم ان لا تدعم اميركا وان تدافع عنه، ولا بديل عن العودة الى الذهب و المعادن النفيسه حتى لا تحصل مشكلة عرض وانتاج لهذه المعادن لان مخزون الذهب لوحده لا يكفي لسد حاجات الدول من العملات مغ غياب الدولار. ان كافة دول العالم اليوم تدافع عن دولار امريكا لان كافة الدول تحتفظ به اما على شكل نقدي او استثمارات حقيقية او مالية. فاي استثمار مقوم بالدولار، يعتبر استثمار بالدولار نفسه ولا يمتلك المستثمر الا ان يدافع على هذه الاستثمارات.
الدول الاوروبية اتسمت بالجبن والتواطوء، لقد سلكت الطريق الاسهل من خلال اصدر اليورو بدلا من البحث عن نظام نقدي بديل وعادل، يحفظ مصالح كافة دول العالم وخاصة الفقيرة. الصين اليوم هي المارد القادم وعملتها اصبحت عملة صعبة باعتراف صندوق النقد الدولي و العالم يتغير.
ان اي نظام يؤدي الى عودة الدولار لموطنه هو بمثابة اعلان حرب عالمية ثالثة لانه يمثل اعادة الحق لاصحابه من خلال قيام اميركا بدفع الذهب في المقابل. ان العالم اليوم يتبدل باستثناء الدول العربية التي تقف موقف المتفرج و المتلقي، حتى ايران اخذت موقف ينم عن استقلال وسيادة في قرارها عندما فكت ارتباط نفطها بالدولار، اصحو يا عرب، الى متى نستمر في دعم امريكا!
يتبع في الجزء (2)
الخبيرالمالي و الاقتصادي
د.مروان الزعبي
جامعة الزيتونة الاردنية

قد يعجبك ايضا

تعليق 1

  1. هناء جرادات يقول

    مقال رائع، بوركت جهودك دكتور مروان

التعليقات مغلقة.