«سودنة» الفكرة الشيوعية / د. مدى الفاتح
د. مدى الفاتح ( السودان ) الخميس 6/9/2018 م …
في السودان، كما في غيره من بقاع العالم الإسلامي، لم تجد الفكرة الشيوعية منذ بداية تسربها حاضنة شعبية ذات شأن، رغم الرعاية والاستثمار الهائل الذي حظيت به الأحزاب والمجموعات الشيوعية من قبل ما كان يعرف بالمعسكر السوفييتي.
مع أن الحزب الشيوعي السوداني يعد من الأعرق على مستوى المنطقة، إلا أن الخطاب الماركسي لم يستطع أن يغرس نفسه في التربة الاجتماعية السودانية، رغم النجاحات التي حققها بعض المنتسبين إليه في عالم السياسة. نجاحات ظلت شديدة التواضع مقارنة بالزخم والانتشار والإقبال الذي وجدته على سبيل المثال أدبيات جماعة «الإخوان المسلمين»، التي استطاع المتحمسون لها في ظرف تاريخي وجيز، وباستفادة غير منكرة من طريقة عمل المجموعات الشيوعية، أن يحققوا امتدادات متصاعدة عابرة للطبقات الاجتماعية، بل إن انتشار الجماعات الدعوية ذات المرجعية السلفية التي أتت في وقت لاحق، يعد أيضاً مثالاً على القوة الناعمة التي تملكها بعض الأفكار، والتي تؤهلها للانغراس في بيئات معينة ببساطة وسلاسة.
أدرك دعاة الشيوعية الأوائل في تحليلاتهم لعقبات الانتشار، أن هناك إشكالاً بنيوياً مرتبطاً بحركتهم، وهو المتمثل في نقطتين رئيستين هما، أولاً، الصفوية واللغة شديدة التعقيد التي تميز الكتابات الماركسية. والثاني، هو الفكرة المترسخة عند أغلب البسطاء من كون الشيوعية ليست سوى إحدى حركات الكفر المعادية للأديان، وهي النقطة التي سوف تركز عليها لاحقاً الأحزاب الدينية المنافسة من أجل تنفير المواطنين منها.
مدركين لكل ذلك عمل الشيوعيين الأوائل باجتهاد على تبسيط الفكرة الشيوعية وتصويرها للعامة، على شكل ثورة ضد الظلم، أو على أنها مجرد نظرية اقتصادية تساوي بين الناس في الدخل والفرص. بهذا الطريق الذي يختزل النظرية الماركسية في البحث عن حقوق العمال، استطاعت الشيوعية أن تتقرب من النقابات العمالية، وأن تجد بعض الاستحسان عند الشرائح الاجتماعية الضعيفة أو التي تحس بالغبن والتي كانت ترى في تقدم الشيوعية انتصاراً لها.
إلا أن كل ذلك لم يكن كافياً لتمهيد الطريق، فقد واجهت الشيوعيين عقبة أخرى تمثلت في موقفهم من الدين، وهي عقبة كبيرة بالنظر، ليس فقط للمنافسة التي يجدونها من قبل السياسيين أصحاب الطرح الإسلامي، ولكن أيضاً لطبيعة التدين الشعبي، الذي يتميز به السودانيون، والذي يمثل فيه التصوف والارتباط بالشعائر الدينية، المبتدعة أو الأصيلة، جزءاً من الشخصية السودانية.
من هنا تبنت رموز التيار الشيوعي خيار الحديث عن ماركسية متصالحة مع الدين، ومع القيم السودانية، وبدأ بعض المنتمين للحزب الشيوعي يزايدون على غيرهم من الأحزاب في تدينهم أو تصوفهم. كان لهذا الاتجاه بعض الآثار الإيجابية التي ميّزت الشيوعيين السودانيين، كاتفاقهم على احترام العادات والتقاليد الإسلامية، حيث نلاحظ أنه لم يحدث، إلا في حالات قليلة، أن أساء أحد قادة أو رموز الحزب للإسلام، أو سخر من شعائره علناً، أو على وسائل الإعلام، كما كان يحدث في دول أخرى. حتى في احتدام المنافسة مع الأحزاب الإسلامية فقد كان الشيوعيون يحذرون من تقديم خطاب يتم استغلاله على كونه معاديا للدين جملة.
كان من الجيد طبعاً أن «يتدين» الشيوعيون السودانيون، وأن يظهروا احترامهم للثقافة الغالبة السائدة، لكن الإشكالية الجديدة تمثلت في السؤال الفلسفي التالي: إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الماركسية السودانية جزءاً من الماركسية، وإذا كان الموقف من الدين والمجتمع مغايراً بالكلية، فلماذا لا يتم التوافق على اسم جديد أو على تنظيم ينأى بنفسه عن الشيوعية العالمية؟
ولّد هذا التساؤل انشقاقات وانقسامات أفرزت كيانات جديدة بأسماء مختلفة، وقد كان هذا مفيداً لجهة الخروج من المأزق الأبدي الخاص بالعلاقة مع الدين، كما كان مفيداً لخوض غمار المنافسة السياسية بروح جديدة، وبدون تحمل تبعات الماضي، مع هذا فإن مجموعة راديكالية ظلت محتفظة بالاسم والتراث الشيوعي والماركسي القديم الذي لم ترض له بدلاً.
يمكن اعتبار الزعيم الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نُقُد (1930- 2012) الذي كان ضمن المجموعة الراديكالية المذكورة آنفاً جزءاً من تلك «السودنة» التي نعنيها، وهو ما يجعلك لا تستغرب حين تعلم أنه صلّى إماماً ذات يوم بالسيدين الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني، رمزي الطائفية الدينية الأشهر، إبان ترافقهم في معتقل سياسي. يتضح هذا أيضاً حين تقرأ بعض كتابات نُقُد البحثية ككتابه عن «علاقات الرق في السودان»، وأول ما يلحظه القارئ لهذا الكتاب هو أن كاتبه الشيوعي لم يكن مهووساً بإثبات النظرية التاريخية الماركسية، التي تفرض أطواراً حتمية على التاريخ البشري، حيث بدا وكأنه يتجاهلها، رغم كونها تشكّل أحد الركائز المهمة للفكرة الشيوعية. الملاحظة الأخرى هي دفاعه المستميت عن الدين الإسلامي ورده على محاولات الغربيين إلصاق تهمة تشجيع الرق به، حيث يسهب في توضيح موقف الإسلام الإيجابي من الرق، وحثه على العتق وعلى المساواة بين البشر، كما لم يفوت فرصة بدون أن يفضح النفاق الغربي والجرائم التي ارتكبها مدعو الحضارة ضد الأفارقة وغيرهم.
في عام 1971 أقدمت كوادر شيوعية متحمسة على مغامرة انقلابية ضد حكم الرئيس جعفر نميري. كان الحزب الشيوعي الذي حظي بموقع متقدم في سنوات حكم الرئيس نميري الأولى هو الضحية الأكبر للانقلاب الفاشل الذي لم يكد يستمر لأكثر من يومين قبل أن يسقط بشكلٍ مروع لتبدأ بعد ذلك عملية غير مسبوقة هدفت لتجفيف الحزب بشكل كامل.
كان الزعيم الشيوعي اللامع آنذاك عبد الخالق محجوب من أبرز من تم إعدامهم وقد مثّل إعدامه ضربة مهمة للتيار اليساري عامة، حيث كان يتميز بشخصية كاريزمية تمتلك رؤية ومواقف عميقة، من بينها ما نحن بصدده من محاولات لتلوين الشيوعية، بحيث تصبح أكثر اقتراباً من الوضع السوداني. من وجهات النظر الجديرة بالبحث تصوير تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة كشرك مخابراتي تمت حياكته بنجاح، من أجل الإيقاع بهذه الرؤية قبل أن تتمدد. تذهب نظرية المؤامرة التي تستند إليها هذه النظرة لما هو أبعد من ذلك، فترى أن أصابع الاتهام يجب أن لا تتوجه فقط للمعسكر الغربي، الذي كان من الرابحين بعد هذا التجفيف، ولكن أيضاً للشيوعية العالمية التي لم تكن راضية عن أداء مجموعة عبد الخالق وخطابها، الذي يحاول تجاوز التعريفات الدوغمائية للماركسية اللينينية.
أياً كان الأمر، فإن من المهم التذكير بأن محاولات خلق «توليفة» بين الدين الإسلامي والشيوعية أو صنع ما يشبه «إعادة التوطين» لهذه الأفكار، ليست تجربة خاصة بالسودان، بل هي مما ينتشر في عدد من البلدان. يمكننا هنا أن نستحضر على سبيل المثال مشروع المفكر الإيراني علي شريعتي، الذي حاول الجمع بين الشعلة الثورية التي تحملها الأفكار الاشتراكية والجانب العقدي الإسلامي خاصة الشيعي. بهذا الجمع وافق شريعتي كارل ماركس في قوله أن «الدين أفيون الشعوب»، مع تعديل بسيط يتمثل في ما رآه من أن الأمر ليس على إطلاقه، لكنه قد يكون صحيحاً في حالة الشيعة، الذين يقللون من شأن أنفسهم حين يؤمنون بأن لا حول لهم ولا قدرة على التغيير أو التأثير، لأن الأمر كله بيد إمام غائب.
التعليقات مغلقة.